ما زال الكثيرون يجادلون في مسألة غياب النضج السياسي والقانوني الذي حكم كتابة الدستور
العراقي عام 2005 وما أنتجه هذا الغياب من نص دستوري مهلهل، لكن متابعة الطريقة التي تصاغ بها القوانين منذ تلك اللحظة إلى اليوم، تكشف أننا لا نزال نراوح مكاننا، إن لم يكن ثمة نكوص، وما زلنا عند لحظة عدم النضج تلك!
يناقش
مجلس النواب العراقي، في هذه الأيام، مسودة مشروع قانون
انتخابات معدل، في تكريس لتقليد أصبح راسخا كما يبدو، هو أن تجري كل انتخابات في العراق، وفق قانون جديد أو معدل، لكن المفارقة، هذه المرة، أن القانون الذي يراد تمريره هو تعديل ثالث لقانون شُرِّع عام 2018، وجرى تعديله مرة أولى وثانية في العام 2019، دون إجراء أي انتخابات بموجبه! وهذه المفارقة تعكس حقيقة، أنّ القانون بالنسبة لكارتل السلطة في العراق لا يمكن تعريفه بأنه قاعدة عامة مجردة، بل هو اتفاق سياسي يعكس علاقات القوة في مجلس النواب لحظة إقراره، ويعكس طبيعة التفاهمات بين الفاعلين السياسيين، لأن الغاية الجوهرية من قوانين الانتخابات ليست ضمان التمثيل الحقيقي، أو النزاهة أو الشفافية أو العدالة، بل ضمان مصالح الفاعلين السياسيين بإعادة إنتاج أنفسهم!
في مسودة القانون المقدم، نقرأ في الأسباب الموجبة أنه جاء «تنفيذا لقرارات المحكمة الاتحادية بالعدد 43/اتحادية/ 2021) و (159/ اتحادية/ 2021) و (103/اتحادية/ 2019)». وبالعودة إلى هذه القرارات، نجد أن القرار الأول يتعلق بعدم دستورية ثلاث فقرات وردت في قانون انتخابات مجلس النواب لعام 2020 تتعلق بمقاعد «كوتا» المكونات، وهذه الفقرات تنص على ما يأتي: «المكون اليزيدي (1) مقعد واحد في محافظة نينوى» و «المكون الشبكي (1) مقعد واحد في محافظة نينوى» و«مكون الكرد الفيليين (1) مقعد واحد في محافظة واسط». وحيث أن «النصوص المذكورة لا تمنح المكونات المذكورة تكافؤ الفرص فان ذلك يخل بمبدأ المساواة»!
الطامةُ، هنا، أن نص التعديل القانوني المقدم يضرب بقرار المحكمة الاتحادية عرض الحائط، ويكرر الفقرات نفسها التي وردت في قانون انتخابات العام 2020!
أما القرار الثاني فقد تضمن فقرة تقول: «وتجد هذه المحكمة بوجوب حصول تدخل تشريعي من قبل مجلس النواب القادم لتعديل قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم 9 لسنة 2020 واعتماد نظام العد والفرز اليدوي بدلا من العد والفرز الإلكتروني»! مع أن المحكمة الاتحادية ليس من اختصاصاتها وليس من صلاحيتها أن تتدخل بهذا الشأن من الأصل.
فمسودة القانون أشارت إلى اعتماد «أجهزة تسريع النتائج الإلكترونية» أولا، ثم إجراء «عملية العد والفرز اليدوي لأوراق الاقتراع» وأنه «في حالة عدم تطابق نتائج العد والفرز الإلكتروني مع نتائج العد والفرز اليدوي، تعتمد نتائج العد والفرز اليدوي»! والسؤال هنا إذا كان سيتم إجراء عد وفرز يدوي، وأن نتائج هذا العد والفرز هي التي ستعتمد في النهاية، فلماذا الذهاب إلى إجراء عد وفرز إلكتروني من الأصل؟ ولماذا الذهاب إلى «التعاقد مع إحدى الشركات العالمية الرصينة ذات الخبرة بالاختصاص التكنولوجي ولديها أعمال مماثلة لفحص برمجيات أجهزة الاقتراع (أجهزة تسريع النتائج) والأجهزة الملحقة بها»! إذا كان العد والفرز اليدوي هو الحاسم في النهاية؟ لا يمكن فهم هذا العبث إلا إذا عرفنا أن قيمة العقد مع شركة ميرو الكورية الجنوبية الموردة لهذه الأجهزة بلغت أكثر من 135 مليون دولار في الانتخابات الأخيرة، وأن قيمة العقد مع شركة «هنسولدت» الألمانية لفحص البرمجيات بلغت بضعة عشرات ملايين دولار أخرى، فلماذا كل هذه المبالغ؟ أم هناك أطراف مستفيدة من عمولاتها من هذه الصفقات؟
والقرار الثالث للمحكمة الاتحادية فقد حكم بعدم دستورية المواد 3 و 12 و 16 و 17 من قانون التعديل الأول لقانون انتخابات مجالس المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 12 لسنة 2018؛ وبالعودة إلى هذه المواد نجد أن المادة 3 كانت تتعلق باشتراط القانون على الناخب أن «يمتلك بطاقة انتخابية محدثة بايومتريا طويلة الأمد» ليمارس حقه في التصويت، فيما تتعلق المادة 12 بسجل الانتخابات في محافظة كركوك، فيما ارتبطت المادة 16 بتخصيص مراكز انتخابية للمهجرين والنازحين في محافظات دون غيرها، وارتبطت المادة 17 بالزام الحصول على بطاقة الناخب البايومترية طويلة الأمد.
والفضيحة هنا أن مسودة التعديل الجديد أبقت المادة المعترض عليها كما هي؛ فقد نصت المادة في مسودة القانون على أن «يمتلك بطاقة انتخابية محدثة بايومتريا طويلة الأمد» مع أن تدخل المحكمة الاتحادية بهذا الشأن غير مسوغ تماما، فهذا الإجراء تنظيمي ولا علاقة له بحق الاقتراع نفسه! كما أنه لم يتم الالتفات إلى المادة 12 التي وردت في قرارا المحكمة الاتحادية! أما المادة 16 فقد تم تعديلها وفقا لقرار المحكمة الاتحادية في المادة 10 من المسودة، لكن الفضيحة هنا أنه وردت إشارتان إلى المادة 16، الأولى في المادة 7 من المسودة التي تحدثت عن تعديل المادة 16 في القانون، ثم في المادة 10 التي تحدثت عن إلغاء المادة 16 ليحل محلها نص آخر! أما المادة 17 فلم يتم الالتفات إليها مطلقا!
ما الذي تقوله هذه الوقائع الغريبة! الجواب أن هذه المسودة «سُلِقت» لغايات سياسية لا علاقة لها بتنفيذ قرارات المحكمة الاتحادية الباتة والملزمة للسلطات كافة، بدليل أن لا أحد التفت إلى ما ورد في هذه القرارات من الأصل، وإنما تم استخدمت للتحايل بالقول إن تعديل القانون جاء إنفاذا لقراراتها، وهو ما يعكس ليس استخفافا بالمحكمة الاتحادية وحسب، بل يعكس استخفافا بالشعب نفسه! وثانيا أن الغاية الحقيقية من هذه المسودة تنحصر في قضية واحدة، وهي العودة إلى نظام التمثيل النسبي وقاعدة سانت ليغو المعدلة لتوزيع المقاعد البرلمانية (التقسيم الأول على 1.9 بدلا من 1.7 التي اعتمدت في قانون العام 2018) والغاية من ذلك هو منع التيار الصدري من الحصول على المقاعد التي استطاع الحصول عليها في انتخابات العام 2021 .
إن ما يحدث في العراق تجاوز العبث بكثير، فالقانون لا يعدو في عرف الطبقة السياسية كونه اتفاقا بينهم يعكس علاقات القوة داخل مجلس النواب لحظة تمريره، والفاعلون السياسيون مؤمنون بفكرة من سبقهم بأن القانون مجرد سطر يكتبونه وسطر يمسحونه متى شاؤوا ذلك، تبعا لمصالحهم ورغباتهم ونزواتهم وحتى استثماراتهم في المال العام!
(القدس العربي)