فجر يوم الاثنين السادس من شباط/ فبراير ٢٠٢٣ لم يكن كأي فجر يوم
شهدَه أتراك وسوريون منذ قرن ونيِّفٍ من زمان حافل بالكوارث.. فجرُ يومٍ زُلزلَت
فيه الأرض وزَلزَلَت الأرضُ مَن عليها، وامتد غضب الطبيعة: "من مرعَش إلى
حماة، ومن انطاكية إلى حلب، ومن أَضَنَة وغازي عنتاب إلى اللاذقية، ومن أُورفة إلى
إدلب"، غضبٌ راكمَ العمرانَ على رؤوس أناس نَسَل مَن نَسَلَ منهم من بين
الأنقاض، كما ينسل الأموات من الأجداث يوم الحشر، هلعين يلاحقهم الرعب ويفجعهم
الوقت بمن هلك منهم وبما ملكوا.
منذ فجر الهول الرهيب ذاك، وعلقمُ الكارثة يتكاثف في الحلق، والبصر
والسمع يُراكمان الصورَ والأصوات ومشاهد الذعر والبؤس والدمار في مخزن الذاكرة..
مشهداً بعد مشهد يُخْتَزَنُ الهولُ ويُمِضُّ الألمُ وتَكْبُرُ الفاجعة، ويفترس
العجزُ الناسَ في البلدين الجارين ويساكنهم القلق، ويشعرون باليأس يزحف عليهم..
واحد أنا منهم وفيهم، يزلزلني كما يزلزلهم وجود الأحياء تحت الأنقاض، وتلفحنا
جميعاً نارُ المعاناة، ونتحول حسرة على الضحايا، وحسرة على ذويهم الذين ينظرون
وينتظرون في العراء، وحسرة بشر على البشر، وشعب على الوطن، وأمة على أبنائها
وعمرانها وحضارتها.. ويحاصرنا العجز والقهر والموت، ولا مهرب من الحدث الرهيب إلا
إلى ما ينذر به مما هو أصعب وأرهب.. إذ كيف يهرب المرء من كارثة تكبر، ومن عشرات
الملايين سالت بهم الأرض يبحثون عن مأوى ومستقبل، ومن أحياء ينتمي إليهم وينتمون
إليه بأكثر وشائج القربى وأكثر الصلات والعلاقات، ويشترك معهم في الشرط الإنساني
والمصير الإنساني.؟!..
آلاف من جثث الصغار والكبار، من النساء والرجال الذين وافتهم المنية تحت ركام بيوتهم.. يراهم العالم يُسحَبون من تحت هَبيط رمل وحديد وينقلون ليواروا في اللحود زرافات ووحداناً.. ولا حول لذويهم ومحبيهم ومنقذيهم ولا قوة إلَّا بالله الذي يتضرعون إليه ويسترحمونه على من يمضى إلى رحابه..
مع الساعات الأولى للحدث الرهيب كان كل من الأحياء القادرين ومن لديه
مسؤولية وضمير وحس إنساني وأخلاقيّ وطاقة وحمية ونخوة ورحمة.. يعملون بجهد جهيد
وعزم شديد ويصبرون ويُصابرون.. "الناس للناس، خلايا، ولا خلايا النحل، من
المنقذين المتخصصين والمسعفين والأطباء وغيرهم ممن له دور ودُربة وقدرة، خلايا من
البشر تصل الليل بالنهار تعمل عملاً شاقاً في العتمة والصقيع وتحت الخطر، لتخرج
حياً أو ميتاً من تحت ركام المباني التي انهارت على ساكنيها.. والكل انتظار.
مُسِنَّة في الثمانين من العمر تلخص مواقف أمثالها من نساء ورجال، عيناها
بِرْكَتان من دمع ودم، تبكي أولادها وأحفادها الذين مازالوا تحت الردم، تشهق
وتلفُق ومن لسانها يطفر الحزن وتئنُّ أنين ذاتِ البَوِّ".. لن ينهض منهم أحد،
لن يصل إليها وإلى جدهم الضرير من الأحفاد أحد يحمل الماء والزاد، ولن تكحل عينيها
برؤيتهم بعد اليوم.. تلوج وتروج وتتسمر فوق ركام بيتهم، وتُصر على أن تُرابط في
الخراب لتراهم حين ينتشلونهم من تحت الردم.
يخيم الصمتُ الرهيب على الأمكنة، ويتمترس القنوطُ في الأفئدة: "لا
صرخة، لا صوت، لا نأمة حياة.."، وتكفهر الوجوه، وتتقطَّع نياط قلوب، وتدمع
أعين.. والعمل جارٍ بكل الطاقة، وفي القلوب إيمانٌ وأمل، وحب للإنسان والأوطان
يدفع العاملين لكي يُنجِزوا ما يُعْجِز، وما يبقي على حياة وينقذ أحياء ينازعون
الموت سلطته القهارة لتنتصر الحياة.. بأظفارهم وسواعدهم وأدواتهم وبكل ما يملكون
من قوة وإيمان بحق الإنسان في الحياة، وبانتصار الأمل على اليأس.. يتصدى بشرٌ
للردم.. ويخرجون من تحته جثة، بعد جثة، بعد جثة.. آلاف من جثث الصغار والكبار، من
النساء والرجال الذين وافتهم المنية تحت ركام بيوتهم.. يراهم العالم يُسحَبون من
تحت هَبيط رمل وحديد وينقلون ليواروا في اللحود زرافات ووحداناً.. ولا حول لذويهم
ومحبيهم ومنقذيهم ولا قوة إلَّا بالله الذي يتضرعون إليه ويسترحمونه على من يمضى
إلى رحابه.. فأَخْشعُ وأَدْمعُ وأَقْرأ: (وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا
خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ
ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ
أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا
كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ) (94) - سورة الأنعام.
أتَكَوَّمُ عليَّ، وينسدل أمامي ستار قاتم مديد يجلْمِدُه الصقيع
وتنفخ فيه الريح، وأسائل ذاتي عن قدرتي وقدرة الناس أمام تحدي الطبيعة وقدر
القدرة، ويغزوني ألمٌ مُمِضٌّ.. فجأة.. تُصَدِّعُ الصمت الكئيب والحزن والهولَ
والألمَ والعجز واليأسَ فرحةٌ يعلنُها التهليلُ والتكبير.. لقد انتصرت حياةٌ على
الموت، أُخرِجَ رضيعٌ من تحت الرَّدم حيَّاً بعد أيام من بؤس ويأس. يا الله.. لكل
أجل كتاب: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) - سورة لقمان. تشمخ
العظة، ويتعظ العقل، ويدمع القلب، ويردِّد اللسان: "لا يَقنطَنْ أحدٌ من رحمة
الله"، وأَقرأ: (إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ
مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ
فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ) (95) - سورة الأنعام.
في إبان الكارثة التي أحدثتها الزلزلة قرأت ما أرَّقني وحيرني كيف
أصنفه وعلى أي وجه أحمله.. قرأت عن شخص "أنه يشعر بالتقزز من فرح ينطلق
بإنقاذ طفل سوري في الخامسة من عمره"؟!.. أياً كان الإنسان فهو يشترك مع
الإنسان فيما يستوجب الإحسان والإنصاف. وأياً كان العداء بين المتعادين المتقاتلين
فيجب ألا يمنع طفرة الرحمة والتعاطف الإنساني من أن تظهر وتبلغ مداها، حين تلم
بالأبرياء في أحد طرفي العداء كارثة.؟!
أحياناً أجدني عاجزاً عن فهم وتفهم موقف الإنسان، وقبول ما يصدر عن
بعض الناس. وحين أجد ذلك ملازماً لأنفس بشرية في عداوات ونزاعات وصراعات وحروب
أتساءل: أليس هذا الملازم لتلك الأنفس أعجب من أعاجيب الدنيا المادية، حيث يسكنها
ويهلكها ويفتك بها ومع ذلك تُقبِل عليه وتكتوي بناره وتستمر بالارتماء والاكتواء
فيها.؟! أتُراه يكمن في طبيعة بشرية، أم هو خصوصية عرقية، أم حالة ظرفية تفرضها
معطيات وتطرفات ومواقف ونزوات، أم هو حكم وحكمة ومصداق قوله تعالى.. (وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ
اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)- الآية251 من سورة البقرة.
في الحروب يَشْمَت الغالبون بالمغلوبين، ويبتهجون بانتصارهم بعضهم
على بعض، رغم أنهم يغرقون في الدم والدمار، ويدفعون تكاليف باهظة في الأرواح
والعمران وقيمة الإنسان وقيم الحياة.. ويرفعون شأن قتلاهم إلى الشهادة وما فوق
الإبادة، ويُزْرون بإنسانية أعدائهم، وتراهم في مشهدين مختلفين على ضفتي بحر
الدماء، متعادين مكابدين متحاقدين متكايدين، في مشهدين عجيبين في التَّضاد
والعناد.. يعيشون الكوارث والمآسي ويعانون منها أشد المعاناة، ومع ذلك يتوعد كل
منهم الآخر بها.. وينتقل حالهم هذا إلى أحوالهم في المآسي والكوارث التي تصيبهم
جراء الكوارث التي تسببها الطبيعة؟! فما الذي يجعل بشراً تطحنهم كوارث الطبيعة،
وتسبب لهم ما يفوق الاحتمال والوصف من الآلام والمآسي ويشتركون في المصاب
والمصير.. ما الذي يجعلهم يتماوجون بين المشهدين المتعاديين المتضادين، ولكل منهم
وجه وقناع، ولبعضهم قلوب من صوان يتأكلها الحقد؟! أهذا كامن في طبيعة البشر يا
تُرى؟!
يتمايز البشر حين تحدث كارثة طبيعية وتتسبب بمآسٍ إنسانية في أزمنة وأمكنة، وحين تتراكب الكوارث على الكوارث ويفنى البشر ويُدمر العمران، ويدعو داعي الخير إلى العمل الإنساني وإنقاذ الأرواح وإعادة الإعمار وحماية المنجز الحضاري للبشر في مجال من مجالات الحياة..
لقد رَجَّتْ هذه الكارثةُ أَنفُساً بشرية في كثير من بلدان العالم،
وأيقظت حساً إنسانياً دفع دولاً ومؤسسات دولية وخيرية وجماعات وأفراداً إلى نجدة
المنكوبين، فقدمت أكثر من مئة دولة مساعدات عاجلة، وما زالت هناك وعود بالمزيد،
وآمال بإنصاف منكوبين لم يصلهم من تلك الطفرة الإنسانية ما يساعدهم على إنقاذ
أرواح ومواساة جراح.
وكل هذا العون الذي قُدم وسيُقدم يستحق الشكر والتقدير، ونأمل
أن يُحدِث تغييراً يطال القريب والبعيد من الأمور.. يطال الأوضاع المأساوية الراهنة
التي يعيشها الناس في المنطقة منذ سنين، جراء صراعات دامية، وحروب مدمرة، ومظالم
قائمة، وحصار قاتل، واحتلال فادح، واختلال موازين عدل ومساواة، وفِتن مستشرية،
وانتشار فساد وإفساد مما أرهق عباداً ودمر بلاداً.. وأن يطال، بدرجة أعم وأشمل
وأعمق، مواقف دول وتحالفات وساسة وسياسات، وما تلحقه بالبشر من كوارث تعادل أو
تفوق الكوارث الطبيعية، من جراء الحروب والصراعات.. وخدمتها وما تقدمه للأمن
والسلم، للجوع والفقر، للصحة والتربية والتعليم، للتسامح والتصالح على المستوى
العالمي الشامل، ونظرتها إلى العادل والإنساني والقيمي والأخلاقي من جهة، وما
تقدمه من أموال وطاقات وإمكانيات للحروب والصراعات المدمرة للبشر والقيم والحضارة
من جهة أخرى.
في اليوم العاشر من الزلزلة، أعلنت الأمم المتحدة عن حاجتها الملحة
لمبلغ ٣٩٧ مليون دولار لمساعدة المنكوبين في شمال غرب سورية، وعن الحاجة إلى مليار
دولار لمساعدة المنكوبين في
تركيا، ودعت المانحين لتقديم مساهامتهم. ويضعنا هذا
أمام الوقائع الراهنة التي تفوق التصور، لنسأل: كم مئة مليار دولار دفعت الدول
المشتبكة في الحرب الدائرة منذ عام في أوكرايينا، وبأية سرعة فعلت ذلك؟! وكم من
المليارات ستدفع حتى نهاية هذه الحرب المجنونة التي تقتل الإنسان، وتدمر العمران
والحضارة والقيم.؟! وكم ستكون القيمة المُضافة على ما دُفع ويُدفَع من مئات
المليارات من الدولارات على هذه الحرب، مما لا يقدَّر بمال، أي من أرواح وجراح
ومعاناة بشرية لملايين الناس، هذا عدا الدمار الهائل، ليشعر كل فريق بالفخر والنصر
عندما يدمر أكثر، ويقتل أكثر، ويصبر على البلوى أكثر.؟! وفي أي باب من أبواب الفخر
البشري يدخل هذا الصنف من الجنون الذي يحتفي به التاريخ ويكتبه انتصارات لهذا
الفريق أو ذاك، ويؤسس به لحروب وكوارث تتناسل وتتكاثر كرؤوس الشياطين؟!
يبذل أناس بسخاء عجيب على القتل والتدمير والشر، ويبذرون الأنفس بذلك،
ويعبدون الدروب، ويتبارون في الميادين.. ويبخلون في البذل على الخير ومساعدة
المنكوبين، ويحرقون حقول الخير ويغلقون أبوابه ودروبه..؟!!
يتمايز البشر حين تحدث
كارثة طبيعية وتتسبب بمآسٍ إنسانية في أزمنة وأمكنة، وحين تتراكب الكوارث على
الكوارث ويفنى البشر ويُدمر العمران، ويدعو داعي الخير إلى العمل الإنساني وإنقاذ
الأرواح وإعادة الإعمار وحماية المنجز الحضاري للبشر في مجال من مجالات الحياة..
فترى دولاً غنية، وفاحشي ثراء، ونهابي ثروات شعوب، يتمغَّصون ويتذمرون ويترددون
ويتلكَّؤون قبل أن يقدموا عشرات ملايين الدولارات لإنقاذ أطفال وشيوخ ونساء
تحطحنهم الكوارث.. وترى دولاً فقيرة وفقراء يجودون بما يملكون ويقدمون وبهم خصاصة
ليخففوا من معاناة المنكوبين.. هؤلاء بشر وأؤلئك بشر.. ولله سبحانه وتعالى في خلقه
شؤون وشؤون.
رحم الله ضحايا الزلزلة أمواتاً وأحياءً، وهدى الناس إلى ما ينفع
الناس. والحمد لله رب العالمين.