في كل المبادرات التي أطلقتها القوى الغربية تجاه الجغرافيا العربية الإسلامية، خلال العقود الأخيرة، كان القاسم المشترك بينها هو العناوين البرّاقة لتمويه الخلفيات الاستعمارية المرتبطة بتكريس حالة الهيمنة واستغلال البشرية لخدمة مصالحها، حتى لو اضطرّت إلى تحيين خططها وفق التحولات الكبرى.
لا نزال نذكر مشروع الشرق الأوسط الكبير (الجديد في نسخة أخرى)، الذي جاءت به إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، عام 2004، بعنوان الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لمساعدة المنطقة على الخروج من وضعها المتأزم، لكن الحقيقة لم تكن سوى استباق الانفجارات المتوقعة بما يتوافق مع الرغبة الأمريكية ويؤمّن مصلحة إسرائيل وأمنَها.
ولاحقا خرجت علينا إدارة ترامب بـ”صفقة القرن” الواهية، لاحتواء “النزاع الإسرائيلي الفلسطيني”، كما يصفونه كذبا وبهتانا، حيث راهن الرئيس الذي يفكر بمنطق رجل الأعمال على إغراء الفلسطينيين و”دول الطوق” بدعم اقتصاداتهم، عبر صندوق استثمار عالمي، لكن المرابطين في أكناف بيت المقدس أسقطوها في مهدها عام 2019.
ولم تيأس إدارة البيت الأبيض المتصهينة من الوصول إلى مبتغاها، فطرحت مجددا صيف 2020 ما يسمّى “اتفاقات أبراهام” لتوسيع دائرة التطبيع بين ربيبتها إسرائيل ودول عربية، لكن لم تتبعها سوى
الإمارات والبحرين والمخزن، خاصة بعد الوقفة التاريخية للجزائر في وجه الهرولة.
ما يهمنّا أكثر بخصوص “اتفاقات أبراهام” هو اختيار اليافطة بعناية فائقة، ضمن مخطط متكامل ستظهر فصوله الأخطر في فترة لاحقة، بنسبة تلك المعاهدات إلى إبراهيم، أبي الأنبياء، عليه السلام، باعتباره شخصية جامعة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، تمهيدا لتنفيذ الخطة التدميرية في حق المسلمين باسم “الديانة الإبراهيمية” المزعومة.
والآن وصلنا إلى المرحلة الحاسمة بعد ما جرّ المشروع الأمريكي الصهيوني الأدوات العربية لقيادة الحرب الحضارية على الأمة، والتي تعود جذورها إلى عام 1985، عندما طرح لأول مرّة، الرئيس الأسبق جيمي كارتر، مصطلح “المشترك الإبراهيمي”، والذي سيتطور خلال أربعة عقود من الدراسة المعمّقة في دهاليز الخارجية الأمريكية، ويرسم له دهاقنة الإستراتيجية الأدوات الناعمة للتنفيذ على الأرض، وأبرزها “مسار الحج الإبراهيمي”، ومسار “فرسان المعبد”، و”الولايات المتحدة الإبراهيمية”، لأجل بسط السلام الديني العالمي، على طريقتهم الاستعماريّة، بـ”التركيز على المشترك بين الديانات والتغاضي عما يمكن أن يسبّب نزاعات وقتالاً بين الشعوب”، مثلما تعلنه الأهداف الظاهرة.
ومن دون الخوض في البعد الاعتقادي الأصولي المحسوم لدى المسلم، في كوْن الإسلام وحده الدين الحقّ ومحمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والرّسل، وما سوى ذلك فهو باطل لا يجوز الانخراط فيه، فإنّ الباحثة المصريّة، هبة جمال الدين العزت، صاحبة كتاب “الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي”، تؤكّد أن المشروع مخطط استعماري للقرن الجديد، وهو “مجرد طرح بديل لأفكار فرانسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون، يحمل نفس الغاية الصدامية التي تُعلي من هيمنة الغرب وتحقيق مصالحه بالأساس”.
وتشرح المؤلفة فكرتها بالقول إنّ هدف “المشترك الإبراهيمي”، هو خلق ولاءات جديدة لإزالة الحدود والانتماءات، وترسيخ مفهوم “المواطن العالمي” ليكون ولاؤه غير مرتبط بالأرض، وإنّما تحت مدخل محبّب ومقبول للنفس، ألا وهو “المشترك الروحي”.
كما يقول الكاتب هاني طالب، في دراسة نشرها مركز دراسات الوحدة العربية، إنّ “مصطلح الديانة الإبراهيمية في طياتها معانٍ مقبولة، مثل التعايش والسلام، ولكن استعمالها إنما هو تمريرٌ للمعاني الباطلة، التي تتمثل بأهداف مروّجيها بتمزيق مكوّنات وروابط الهوية الإسلامية والعربية لدول المنطقة، وبالتالي تيسير السيطرة والتحكّم بها وبشعوبها لصالح إسرائيل”.
أي أنّ الهدف النهائي للمخطط هو “تغييب التناقض الوجودي بين المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني العنصري وبين الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني والعربي عموماً في المنطقة”.
لذلك لا غرابة أن تكون الجهات العربية المبادرة بالتنفيذ العملي للمشروع الصهيوني، هي نفسها تلك المتآمرة جهارا نهارا لتصفية القضية الفلسطينية وتحييد الإسلام عن حياة الأمة، على أمل أن تنهض قواها الحيّة لوقف المسار.
(الشروق الجزائرية)