«ماذا
تعني كلمة أيون.. لأن أيون كما درستها في علوم الكيمياء تعني ذرات عناصر معدنية
فقدت إلكترون»، هكذا كتب لي أبي بعد أن جاوبت سؤاله بـ«أيون حصل»، واختصارا للوقت
والمجهود اتصلت بأبي أوضح له الإيفيه السينمائي المرتبط بلفظة «أيوة» وتغييرها
لتكون «أيون»، لم يكن مضحكا بالنسبة له، بل كان سببا ليتحسر على الماضي وأناقته،
بينما نعبث نحن باللغة.
«وكنت إذا سألت القلب يوما.. تولى الدمع عن قلبي الجوابا»،
وهي من أبيات قصيدة سلوا قلبي للشاعر أحمد شوقي، وغنتها أم كلثوم لأول مرة في
حديقة الأزبكية عام ١٩٤٦، وكان يدندنها رجل الشارع بسلاسة كما يقول أبي عن ذوق
وفصاحة هذه الأجيال التي سبقتهم وبالتبعية ورثوا هم أيضا هذه الفصاحة، بينما نحن
أجيال «اليومين دول» وصلنا باللغة إلى أيون وغيرها.
في عام ١٩٤٥ أي قبل أن تغني الست هذه الأغنية بعام، كانت
لجنة وزارة المعارف في «مجمع فؤاد الأول للغة العربية» الذي أنشأه الملك فؤاد عام
١٩٣٣ قد وضعت خطة عمل لتيسير قواعد
اللغة العربية على الطلبة بعد ما لمسوه من
تدهور واضح في لغة الشعب المصري، وقالت في تقريرها:
«نحن واثقون بأن من الأسباب القوية لضعف المصريين في اللغات
الأجنبية نفسها أنهم لا يحسنون لغتهم الوطنية».
نُشر نص هذا التقرير في الجزء السادس من المجلة التي تصدر
عن المجمع بتاريخ ٤ أبريل ١٩٥١، والملفت أن تقرير وزارة المعارف تحدث بإسهاب عما
نال اللغة العربية الفصيحة من تراجع خاصة على لسان شباب هذا الزمن الجميل، لأنهم
لا يسمعون اللغة الصحيحة في البيت أو البيئة المحيطة بهم، وفي المدرسة لا يسمعونها
أيضا بشكل صحيح بسبب إهمال المعلمين و«إيثارهم للراحة» باستعمال اللغة
العامية،
على حد قول الوزارة.
مجلة «مجمع فؤاد الأول للغة العربية»، والتي حصلت عليها من
«سوق ديانا»، بعد أن خطف بصري هيئتها القديمة وعنوانها، وفور أن تصفحتها لم أتردد
لحظة في شرائها أيا كان الثمن المطلوب فيها، بعد أن لمحت أسماء أعضاء المجلس.
ومنهم على سبيل المثال (كتبت الألقاب في المقالة جميع كما
كُتبت في المجلة) حضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين بك، أحمد لطفي السيد باشا رئيس
المجلس، عبدالحميد بدوي باشا، عبدالعزيز باشا فهمي وزير الحقانية، حضرة صاحب
المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف، وغيرهم.
وأوضحت كلمة تحرير المجلة أن الجزء الخامس قد صدر عام
١٩٤٨، إلا أن المجلة قد توقفت طباعتها، بسبب سنوات الحرب والتي استحكمت فيها أزمة
الورق والطباعة، إلا أن لجان المجمع لم تتوقف عن عملها، حيث اعتمدت الكثير من
تعريفات لمصطلحات وتم نشرها في الجزء الذي بحوزتي، ومنها تعريفات «الشيوعية،
الاشتراكية، الفوضوية، البروليتاريا، الفاشية، النازية، الإضراب، السوق السودا،
الفقر، الترف،
الاستعمار».
كانت اللغة العربية «السليمة» أو الفصحى في
مواجهة تغول العامية على لسان الشعب المصري، محور اهتمام أعمال مجمع اللغة على مدى
تلك السنوات التي احتجبت فيها المجلة، وتناولت كلمات غالبية أعضاء المجمع تلك
الظاهرة، ففي كلمة حضرة صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف
وصف اللغة بأنها كائن حي، متين الأساس ومستقر القواعد، ولكنه يحتاج إلى أن يتطور
ليواجه الحياة، ويقول:
«وإنا لنرجو أن يوفق الله هذا الجهد.. ويسدد خطى الذين يبذلونه.. لتكون لغتنا العربية الكريمة
سليمة، غدا كما كانت في الماضي».
وإرفاق اللغة بألفاظ مثل «الكريمة»، وفي كلمة عبدالحميد
بدوي باشا وصفها بـ«العزيزة» الغارقة في سبات، جعلني أتخيلها طفلة صغيرة هاربة يجد
كل هؤلاء في البحث عنها، حتى تعود بأحرفها ونقاطها إلى ديارها آمنة، وأوضح بدوي
أيضا ما فعلته العامية بالفصحى بقوله:
«ومن طبائع عصور التأخر أن يعظم فيها شأن اللغة الدارجة
والعامية، فإن انكماش الخاصة يجعل لها الغلبة والسيادة».
وفي المجلة ذاتها طرح أحمد لطفي السيد باشا من مشروع لجمع
ألفاظ الحياة العامة من جميع المجالات، لتكون اللغة المستعملة بالفعل في الحياة
بين يدي مجمع اللغة لبحثها وإقرار منها ما يراه المجمع مناسبا، وذكرني مشروعه
بالفيلم الأمريكي «البروفيسور والمجنون» بطولة ميل جيبسون وشون بين، حيث يسعى حراس
اللغة الإنجليزية إلى جمع جميع كلمات اللغة لعمل قاموس شامل جامع يحفظ كل شاردة أو
واردة إنجليزية.
لم أقرأ المجلة دفعة واحدة، ولكن في كل مرة كنت أقرأ جزءا
جديدا، كنت أضحك رغما عني لأن العامية الشبابية ولغة الشارع في أربعينيات القرن الماضي
التي ينتقدها المجمع، هي على ما أظن أقرب إلى عامية الفنان عماد حمدي ونطقه الفصيح
لـ«أنا مضايق يا نينا» بالضغط على الضاد، وفي رضاه يقول «ممنون»، وغيرها من جمله
السينمائية التي نستخدمها نحن الآن للتهكم على العامية القديمة إن كان يصح هذا
الوصف.
إلا أن لجنة وزارة المعارف أقرت في كلمتها أيضا بصراحة أن
إحياء اللغة الفصحى لن يكون بمحاربة العامية، بسبب استحالة السيطرة عليها لأنها
لغة التخاطب في البيت وخارجه، ولكن اقترحت أن يتم التفتيش على المعلمين في المدارس
للتأكد من استخدامهم الفصحى أثناء الحصص.
«ما أشبه الليلة بالبارحة» الجدل حول أصالة الفصحى في مقابل
شعبية العامية وما تضيفه الجماهير من ألفاظ أو تُحرفه عن الأصل، سمة على ما يبدو
يتم توارثها عبر الأجيال، حتى صار من العسير أن نعرف ما شكل اللغة التي رضي عنها أي
جيل يوما ما.
يستعين بي أبي أحيانا لأفسر له تعليق شخص ما على فيسبوك
يتضمن كلمات لا يعرفها، وعادة ما تكون من الكلمات العامية التي صارت دارجة بيننا
ربما نحن الأجيال الأصغر سنا، والغريب أن أبي وغيره يكتبون تعليقاتهم على وسائل
التواصل الاجتماعي بالفصحى مع مزجها بقليل من العامية، فتبدو أحيانا تعليقاتهم
كوميدية حتى وإن لم يكن الغرض منها فكاهيا.
وأتذكر أني اختلفت مع زميل أكبر مني في السن والخبرة حول
نص أدبي ما ليس موضوعه اللغة ولكنها كانت مناسبة ليثبت لي حصيلته اللغوية الفصيحة،
بأن ووصفني بـ«الرويبضة»، وكل الشكر لجوجل الذي يعرف معنى كل شيء حتى السباب الجاهلي،
فشكرت الزميل سرا لأنه أضاف إلى قاموس كلماتي هذه الكلمة التي لم أكن أعرفها من
قبل.
حالة عدم الرضى عن الذات هي حالة صحية طالما كانت بغرض
اتقاء شر الغرور، وتشجيع النفس على التطور المستمر، ولكن لا أعلم إن كان صحيا أو
معقولا أن تتوارث الأجيال عدم رضاها عن اللغة وما وصلت إليه، وإن كنت لا أتمنى لنفسي
بعد ثلاثين عاما، أن أؤنب الأحفاد وألعن لغة جيلهم، في حال لم ينهِ الاحتباس
الحراري وجودنا بالكامل.
(الشروق المصرية)