الكتاب: "صورة الشرق بين الفلسفة والاستشراق"
الكاتب: زاهدة محمد طه المزري
الناشر: دار المعتز، ط1، عمان 2015
عدد الصفحات: 240
1
يُعرَّف الاستشراق بكونه علم دراسات الشرق، وبأنه ظهر تلبية لحاجة
الغرب لتعميق معرفته بحضارة الشرق. والمستشرق بحسب قاموس أوكسفورد هو من تبحّر في
لغات الشرق وآدابه ومن طلب علومه وتعمّق في دراسة أحوال الشّعوب الشرقية ولغاتها
وتاريخها وحضارتها. والدراسات التي تهتم بالاستشراق بمختلف أنماطه، أي الاستشراق
على مستوى الممارسة الفنية، في الرسم والسينما والاستشراق في الدراسات الدينية
والفكرية وفي الأدبية، كثيرة جدّا.
ورغم اختلاف الرؤى الفنية للمبدعين والمعرفية للباحثين الغربيين أو
باختلاف المنهج المتبع في دراستهم، فإنها تكاد تتفق في تقسيم العالم إلى شطرين.
فتعرض صورة شرق الحريم والكنوز الكثيرة والحياة الروحانية، السابح في عوالم الخيال
حتى كأن حقيقته تنسل من عوالم ألف ليلة وليلة نظير الغرب العقلاني. ومن ثمة تنتهي
الباحثة زاهدة محمد طه المزري إلى أنّ "هيمنة النسق الأكاديمي على الخطاب
الاستشراقي كان تمثيلا طبيعيا لنتاج المخيال الغربي الذي كان يعيد باستمرار إنتاج
الشرق ويكون صورته للطرف الآخر (الغرب) طبقا لخطاب كان جاهزا ومنمقا ومهيأً من أجل
القراءة والفهم والاستيعاب أكثر من انتمائه إلى الواقع والصيرورة السوسيولوجية
المتغيرة.. وهو عموما ـ ووفق معايير إجرائية ـ خطاب موجه سواء أعاد تشكيل الشرق
بصورة صحيحة أو غير صحيحة".
2
يعني الشرق في هذه المباحث المناطق الخارجة عن محيط الغرب الأوروبي.
وعليه فقد استمدهذا التقسيم تسميته من
الزمن الذي يفصل بين العالمين ومن حركة الأرض حول الشمس [أو من حركة الشمس حول
الأرض وفق السّياق المعرفي القديم]. وبكل بساطة أُشير بالعالم الشرقي إلى مطلع
الشمس وأشير بالعالم الغربي إلى ناحية غروبها. والأمر سواء في اللغة العربية أو
اللغة اللاتينية. ولكن سريعا ما تحوّل هذا التقسيم الزمني ـ الجغرافي إلى تصنيف إيديولوجي.
فأضحى يحدد القرب من أوروبا والبعد عنها. فغدا هذا الشرق بالنسبة إلى العقل
الاستشراقي، شرقا أدنى يشمل جنوب شرق آسيا وشرقا أقصى يشمل الهند وجنوب شرق آسيا
والصين واليابان.
أما الشرق الأوسط وهو الأكثر أهمية فيضم عرب آسيا خاصّة. ويمثّل
الغرب في مختلف الحالات نقطة الارتكاز والجذب. ولحيوية هذا الشرق الإسلامي تزايد
الاهتمام الغربي المنتظم والمنهج به لمعرفة سر محافظته على هويته الدينية
والثقافية.
المستشرق بحسب قاموس أوكسفورد هو من تبحّر في لغات الشرق وآدابه ومن طلب علومه وتعمّق في دراسة أحوال الشّعوب الشرقية ولغاتها وتاريخها وحضارتها. والدراسات التي تهتم بالاستشراق بمختلف أنماطه، أي الاستشراق على مستوى الممارسة الفنية، في الرسم والسينما والاستشراق في الدراسات الدينية والفكرية وفي الأدبية، كثيرة جدّا.
ثم اتخذ المبحث طابعا أكثر جدية مع الحملات الاستعمارية في منتصف
القرن التاسع عشر التي شملت مختلف أصقاع العالم وخصّت البلدان الإسلامية. وأصبحت
درجة ثقافة تلك البلدان الشرقية وأنماطها تضبط وفقا لهذه التصنيفات. ومن هذا
المنطلق يوضح الفيلسوف الألماني هيغل أن المدلول اللغوي للشرق والغرب يبرز جوانب
فهم الحركة التاريخية، ويبيّن أن تاريخ الكون يمتد من الشرق إلى الغرب. فأوروبا هي
نهاية التاريخ والحضارة فيما تمثّل آسيا بدايتهما. ويقدّر أنّ التاريخ لا يصف حلقة
تحيط بالكرة الأرضية، لها شرق محدد يقع في آسيا منه انطلقت الحضارة الإنسانية ولها
غرب تغرب فيه. وإنما في هذا الغرب تشرق الشمس الداخلية للوعي بالذات تنشر بريقا
عاليا.
3
تتبنى الباحثة المصادرة التي مدارها على أنّ ظهور الإسلام قد عمق لدى
الغرب تقسيم العالم على المستوى العقائدي إلى قطبين. ولكنها تضيف عاملا آخر لا
يصرح به غالبا ويُخفى وراء مبررات ذات صبغة علمية أو تاريخية هو التنافس بين
المسلمين والمسيحيين على الأقاليم والهيمنة على الشواطئ والجزر وطرق الملاحة.
ويقودها هذا العامل الثّاني إلى أن تتساءل عن مدى توصّل الدراسات الغربية إلى
معرفة علمية حول الشرق، مقدّره أنّ حاصل هذه الدراسات صورة صنعها المخيال الغربي،
فجاءت محكومة بمعتقداته وتمثلاته الخاصّة للعالم وتجاربه ومصالحه أكثر مما كانت
تجسّد حقيقة الشرق الحضارية والثقافية والدينية. وعلى مدار التاريخ ظلت الهوّة بين
شقي العالم تتوسع في هذا المخيال. فتشكّل قطبين حضاريين يتوافقان ويتواشجان حينا
ويتنافران في تعارض وتصادم في الأحيان الكثيرة .
وبناء على هذه المصادرات تجعل من معرفة موقف هذا الآخر الغربي هدفا
لأثرها. وتجعل إعادة التفكير في مفهومي الشرق والغرب من منطلقات معرفية ومنهجية مغايرة وسيلة تخوّل
لنا إدراك حقيقة وجودنا الحضاري والبشري والتفكير في مستقبلنا السياسي والاقتصادي
بمعزل عن هذه المؤثرات الخاصة. فجاء الشطر الأول من أثرها بحثا في الأسس البعيدة
لتشكل صورة هذا الشرق في المخيال الغربي. وهو العنصر المميز لأطروحتها الذي سنركز
عليه في ورقتنا هذه.
4
لصورة الشرق في المخيال الغربي عمق أسطوري. ففي الأسطورة الإغريقية
أنّ للآلهة أوروبا أو ما تسمى سيانيد العديد من الأخوات. وكانت آسيا من بينهن.
ولكن ثورا أشقر يتلبس هيئة الإله زيوس رب
الأرباب وإله الأرض، أغواها واختطفها إلى الأراضي الآسيوية. وفي الليلة السابقة
لهروبها ولطيرانها على ظهر حصان جزيرة كريت حيث اغتصبها جوبيتير إله السماء
والرّعد، حلمت حلما نبويا أن أرضين تتنازعانها هما أرض آسيا والأرض المقابلة لها.
وهذا ما عدّ عند دارسي الأساطير ومؤوليها عنصرا مغذيا يُشبع حنين الغرب إلى أصوله
وهويته بقدر ما يغذي الإحساس بأن أوروبا انتزعت من وطنها الأم لتتلقى اللقاح
الجوبيتري الذي يؤهلها لتقوم بـدور السيد لاحقا.
وغالبا ما كانت الحروب التي يخوضها الإغريق أو الرومان مع البلاد
الواقعة على حدودهما والملاحم البطولية التي تروى حولها تجسيدا لهذا التصور الغربي
القديم عن الشرق وترجمة لهذه الأسطورة على نحو ما.
5
وغذّت الألياذة التي تصف حرب طروادة، تلك التي قامت بين الإغريق
وشعوب طروادة بآسيا الصغرى، هذا التقسيم
للعالم. ثم عمّقه لاحقا الصدام بين الإغريق وبلاد فارس، في معركة سلاميس البحرية
خاصّة التي تستدعيها مسرحية اسخيلوس. أما المؤرّخ هيرودت (484-425 ق.م) فقد خصّص
نصف كتابة "التاريخ" لوصف ثقافة شعوب الإمبراطورية الفارسية والمناطق
المحيطة بها وعاداتها. فقسم العالم إلى قطبين متعارضين هما الإغريق والبرابرة،
وعنى بالمصطلح الشعوب غير الأوربية التي لا تنطبق عليها مواصفات التحضر كما تمثلها
الغرب ، بعد أن كان يعتمد لتعيين الاختلافات اللغوية بين الإغريق وغيرهم من الشعوب
الأخرى. ولم تكن مسلمات هذا الفصل موضوعية جغرافية بقدر ما كانت إيديولوجية.
"فهي في الحقيقة تقسيمات أساسها مفاهيم ثقافية حملها الأوروبيون ممن وقعت على
عاتقهم مسؤولية التحديد المنهجي لعلوم المعرفة الإنسانية وإكسابها صفة
الموضوعية". ولكن صورة الشرق في المخيال الغربي لم تنشأ من التصورات
الإغريقية أو الرومانية فحسب. لذلك تعتبرها الباحثة من المؤثرات البعيدة التي
تفاعلت مع غيرها لتكون على ما هي عليه في دراسات المستشرقين.
6
ارتبط الرومان بصلات متقلبة مع الشرق وكانت المغالبة أساسها
عامّة. ولعلّ ذلك ما أتاح للمؤرخ الروماني
بيلي (القرن الأول ميلادي) أن يورد في أثره "التاريخ الطبيعي" معلومات
كثيرة تتعلق بأسماء المدن والقرى والقبائل في وسط الجزيرة العربية خاصّة. ورغم
أنّهم قد تأثروا بالفينيقيين والقرطاجيين فإنهم دخلوا في حروب كثيرة انتهت بتدمير
قرطاج. وولد هذا الحدث انقلابا نوعيا في علاقتها بالشرق. فعملت على التوسع على حسابه.
الاستشراق على علاّته أو خلفياته التي لم تكن علمية محضا دائما، قدّم الكثير للثقافة العربية خاصّة ومناهجه تبقى أدوات تحليل مهمة، يجب على الباحث المشرقي الاطلاع عليها وعلى خلفياتها المعرفية ومعرفة حدودها للإفادة منها في تشريح الظواهر الفكرية والأدبية والثقافية بطريقة واعية تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الثقافية والإيبستيمولجية للبيئة التي استنبتت هذه المناهج والمعارف.
ولم تختلف تصوّرات الرومان للعلاقة بين عالم الشرق وعالم الغرب
والحدود بينهما عن نظرة اليونان وفق الباحثة كما أسلفنا. فقد دخلوا في حروب طاحنة
مع القوى السياسية المسيطرة آنذاك على المنطقة. وكانت مطامعهم في الشرق ما دفع بجغرافييهم ومؤرخيهم إلى الاهتمام بخصائصه. فأفاض سترابتون في الحديث عن شبه
الجزيرة العربية ودوّن أقوال سكانها حتى عُدّ من أهم المصادر القديمة للبحث في
صورة بلاد الشرق في المصادر الرومانية القديمة، وفي طبيعة
العلاقات الرومانية
الشرقية.
ثم نُقلت العاصمة في العصر الإمبراطوري في القرن الثالث قبل الميلاد
إلى الشرق وأُنشئت مدينة القسطنطينية. فتعمّق احتكاكهم بالشرق وبالامبراطورية
الفارسية. وأهمل الغرب الروماني ثم سقط في مواجهة الجرمان.
وعامة حظي الشرق بمكانة هامة في السياسة الرومانية. وكانت العلاقات
به عنصر ترجيح بين السياسيين الطموحين. "فمثلا كان اكتافيوس قد صنع لنفسه
صورة المدافع عن العالم الغربي وفاتح الشرق بعد أن وضع خصمه انطونيوس في خانة
الشرقيين لتحالفه مع كيلوباترا، وتمخض من ذلك الخلاف العنيف معركة أكتيوم الحاسمة
التي وقعت بين الخصمين عام 310 ق. م.".
7
تجد الباحثة في صورة الشرق ضمن نظرية الأجناس صدى جديدا لهذا المخيال
الغربي. فقد اعتمدها الغرب في تعريفه للإنسان الشرقي وإبراز تمييزه عنه بيولوجيا.
وبناء عليها قسم لوبون البشر إلى أربعة أقسام هي العروق الابتدائية التي لا تحمل
أي أثر للثقافة والعروق الدنيا وفيها بصيص من الحضارة لا تتجاوز وجوه
"الحضارة الغليظة" شأن زنوج إفريقيا والعروق الوسطى التي تشمل الصينيين
واليابانيين والمغول والأمم السامية. وبحسب لويون فأن العرب والأشوريون
واليابانيون أبدعوا نماذج لحضارات راقية لم يجاوزها غير الأوروبيين أصحاب العرق
الأعلى الذين بنوا قدرتهم على الاختراعات العظيمة في الفنون والعلوم والصناعة.
وسرت قناعة في هذا المخيال مغرقة في الشعور بالتفوق قوامها
التقابل بين الجنس الآري أو "الوحش
الأشقر" حسب نيتشة والعنصر السامي، وإن لم يمثّل جنسا بقدر ما شكّل هوية
ثقافية مشتركة. فكان أتباع هذا التصوّر يجدون أنّ الساميين والعرب بخاصة، يميلون
إلى الحركة والتنقل والغزو، عاطفيين حد القسوة والعنف سطحيين في تفكيرهم، تغلب
عليهم لبداوتهم الغريزة الدينية. فـ"كانت المنظومة الاستشراقية قد جعلت العرق
السامي محورا أساسيا في دراساتها عن العروق الشرقية، والمستشرق بحكم تخصصه
واهتماماته الشرقية انساق نحو مجمل ما قدمه علماء وفلاسفة الغرب من آراء وأفكار
نظرية حول طبيعة العروق السامية، وكثيرا ما كان هؤلاء المستشرقون يأخذون تلك
الآراء وكأنها بديهيات ثابتة يحكم قولبتها ضمن إطار تنظيري أدرج في علم دراسة
العروق البشرية".
8
مما يحسب لهذا الأثر احترازاته الوجيهة على بعض محرّكات الاستشراق
وتقديره أن قصور بعض مباحثه ليست بالانحرافات الناتجة عن تآمر على الحضارة العربية
الإسلامية دائما وأنها ناشئة عن عدم تمثّل العقل الغربي لخصائص حضارة الشّرق
التمثّل السليم بحكم انعدام المعايشة أو عدم المعرفة بالخلفيات العميقة لظواهرها
الثقافية والفكرية، أضف إلى ذلك استناده إلى مناهج صيغت لتقارب ظواهر غربية
بالأساس، لا يمكن سحب نتائجها بشكل مطلق على مختلف الظواهر والحالات.
ولكنّ التشكيك في منجز الاستشراق، الذي بات رائجا في الكتابات
العديدة اليوم، لا يجب أن يكون مطلقا بدوره والاحتراز حول منطلقاته أو مقارباته لا
يجب أن يكون مطلقا أيضا حتى لا تكون الغايات العلمية النبيلة غطاءً لنكوص في الفكر
وحنينا للثقافة التقليدية التي تشيح بوجهها عن معارف العصر. فالاستشراق على علاّته
أو خلفياته التي لم تكن علمية محضا دائما، قدّم الكثير للثقافة العربية خاصّة
ومناهجه تبقى أدوات تحليل مهمة، يجب على الباحث المشرقي الاطلاع عليها وعلى
خلفياتها المعرفية ومعرفة حدودها للإفادة منها في تشريح الظواهر الفكرية والأدبية
والثقافية بطريقة واعية تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الثقافية والإيبستيمولجية
للبيئة التي استنبتت هذه المناهج والمعارف.