نشرت مجلة "نيوزويك" الأمريكية مقالا للكاتب ستيفين سوكاب، استعرض فيه مفهوم "الاختلاس غير المكتشف" الذي قدمه الاقتصادي جون كينيث غالبريث والذي يصف تزايد الاختلاس في أوقات الرخاء المالي، وعلاقته بانهيار
بنك سيليكون فالي وما يشهده القطاع المصرفي حاليا من توتر.
وقال الكاتب، في مقاله الذي ترجمته "عربي21"، إنه في كتابه الكلاسيكي بعنوان "الانهيار العظيم: 1929" كتب غالبريث أنه "في الأوقات الجيدة يكون الناس مرتاحين وواثقين، والمال وفير لدرجة أن معدل الاختلاس ينمو مقابل تراجع فرص اكتشافه، وبذلك يزيد عمق فوهة الاختلاس بسرعة". لكن عندما تصبح الأوقات صعبة وتقل الأموال "تتم مراقبتها بعين ثاقبة ومتشككة... وتصبح عمليات التدقيق بالغة الدقة". وباختصار، "تؤدي الأوقات الجيدة إلى تعزيز الفساد"، بينما "توفر الأوقات الصعبة الترياق ضد الفساد".
وأشار الكاتب إلى أن ما يشهده
النظام المالي الأمريكي من اضطراب مع انهيار بنك
وادي السيليكون وما يرتبط به من عدم الاستقرار في القطاع المصرفي بشكل عام، هو عبارة عن نسخة القرن الحادي والعشرين من مفهوم "الاختلاس غير المكتشف" الذي يتزايد بسرعة منذ سنوات، والآن سوف يتقلص بنفس السرعة إن لم يكن أسرع.
وأوضح الكاتب أنه لم يتم اتهام أي شخص في بنك وادي السيليكون بالاختلاس، ولم يتم تقديم أي دليل على ارتكاب أي جرائم في البنك. ويعتبر الإصدار المعاصر من مفهوم الاختلاس الخاص بغالبريث أكثر دقة وتعقيدًا من الإصدار الأول، ولكن من المحتمل أيضًا أنه أكثر انتشارًا.
اظهار أخبار متعلقة
لأكثر من عقد من الزمان، عمل بنك الاحتياطي الفيدرالي على ضمان وفرة الأموال وأن تكون مجانية عمليًا للمقترضين. إلى جانب ذلك، تم الحرص على إبقاء أسعار الفائدة منخفضة بشكل مصطنع، كما تحصّلت كل من الشركات والمستثمرين على أكبر قدر ممكن من الائتمان الذي يريدونه. نتيجة لذلك، فقد أصبحوا جميعًا في وضع مريح، وفي كثير من الحالات، أصبح بعضهم مهملين أكثر. لقد كانوا مرتاحين وواثقين واستخدموا هدية بنك الاحتياطي الفيدرالي لبناء ممارسات تجارية غير صحية وغير مستدامة.
وأضاف الكاتب أنه في أعقاب فشل بنك وادي السيليكون مباشرةً، فقد أصرّ بعض المراقبين ومن بينهم رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب النائب جيمس كومر على أن مشاكل البنك كانت ناجمة عن مشاركته الواضحة في عالم الاستثمار والممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات.
لا شك أن بنك وادي السيليكون كان منغمسا في هذا المجال، حيث أقرض الشركات الناشئة البيئية "المستدامة" المحفوفة بالمخاطر ودعم ممارسات الأعمال "الواعية"، لكن لم يكن أي من هذا مرتبطًا بالمشاكل المباشرة التي لحقت بالبنك وأدت إلى انهياره.
وأضاف الكاتب أنه رغم كل ما قيل، فإنه يجدر النظر في مدى توافق مجال الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات وهوس بنك وادي السيليكون غير الصحي به مع السرد المالي الأوسع. تعد الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات ما يمكن أن نطلق عليه "مشكلة العالم الأول"، لأنه يتم التساهل معها على نطاق واسع عندما تكون الأوقات مناسبة والمال وفيرا لتلبية مثل هذه النفقات التجارية الدخيلة وغير الوظيفية.
في المقابل، يرى المدافعون عن الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات أنها وسيلة "لإدارة المخاطر"، وأنها آلية يمكن من خلالها للمستثمرين تقييم مخاطر الطاقة والسمعة على المدى الطويل. لكن الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات ليست سوى إلهاء قصير المدى لمنع المديرين التنفيذيين للشركات من فعل ما يفترض بهم فعله، ما يتسبب في تعميق فوهة الاختلاس في العصر الحديث.
وأشار الكاتب إلى أن جزءًا من السبب الذي جعل بنك وادي السيليكون عالقًا تمامًا في شبكة الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية كان سياسيًا، ذلك أن المديرين التنفيذيين في البنك من المؤمنين بالأفكار السياسية اليسارية التي تقوم عليها هذه الممارسات. وهذا يعني أن أسواق رأس المال اليوم مشبعة بشكل كبير بخطاب النشاط الاجتماعي ويتم التحكم فيها إلى حد كبير من قبل شركات إدارة الأصول الكبيرة التي تبنت عقيدة استثمارية تتعامل مع "الاستدامة" على المدى الطويل على أنها أهم معيار في عمليات تخصيص رأس المال.
اظهار أخبار متعلقة
وفقا للكاتب، فإن السبب الأكبر الذي جعل البنك يخصص الكثير من الوقت والكثير من الموارد للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية هو قدرته على فعل ذلك، خاصة بالنظر إلى سياسات أسعار الفائدة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. وتعد الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية جزءًا من نمط مزعج لسوء تخصيص رأس المال لأغراض غير مالية والذي يشكل ثقافة حقيقية للفساد في جميع مجالات الأعمال الأمريكية اليوم.
وحذر الاقتصاديون لسنوات من أن سياسة الأموال السهلة التي يتبعها الاحتياطي الفيدرالي ستؤدي إلى مشاكل سياسية قد يكون من المستحيل حلها، على الأقل دون معاناة مالية خطيرة. ولطالما كان التضخم المتفشي المشكلة المحتملة الأكثر وضوحًا، ومن الواضح أن تلك التحذيرات قد تحققت.
لكن التضخم ليس المشكلة الوحيدة التي يسببها الاحتياطي الفيدرالي، فقد تعرض الإبداع للخطر في شركات التكنولوجيا التي حظيت باهتمام كبير في وادي السيليكون لأن الأموال المجانية جعلتهم أقل أهمية بالنسبة لبقاء الشركة مما كان عليه الحال في الماضي. وركزت الشركات في جميع القطاعات على المسائل الاجتماعية والسياسية غير المتعلقة بالأعمال التجارية، حيث تبرعت بمئات الملايين من الدولارات من الأموال المقترضة لقضايا وحملات العدالة الاجتماعية، ما وضع المساهمين في مأزق بالنسبة لفاعلية المديرين التنفيذيين.
وأشار الكاتب إلى أن إنقاذ المودعين غير المؤمن عليهم التابعين لبنك وادي السيليكون هو نتيجة ثانوية للإهمال والنهج "المريح" في التعامل مع الأموال الذي شجعه الاحتياطي الفيدرالي. وكما هو الحال، فإن إنقاذ المودعين لن يؤدي إلا إلى تشجيع إدارة المخاطر المتساهلة وإقناع المتهورين والفاسدين بأن أفعالهم لن يكون لها أي عواقب سلبية.
واعترفت وزيرة الخزانة جانيت يلين في جلسات الاستماع الأخيرة بالكونغرس بأن المودعين من البنوك الأخرى لن يتلقوا نفس المعاملة، أي أنه سيتم التعامل بسخاء فقط مع أولئك الذين يُعتبرون "مخاطر منتظمة" (أو بالأحرى "مرتبطة بالسياسة"). وهذا مثال على أسوأ أنواع الفساد المنهجي في أسوأ لحظة ممكنة. وسواء كانت الوزيرة يلين قادرة على رؤية النتيجة أم لا، فإن الفاتورة قادمة.
ونبّه الكاتب إلى أنه إذا لم يتم تقليل مقدار الاحتيال غير المكتشف في الاقتصاد، فسيحدث ذلك من خلال التغييرات غير المتوقعة في السوق. وفي الواقع، لم يكن فشل بنك وادي السيليكون، الذي كان ثاني أكبر فشل مصرفي في الولايات المتحدة، مجرد حدث تاريخي وإنما أيضًا إشارة لما قد يحدث في المستقبل عندما تصبح الأوقات المالية صعبة.