ما هو معلن في أمر مآلات الأمور في
السودان، هو أن
العسكر القابضين
على زمام الأمور في البلاد بقيادة عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، سيوقعون في أول
نيسان/ أبريل المقبل، على اتفاق نهائي يقضي بإنهاء سلطة العسكرتاريا، وانتقال
الحكم إلى مدنيين، اعتبارا من الحادي عشر من ذلك الشهر، ولكن ما يصدر من البرهان
من أقوال وسلوكيات تشي بأن لديه الخطة "ب" للبقاء في السلطة، أو العودة
إليها.
منذ اقتراب آجال الانتقال إلى الحكم المدني حسبما ينص اتفاق مهره
البرهان بتوقيعه في كانون أول/ ديسمبر 2022، وهو في حالة حركة دائبة زائرا للوحدات
العسكرية والتجمعات العشائرية، ليقدم نفسه كرجل دولة صاحب منهج وخطط ورؤى، ولكن
قلة الحيلة السياسية والعِيَّ المعرفي يجعلانه يتكلم كما مرشح في انتخابات عامة
يبذل الوعود المجانية الهوائية، ويغمز في قناة الخصوم، وهم عنده القوى المدنية
الرافضة لحكم العسكر.
ولأنه يدرك أنه بلا سند شعبي، فقد ظل البرهان ومنذ تسلله الى القصر
الجمهوري رئيسا لمجلس عسكري، نشد الاستيلاء على السلطة بعد أن أطاحت ثورة شعبية
بحكومة عمر البشير في نيسان/ أبريل من عام 2019، ثم رئيسا لمجلس السيادة الذي يمثل
رئاسة الدولة الجماعية، ظل البرهان لا يخوض في أمور الحكم والسلطة إلا أمام جنود
وضباط الجيش أو بين أهله وعشيرته في ولاية نهر النيل، ثم ومن باب تنويع نشاط
المخاطبات الجماهيرية، صار يكلف أعوانه بتنظيم حفلات زواج جماعية ليقف فيها مُعددا
مناقب نفسه كقائد سياسي وعسكري، وليقدم الوعود بأن يجعل "العتبة قزاز والسلم
نايلو في نايلو"، ثم كانت سقطة حضور حفل زواج لابن أحد وجهاء الخرطوم، ووَقّت
وقوفه أمام المغنية لهز اليد كما يفعل السودانيون لإبداء الطرب والانسجام مع
الغناء، في لحظة بدأت فيها تهز كراديسها وحلاقيمها لتمدح العسكر عموما والبرهان
بالاسم، ويبدو أن لتلك المغنية شعبية في وسط جنرالات البرهان، فقد سبق أن دعوها
لتشترك في طابور عسكري بمناسبة إجلاء عصابات أثيوبية من شريط حدودي في شرق
السودان، وتعامل البرهان مع الحدث وكأنه فتح "عمورية."
وقف البرهان قبل أيام قليلة أمام حشد من مواطنين أُضِيروا من تشييد
سد مائي في منطقتهم، حيث تم تهجير الآلاف منهم وإعادة توطينهم عشوائيا في مناطق
بلا خدمات، فما كان من رجل البر والإحسان البرهان، إلا أن قال لهم إن ما يلزم
منطقتهم من كهرباء ومرافق وخدمية وسيارات إسعاف وغيرها ستأتيهم من حر مال القوات
المسلحة، (وليس من جيب الحكومة)، ثم دعا المواطنين إلى عدم السكوت في حال أهملت
الحكومة المرتقبة (المدنية) أمرهم، ولأنه لا يحسن صون لسانه، فقد أضاف إنه في حال
تقصير تلك الحكومة في الوفاء بواجباتها تجاه المواطنين "ما بنخليها" ـ
وهو تعبير عامي سوداني يعني "لن نسكت على الأمر"، وهكذا فضح البرهان أنه
يرتب لذريعة للقيام بانقلاب آخر .
البرهان لا يكف عن المداهنة والحنث بالعهود، بحسبان أن للمواطن ذاكرة سمكة: يهرب من الطُعم والسنارة تارة ثم يعود بعد قليل ليصبح فريسة، وعلى أمل أن ذلك سيجعله يكسب رهان الانفراد برئاسة السودان، وفي سبيل ذلك لم ير بأسا في اعتناق الدين الإبراهيمي الجديد الذي نزل على تل أبيب "المكرمة" وانتصرت له، وبشرت به واشنطن "المنورة."
أما ما قاله البرهان أمام أعضاء نادي الرماية في السابع عشر من الشهر
الجاري، فقد كان كارثيا بكل المعايير والمقاييس، فقد تعهد بأنه شخصيا سيتولى توفير
الذخيرة وفتح مقرات الجيش في مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم والخرطوم بحري وأم
درمان)، لتدريب من يرغب من المواطنين على استخدام السلاح الناري، وأوعز لقائد
القوت الخاصة بفتح معسكره لتلك الغاية، وكأنما لا يكفي السودان أن به تسعة جيوش،
ثمانية منها قطاع خاص، بينما هناك جيشان قيد التشكل، ويريد البرهان وضع البنية
التحتية لجيش مليشياوي جديد موالٍ له، لأنه قطعا سينتقي من يتدربون على الرماية
بعناية وبإشراف الاستخبارات العسكرية، ذات المهارة العالية في تأسيس المليشيات.
وأصلا ما أهّل البرهان للترقي خلال فترة حكم عمر البشير، هو إثباته
للكفاءة العالية لتجنيد المرتزقة في عام 2004 وما بعده، لتشكيل تلك القوة سيئة
السمعة "الجنجويد" الذين أشبعوا أهل دارفور قتلا وتشريدا، ثم تم إضفاء
الطابع الرسمي عليها لتحمل إسم "حرس الحدود"، ثم "الدعم
السريع"، وهذه الأخيرة هي المليشيا التي يقودها حاليا نائبه في مجلس السيادة
حميدتي، الذي شاركه في كل الجرائم التي صاحبت دخولهما القصر الجمهوري في مطالع عام
2019 وبقائهما فيه، ثم دب الخلاف بينهما مؤخرا فصار البرهان يرهن الانتقال إلى
الحكم المدني بدمج قوات الدعم السريع في الجيش الوطني، ليضمن بذلك نفور حميدتي من
القوى المدنية الداعية لإنهاء حكم العسكر، وربما أن قبول حميدتي "تكتيكيا"
بالدمج هو ما حدا بالبرهان إلى التفكير في خلق قوة مليشياوية جديدة تحت غطاء تدريب
المواطنين على الرماية.
ولأنه المريب الذي يكاد يقول: خذوني، فقد وقف البرهان مجددا أمام
عساكره وقال إنهم لا يلامون على ما شهدته البلاد من انقلابات عسكرية، لأن العقول
المدبرة للانقلابات هم السياسيون، ويتبعهم الغاوون الذين هم العسكر. فهل خطر بباله
أن الناس سيتساءلون: ومن هم الساسة الذين أوعزوا لك بالانقلاب على الحكم المدني في
تشرين أول/ أكتوبر 2021؟ ثم هل تقصد أن العسكر بلا إرادة أو فكر ومن ثم ظلوا
ينقادون للساسة كلما دعوهم للقيام بانقلاب؟
كما قلت في أكثر من مقال هنا في
"عربي21"، فإن البرهان يركن إلى
الفهلوة لتمرير أجندته الخاصة، والفهلوي بالضرورة غبي ومحدود المدارك، ولكنه يفترض
الغباء في الآخرين، ويحسب أن حِيَله الفجة ستنطلي عليهم، ولهذا فالبرهان لا يكف عن
المداهنة والحنث بالعهود، بحسبان أن للمواطن ذاكرة سمكة: يهرب من الطُعم
والسنارة تارة ثم يعود بعد قليل ليصبح فريسة، وعلى أمل أن ذلك سيجعله يكسب رهان
الانفراد برئاسة السودان، وفي سبيل ذلك لم ير بأسا في اعتناق الدين الإبراهيمي
الجديد الذي نزل على تل أبيب "المكرمة" وانتصرت له، وبشرت به واشنطن
"المنورة."