لمّا قال أرسطو:"الذين يفكّرون يرون الحياة
كوميديا والذين يشعرون يرونها تراجيديا"، لم يكن ليعلم أنّه سيأتي بعده أبو الفلسفة الحديثة رنيه ديكارت ليحفظ له التّاريخ الكوجيتو الشهير:"أنا أفكّر أنا إذن موجود". وللتّاريخ المصالحة بين الفكرتين: فالوجود ملهاة لمن يفكّر من منطلق أنّ تصوّر الحياة في قالب ملهاة هو محاولة لخلق سياق "عبثي" يسهّل عمليّة تقبلها بهدف تقويضها وتغييرها. ولعلّ هذا من أبرز وظائف الكوميديا السّاخرة، السوداء.
إنّ تقديم الواقع أو تمثّله في صور هزلية كوميديّة يتطلّب عمقا في التأمّل والتفكير وقدرة على دفع المتلقي للتفكير. وفي هذا السياق تكون كوميديا الموقف التي تضحكنا حدّ البكاء. وهنا يندرج حديثنا عن الكوميديا الساخرة "
سبق الخير" لقيس شقير الذي تبثّه قناة نسمة
التونسية في شهر
رمضان.
اظهار أخبار متعلقة
هل فعلا أضحكنا "سبق الخير" حدّ البكاء على الواقع التّونسي؟
سبق الخير؟
"سبق الخير" هو مصطلح باللهجة العامية التونسية، يستخدمه التونسي عادة لما يدعو الطرف المقابل إلى استباق الخير على الشرّ أو التفاؤل خيرا.
وقد استخدم هذا المصطلح في السلسلة الهزليّة كلقب للشخصية المحورية "الباهي سبق الخير" والتي يتقمصها الممثل الكوميدي كريم الغربي.
الباهي سبق الخير: صورة لشاب تونسي يدخل إلى قصر قرطاج فيتسبّب في هروب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. الباهي هو "النّحس" الذي يطارد شخصيات السلسلة ويدمّرها.
سيّء الحظ، يصيب نفسه بالشرّ ويصيب الآخرين كذلك بشرّه. شخصية بائسة جدا. يضحكنا بؤسها وسذاجتها وتمثّلاتها السطحية للواقع. تدخل في مغامرات مع شريكها ياسر العاقل (يتقمص الدور الكوميدي لطفي العبدلي) فتقودهما رحلة البحث عن الكنز إلى أدغال شبكة إرهابية وبسذاجة يتخلّصان منها وينضمان للجيش ولما تتفطّن الحكومة بسرهما وهو الكنز يكون مصيرهما السجن، ونفس هذه الحكومة تقوم بإطلاق سراحهما أو تهريبهما قصد التفاوض معهما واقتسام الثروة المالية.
فسذاجة الباهي وشريكه ياسر تتقاطع مع سذاجة الحكومة في إدارة شؤون البلاد كما تطرحها السلسلة الهزلية وتنقلها كاميرا المخرج: فنرى شخصية مراد "فلوسة" سارق هاتف جوال رئيس الحكومة (الممثل مجد بلغيث) وهو يتسلّم منصب مستشار في حكومة الممثل كمال التواتي إلى حين تسلّمه منصب رئيس الحكومة. ونرى مجلسا وزاريا داخل المسبح.
اظهار أخبار متعلقة
يطرح "سبق الخير" الواقع الاجتماعي والسياسي في تونس منذ هروب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى اليوم. فقد اختزل مؤلّفو السيناريو: زين العابدين المستوري وأحمد الصيد وباديس السافي وقيس شقير، الوقائع التي مرّت بها تونس على امتداد اثنتي عشرة سنة تقريبا في قضايا أساسية: القطيعة التامّة بين مصالح الحكومة ومصالح الشعب، الفساد الإداري والمالي، الشباب المهمّش، الأزمة الاقتصادية والعجز التام. وقد تم بلورة هذه القضايا في صور هزلية جمعت بين كوميديا الموقف وكوميديا الشخصية وكوميديا السلوك.
لقد اخترق كتاب السيناريو الفضاء الخاص للحكومة وعرّوا كواليس الحكم والقرارات وسلّطوا الضوء على اعتباطية التعيينات وتوزيع المناصب وغياب السياسات العموميّة للإصلاح وراوحوا بين الواقع والمتخيّل بلعبة يمتزج فيها ذكاء العبارة مع ذكاء الأداء.
واخترقت كاميرا المخرج قيس شقير، تفاصيل دقيقة ومعبّرة في حركات الممثلين وسلوكهم ومواقفهم المبنية على التناقضات. وترجمت العبارة في زوايا التقاط الصور وأظهرت ما لم يعبّر عنه المنطوق. فالاتصال غير اللفظي أو اتّصال الصورة حمّال بالكثير من المعاني التي تسمح للمتلقي بإشباع فضوله للإطّلاع على ما تبيحه له الصورة وفضوله أيضا للضحك بتفكيك رمزية هذه الصورة أيضا.
اظهار أخبار متعلقة
سبق الخير: تصعيد وتفجير لمكبوتات الشارع التونسي!
لعلّ من أبرز التعريفات للكوميديا ما طرحه سيغموند فرويد: فرأى أنّها تفجير لإمكانات التعبير عن مشاعر أو سلوكات هي في العادة مكبوتة، ونوع من التصعيد حسب نظرية الاسترخاء التي طرح من خلالها أفكاره حول الكوميديا. فتفجّر الكوميديا طاقات كانت تشكّل ضغوطات مكبوتة داخل الإنسان بهدف تحقيق التوازن النفسي. والضغوطات ناتجة عن القيود التي تكبّل الإنسان في تفاصيل حياته اليومية من قواعد وقوانين واتفاقات تفرضها السلطة وتهيمن بها على خياراته.
من هذه الزاوية تكون الكوميديا الملجأ كلعبة حرة ومتحرّرة مع اللغة والجسد والمشاعر والأفكار السائدة، لعبة تعيد تنظيم وترتيب كتل المشاعر والأحاسيس للإنسان في علاقته بعالميه الدّاخلي والخارجي. وهو دور الكوميديا.
مواقف ساخرة مضحكة حتى البكاء. تلاعب بالعبارة ومتناقضاتها. تلاعب بالحركة والإشارة المحمّلة بالرموز. مزج لقول وحركة في جسد بات كالشبح في نظراته وانتكاسته وهامشيته. قطيعة تامّة بين مشروع الحوكة وانتظارات المواطنين.
اظهار أخبار متعلقة
حين يخاطب العمل الإبداعي خيال المتلقي
حين تشتدّ الأزمة وتتعمّق، تتكوّن لدى الفرد نزعية تخييلية يتسلّى بالإبحار فيها ولو سرّا. وربما لهذا السبب وعادة ما نرى أنّ أفلام الرعب وأفلام الخيال العلمي تشهد نسب مشاهدة عالية جدا.
فالإنسان يهرب من الواقع للخيال. يسمح لنفسه أن يتقمّص شخصية الفقير البائس حين يسكنه الخوف من المستقبل. ويسمح لنفسه أيضا أن يكون في شخصية صاحب رؤوس الأموال حين يشتدّ به الطموح ويستشرف مستقبله ويرى نفسه في صورة المتسلّط والحاكم. وأحيانا يسرح به خياله كثيرا وينقله في زيارة إلى قصر الرئيس ويبني لنفسه حتى حوارات متخيلة مع الرئيس. لكلّ منا مساحة من الوهم يبنيها لثانية للحظة قصيرة حتى يعبث بواقعه قليلا ويشعر أنّه المتحكّم فيه وليس خيالا.
فلا يضع حدودا لسلوكاته في مخيلته ويركّب تفاصيل الأشياء ويغيّر أدوارها ويختار لنفسه ما لا يجرؤ عليه في الواقع.
هذه المساحة التي تختلف من فرد إلى آخر وتتحكّم فيها العديد من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والسياق الخاص والعام، هذه المساحة هي التي تجرّأ سيت كوم "سبق الخير" على اختراقها وأخرج الوهم في شكل شخصيات وأخرج رغبات الإنسان في شكل سلوكات وعملق الأحلام البسيطة والأحلام الساذجة فساوى بين سارق الهاتف الجوال في الحافلة ورئيس الحكومة. لقد اخترق المخيال الشعبي وأخرجه وحرّكه في سياق تونسي يتعطّش فيه الشارع للتغيير وتحقيق الانتقال الديمقراطي وضمان حياة كريمة منذ اندلاع الثورة التونسية.
إنّها انتظارات الشارع التونسي منذ أن خرج ذات ربيع عربي وتتالى عليه كلّ ربيع وهو يراوح مكانه وكلّما مرت السنوات تراجع النمو واشتدّت الأزمة و في المقابل ازدادت القطيعة بين الحكومة والشعب.
إذ يلتهي رئيس الحكومة في سيت كوم "سبق الخير" عن الشعب، ويوظف حكومته في أداء مهامّه الخاصّة هوسا بالرّفع من شعبيته بمختلف الطرق وعبوديّة الأرقام. فنراه مرّة مع وزير الداخلية يزعم احتكاكه بالشعب في وسيلة نقل عموميّة ويلتقط صورا لاستعراضها في المنصات الرقمية ووسائل الإعلام التقليدية ترويجا لصورة المسؤول "المحتك" بالشعب. وتارة نراه في خطاب بملابس شبابية بنية استقطاب الشباب والتعبير عن الإحساس بهم.
تذكّرنا السلسلة بواحدة من استراتيجيات تلاعب السلطة بعقول الجمهور وباستخدام الميديا والتي طرحها نعوم تشومسكي وهي إلهاء الشعب بقضايا جانبية من أجل أن تربح الحكومة الوقت في تطبيق مآربها. ففي مجلس وزاري تقترح شخصية رئيس الحكومة إلهاء الشعب التونسي ببعض القضايا الجانبية حتى لا يتمّ التركيز على القضايا الأساسيّة.
ربّما لم تخطئ إحدى شخصيات السلسلة الهزلية حين سألت باستنكار واستغراب وباللهجة العامية التونسية: "علاش نحنا عنا حكومة في تونس؟".
الضحك هو ظاهرة اجتماعية وثقافية تختلف من مجتمع إلى آخر، فالضحك متعدد الأشكال ومتعدد الوظائف ومتعدد المعاني ولكنّه يظل أداة اتصال تخترق الحواجز لتنطق بهموم الواقع وهواجس المواطن وتلعب بهزل بغاية التفكير جدّيا في التغيير بعد 12 سنة من اندلاع الثورة التونسية ولم تتحقق حتى خارطة طريق لتحقيق أهداف الثورة.
هذه وظيفة الفن. وهذه رسالة الفنانين الذين شاركوا في هذا العمل وهم من أبرز الممثلين في تونس: كمال التواتي ولطفي العبدلي وكريم الغربي وفاطمة سعيدان وفتحي العكاري وسفيان الداهش ومجد بلغيث ولطفي بندقة ورياض النهدي وإكرام عزوز ورشا بن معاوية وأحلام الفقيه ولطيفة القفصي. ونقطة الالتقاء هي الحاجة للتغيير العاجل.