في مباراة
مصر والسنغال المؤهلة لنهائيات كأس العالم بقطر 2022 النسخة الأخيرة، انتشر أحد الفيديوهات في السوشيال ميديا، أحدثت السخرية منه تقسيما جديدا لطبقات المصريين، فالفيديو الذي انتشر آنذاك كان عبارة عن "فلوج" لبنت من الطبقات العليا في مصر، وكان تحت عنوان: "تجربتي في تشجيع Egypt من الاستاد" تعرض فيها تفاعلاتها وأنماط التشجيع التي اتبعتها هي وأسرتها من "مقصورة" الاستاد الرئيسية، وهي التذكرة والمكان الأغلى في أي مباراة لكرة القدم، ومنذ ذلك الحين، أدرك المصريون بسخرية أن الطبقة التي تعيش في نمط يختلف عن عيشتهم، وشوارع غير شوارعهم، وبيوت غير بيوتهم، ويتحدثون لهجة غير لهجتهم، هم ليسوا فقط مجرد أغنياء يسكنون مصر، ولكنهم سكان "إيجيبت" كما يسمونها.
في الموسم الدرامي هذا العام، تكرر استحضار وصف "سكان إيجيبت" هذا مرة أخرى، ولكن تلك المرة للسخرية من المسلسلات الكثيرة في عددها هذا العام، التي تعرض لحياة طبقة تنفصل تماما عن واقع المجتمع، وتجلت حياة "الإيجبتيون" في ثلاثة مسلسلات بالتحديد، هي: "الهرشة السابعة، كامل العدد، مذكرات زوج".
إظهار أخبار متعلقة
الذين يتحدثون عربي "مكسر"
"متأمركون" نسبة إلى أمريكا ومحاولة أمركة كل شيء كنتيجة طبيعية لضغوط العولمة على الطبقات العليا بالتحديد، هو الوصف الذي ينطبق على أبطال تلك الأعمال وحيواتهم، وحتى لهجتهم كذلك، فكان أحد أهم المظاهر التي ظهرت في مسلسل "الهرشة السابعة"، ونالت نصيبا من السخرية، هي الطريقة التي يتحدث بها معظم أبطال العمل، الذين يتحدثون بلهجة عامية دارجة، ولكن يتخللها الكثير من المصطلحات الإنكليزية والفرنسية، حتى إن العامية التي ينطقونها تكون بنوع من الاعوجاج الذي استدعى سخرية رواد السوشيال ميديا من تلك الطريقة في الكلام.
ولكن يبدو أن التحدث بعربية "مكسرة" ليست هي الملمح الوحيد، فعالم الهرشة السابعة ينقلنا داخل حيوات مصرية "مكسرة" كذلك، فإنك بالكاد ترى المواطن المصري البسيط في أحداث المسلسل، فخمس عشرة حلقة هي عمر المسلسل، لم يظهر فيها مواطن خارج عالم "الهرشة" سوى في مشهدين، المشهد الأول كان عاملا ببنزينة يقوم بتموين سيارة "آدم" بطل المسلسل، والمرة الثانية كان "كاشير" بأحد الهايبر ماركت الكبرى بالقاهرة، وكان يقوم بحساب فاتورة "آدم" أيضا.
ودون ذلك، فإنك لا ترى المواطن المصري الشائع في مشاهد أخرى، حتى حينما يقود أبطال العمل سيارتهم، فإنك دوما ما ترى الحياة داخل السيارة، دون أن ترى الشوارع من الخارج وتفاعلاتها، فإنك لا تصطدم بزحمة طريق ما، أو مشاجرة على هامش الطريق، إنه عالم هادئ تماما، لا يتسع للأوباش، بقدر ما يتسع بمشاكل "آدم" و"نادين" الزوجية.
تتجلى ذروة الانفصال الطبقي عن السياق المتفاعل للشارع المصري في أحد المشاهد التي يعود بنا فيها المخرج إلى العام 2016، حيث قرار تعويم الجنيه وتخفيضه أمام الدولار لأول مرة في عهد السيسي، وهو القرار الذي كان له تبعاته الكارثية، التي لا يزال يعاني منها الاقتصاد المصري حتى الآن، ويتناول المخرج ذلك القرار خلال أحد المشاهد، حيث يتجمع الأصدقاء على الطاولة ويشيرون إلى القرار في جملة اعتراضية شديدة السطحية: "شوفتوا يا جماعة القرار اللي اتاخد امبارح!". ويتبع تلك الجملة نقاش يرينا مهزلة حقيقية، فبينما سيعاني البسطاء في الشارع من تبعات ذلك القرار على مأكلهم ومشربهم وعلاجهم، فإننا نجد الأصدقاء يتحدثون عن تأثير ذلك التعويم على شراء عربية موديل العام، والسفر في إجازة رأس السنة.
إظهار أخبار متعلقة
ثقافتنا المستترة
وعلى المستوى الاجتماعي، ينقلنا كريم الشناوي في "هرشته السابعة" تلك إلى مستوى آخر من "الاستحواذ الثقافي Cultural appropriation "، الذي يجعلك تشعر وكأنك تشاهد مسلسلا أمريكيّا بالفعل، فشريف وسلمى، الثنائي الآخر في العمل يتحدثون عن نظام "المعايشة" قبل الزواج، بغض النظر عن الموقف من الدين، فنحن إذن لسنا بصدد التعرض لطبقة وسطى من شريحة عليا مصرية، من المفترض أن تكون ذات أخلاقيات محافظة بعض الشيء، ولكننا بصدد التعامل مع ظاهرة "غربية" بالكامل.
في الكثير من الأحداث في المسلسل تشعر بالاضطراب، رغم أن الشناوي يحاول التأكيد كثيرا طبقة هؤلاء، فإنهم من الطبقة الوسطى في شريحتها العليا على الأقل، وهذا نراه في كلام آدم في أحد المشاهد، حين يرى فاتورة مشترياته ويقول: "دي مش فاتورة مهندس، دي فاتورة مليونير!" ولكننا بالفعل نجده يعيش كالمليونير، فأولاده بتعلمون في مدارس دولية، كما أنه يستطيع أن يعول أسرته دون مساعدة زوجته، ويفتح له أكثر من مشروع خاص به بعيدا عن العمل، كما أن الكورونا حينما تأتي في أحد حلقات المسلسل وتدمر مشروعه، فإنه يستطيع التعافي من تلك الكارثة بكل سهولة.
ويحاول الشناوي تأكيد "مصرية" أبطاله من خلال مشاهد عاطفية في أثناء تشجيعهم لمنتخب كرة القدم المصري، وتعصبهم لمبارياته وللحظاته، أو تناولهم للوجبات المصرية التقليدية أكثر من الفاست فود مثل "المحشي".
ولكن، يبدو أن ذلك كان فاشلا؛ فالمصريون لا توحدهم كرة القدم والمحشي، بقدر ما يوحدهم الشعور بأنهم في بوتقة واحدة، فلو كان أبطال كريم الشناوي من طبقة وسطى كما يدعي التصوير الساكن لشخصياته، لما فشل بشكل كامل في صناعة مشاعر من التعاطف بينهم وبين المشاهد، فتلك الشخصيات لا يبدو أنها تعاني في أي وقت من الأوقات خطر السقوط إلى أسفل بسبب الأزمات الإقتصادية كأي شريحة من شرائح الطبقة الوسطى، بقدر ما تتلخص أغلب مشاكلها في تذكر يوم "الفالانتاين"، فلم نشاهد سوى طبقة مُنتزعة من سياقها الاجتماعي والجغرافي، لو استبدلتهم بأسرة أمريكية لن تشعر بأي اختلاف، وبالفعل جعل الشناوي أسرة عمله أسرة أمريكية، في مشهد كان يؤدي فيه دور الأب آدم مع أطفاله الاثنين، مرتديا تاجا من الريش على طريقة الهنود الحمر، في بيت من الوسائد.
إظهار أخبار متعلقة
رثاء الوظيفة العادية
يعمل آدم مهندسا ويمتلك مشروعا موازيا لرياضة "البادل"، وتعمل نادين زوجته في مشروع بودكاست خاص بها، وتعمل سلمى "مدربة باليه مائي"، وشريف زوجها يعمل "فنانا" بالنجارة، ويعمل والد نادين بائعا في محل "دباديب" عيد الحب، تلك هي أعمال أبطال "الهرشة السابعة". وفي "مذكرات زوج" لطارق لطفي، يعمل البطل "طيارا" وفي "كامل العدد" يعمل الأب طبيب تجميل.
لماذا لا يمكنك أن تجد المصري في تلك الطبقة يعمل في وظيفة عادية؟ أين ذهب "المعلم" مثلا أو الموظف الحكومي بدرجات الوظيفة الحكومية؟ إنه ليس سوى موت لسردية المواطن البسيط في حياة دراما الجمهورية الجديدة وسكانها، فبالطبع تلك الطبقة التي يدور أشخاصها في محيط "الكومباوند" يوميا من الشقة للوظيفة و"الشاليه" و "السفاري"، حينما يحتاجون للاصطياف وتغيير الجو، هم سكان الجمهورية الجديدة التي ستسكن العاصمة الإدارية الجديدة، وكومباونداتها الهائلة بدلا من وسط البلد وضواحيها، وستذهب للاصطياف في العلمين الجديدة، بدلا من مرسى مطروح ورأس البر.
في النهاية، يعيش هؤلاء وهم مصريون لا نجحد عليهم حق تمثيلهم في الشاشة، ولكن المشكلة أن يصبح هذا التمثيل طاغيا إلى جانب تمثيل آخر للمواطن البسيط لا يُعرض فيه مشاكله الحقيقية، ولا يُعرض فيه أكثر من كونه "بلطجيا" أو "منتقما" ويعمل دوما في غياب الدولة، حتى تأتي الدولة كالآلهة في تراجيديا إغريقية لتحل العُقدة في نهاية المسرحية.
إن تمثيل تلك الطبقة يعبر عن خيار درامي لصناع العمل لهم فيه كل الحق، وإن كان يعبر عن شريحة محدودة، تعيش في جيتوهات منفصلة. وفي المقابل، لنا كل الحق أن نضجر وأن نعترض أن أصواتنا نحن الفئة الغالبة السائدة، أصبحت هي ذات الصوت الخافت في الدراما، وأن نطالب بأن نعود لنرى أنفسنا مثلما اعتدنا رؤيتها في مسلسلات "العائلة هند، والدكتور نعمان، ولن أعيش في جلباب أبي، وقضية رأي عام، وأهل كايرو.. إلخ". قبل سيطرة "سينرجي" وأجندة جمهوريتها الجديدة.