الكتاب: "التاريخ الشفوي والوثيقة التاريخية ـ الأحداث السورية الكبرى
1925- 1927 أنموذجًا"
الكاتب: نصار واكد واكد
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2022
(175 صفحة من القطع الكبير)
نهاية الثورة السورية
توقفت أعمال القتال المسلح، ولا سيما بعد أن تدخل الإنجليز بالتعاون
مع فرنسا لمحاصرة الثوار السوريين وإرغامهم على الاستسلام، لقد التف الشعب حول
قيادة الثورة، وكانوا بحق أبطال تلك الثورة الوطنية، حتى بعد أن اضمحلت عسكرياً
فقد اتجهت قيادة الثورة والأوفياء من الثوار من الذين مكنتهم أوضاعهم من رفض الاستسلام
والتجأوا إلى وادي السرحان في صحراء السعودية، بعد أن قابل شكري القوتلي الملك ابن
سعود واستأذنه في قبول هؤلاء اللاجئين الذين بلغوا ألفاً وثلاثمئة وستين شخصاً،
أنهكهم الجوع والمرض والتشريد والمرض مفضلين شظف العيش على الخضوع لسلطان
الاستعمار، وأبقوا لواء الثورة مرفوعاً وبقيت المناوشات مستمرة في بعض المناطق
السورية تحت صرخة الدين لله والوطن للجميع انتصاراً للوطنية على الطائفية، ومن بقي
في الداخل في جميع المدن السورية لم يستكينوا وبقيت المناوشات قائمة، وبقي التنسيق
قائماً حتى اعترفت فرنسا بحق الشعب السوري بالاستقلال التام" (صفحات من 59
إلى 66).
إن بطولة الثوار في الثورة السورية كانت من الأسباب المباشرة لاعتراف
فرنسا بقسم وافر من الحقوق السياسية لسوريا ولبنان، ولإعلان الحكم الجمهورية في
سوريا ولبنان، وكان صدى الثورة مختلفاً باختلاف تلك البلدان، ففي لبنان مثلاً كان
صدى الثورة أشد وقعاً وأبعد أثراً، وفي فرنسا أيدت الأحزاب اليسارية مطالب الثورة
بالاستقلال، كما استطاعت الثورة أن تكسب إلى جانبها عدداً من الأقلام الحرة
الفرنسية أمثال مدام دي سانبوان حفيدة لامارتين في كتابها الحقيقة عن سوريا، وأليس
بوللو في كتابها (دمشق تحت القنابل) وكلتاهما تتحلّى بالجرأة في الدفاع عن حرية
الشعب السوري، ومن نتائج الثورة المهمة انتصار للوطنية على الإقليمية والطائفية
وكانت صرخة (الدين لله والوطن للجميع) مدوية في كل مكان، وقد رافق هذه الصرخة
اشتراك أبناء الطوائف المختلفة في الثورة على المستوى الميداني والفكري فنشطت
الدعوة إلى نبذ التعصب الديني، وكان لأدباء المهجر أثره في الدعوة إلى الوحدة
الوطنية ولو تحت الإلحاد أو الكفر.
كما ولدت لدى أفراد الشعب السوري نوعاً من الوعي المتميز؛ إذ أحس كل
فرد بأنه لم يعد تابعاً لأحد معتبراً الثورة دفاعاً عن الأرض والعرض والحرية،
ويفتخر بأنه هو صاحب العباءة المرقعة، وهو صاحب الفضل في الانتصار على الفرنسيين
كما أثبتت المرأة قدرة فائقة على تحمل ويلات الحرب ومآسيها المتنوعة، إذ كانت هي
المسؤولة عن بيتها وأولادها في غياب زوجها في ساحات القتال، ونشطت الدعوة إلى
التآخي ونبذ التعصب الديني.
أهمية الوثيقة التاريخية
يقول الباحث في الباب الثاني حول الوثيقة التاريخية: "إنَّ
تحديد المعنى الدقيق للوثيقة يسهل عملية دخول في هذا البحث، فالوثيقة في اللغة
العربية هي الأصل الذي يبرهن على وقوع الحدث، وقد تكون مكتوبة أو آثاراً أو
مسكوكات أو غيرها وتحل الشكل الأصلي لأي حدث، والوثيقة مؤنث كلمة وثيق وجمعها
وثائق، ويقال وثق يوثق وثاقة، يقال وثق الأمر يعني أحكمه، تقابل (Document) باللغة الإنجليزية، وتعني المرجع أو السند الذي يعتمد عليه المؤرخ في
نقل المعلومة وفي تدوين كتاباته التاريخية، كما تعرف الوثيقة: كل أثر مكتوب أو
منقوش أو كل المصادر المادية من آثار وعمارة ونقوش وأختام وشواهد وقبور ومسكوكات
وأدوات الحرب.. إلخ، أما الوثيقة التاريخية فهي ورقة أو مجموعة أوراق أو سجلات
تمثل جميع الأنشطة التي تقوم بها هيئة أو مؤسسة رسمية وغير رسمية، وهي في نظر
المتخصصين في علم المكتبات كل مدون أو وسيط يحتوي على بيانات أو معلومات أو حقائق،
وفي نظر أهل القانون كل مدون يثبت أو يمنع حقاً خاصاً أو عاماً، وفي نظر علم
الإدارة أي مدون رسمي يحوي معلومات تنظيمية.
يواجه المؤرخ أو الباحث صعوبة بالغة في جمع الوثائق التاريخية لأن أماكن وجودها لم تكن متاحة للباحث وأساليب الحصول عليها باهظة، لأنها متفرقة بين قصور الأمراء والأديرة وهواة جمع المقتنيات أو المكتبات الخاصة وخزائن المحفوظات، فكانت آلية التعامل مع الوثيقة مقيدة في إطار التحقق من هوية الوثيقة ومؤلفها ومدى مصداقية عائديها ضمن ما يسمى بمنهج نقد الوثائق.
وفي نظر المؤرخين كل مدون يحتوي على معلومات ذات قيمة تاريخية بما
فيها السجلات والملفات الخاصة بالحكم والقضاة والمؤسسات السياسية وغيرها، فالوثيقة
هيكل مصور للمعلومات التي يحتاج إليها فكر المؤرخ والتي تمكنه من استنتاج واستنباط
معلومات عن ماضي الإنسان، والوثيقة هي الدليل على الشخصية الحضارية لأي أمة من
الأمم وإلا كان التاريخ مجرد سرد للأحداث عن طريق الروايات المتواترة والتخمينات،
والوثيقة لا تموت بمجرد الانتهاء من استعمالها، بل فائدتها تستمر مدى الحياة،
وبذلك تنتقل من القيمة الإدارية إلى القيمة العلمية، كما تعرف الوثيقة بأنها كل
مادة أفادت التاريخ بمعناه الواسع بمعلومات من أي نوع كان سواءً كانت (مخطوطة أم
مطبوعة أم شفوية مسجلة أم مصورة).
وتشمل وثائق المحفوظات الحكومية وهي معلومات ذات شأن في تلك الحقبة
التي دونت فيها، وتتضمن جميع الأوراق المكتوبة والمتداولة بين الدول بما فيها
التقارير السرية الحكومية كما تشمل محفوظات المنظمات السياسية كالأحزاب والجمعيات
والمدونات الإعلامية كالصحف والدوريات (كما تشمل الرسائل الخاصة، والمذكرات
الشخصية كمذكرات الجنرال ديغول ومذكرات القائد العام للثورة السورية الكبرى 1925م
سلطان الأطرش ومذكرات نهرو ومذكرات محمد كرد علي وغيرهم) وقد تكون مذكرات أفراد من
عامة الناس، وتعتبر أكثر ثقة من غيرها، وهناك وثائق أخرى تشمل المخلفات المحسوسة
كالمباني والجسور والنقود والمنحوتات وحديثاً التصوير الفوتوغرافي والسينمائي
والوثائق الناطقة من أسطوانات التسجيل ووثائق المصدر الحي الشفوي.
وهناك فرق بين المخطوطة والوثيقة، فالمخطوطة هي تكون عادة بخط اليد،
وتعرف بأنها النسخة الأصلية، وتتكون عادة من عدة أوراق مرتبطة بعضها ببعض وتحمل
عنواناً مثل مخطوطة علم الفلك أو مخطوطة عن الخيل أو مذكرات شخصية، ويتم الكشف عن
صحة الوثائق عادة عن طريق دراسة الوثيقة نفسها من قبل الباحث أو لجنة خاصة
وبالاستعانة بالعلوم المساعدة والمتطورة كعلم اللغات والخطوط والكيمياء والفيزياء،
كل ذلك من أجل إثبات صحة الأصل التاريخي، أي إثبات الوثيقة بأنها غير مزيفة أو
منتحلة أو مشوهة، بعد ذلك تفتح المجال للاجتهاد والدراسة والتحليل، وفقاً للظروف
والعوامل التاريخية التي استجوبتها تلك الوثائق في مرحلة زمنية معينة"(ص 119
ـ 120).
لقد اتخذت الوثيقة مكانة خاصة، وأهمية كبيرة لدى المؤرخين لكونها تعد
الأساس من بين مصادر التاريخ المعتمدة في توثيق أحداث الماضي، أي المصدر الأصلي
الذي يعتمد عليه الباحث، من المؤكد أن يكون للوثيقة التاريخية دور فعال في دراسة
أي مجتمع، من خلال تقديم المعلومات التاريخية الغنية حول أحداث الماضي، وهي إحدى
المعايير المهمة التي تقاس بها حضارة الشعوب، ونقطة مضيئة في تلك الحضارة،
فالوثائق كانت وما زالت محط اهتمام ومتابعة ودراسة العديد من المهتمين والباحثين
في التاريخ، وانطلاقاً من الأهمية التي تحتلها الوثيقة التاريخية بأنواعها
المختلفة تبين أنها تميزت بدورين:
الدور الأول (الدور التقليدي): أي في القرون التي تسبق القرن العشرين.
يواجه المؤرخ أو الباحث صعوبة بالغة في جمع الوثائق التاريخية لأن
أماكن وجودها لم تكن متاحة للباحث وأساليب الحصول عليها باهظة، لأنها متفرقة بين
قصور الأمراء والأديرة وهواة جمع المقتنيات أو المكتبات الخاصة وخزائن المحفوظات،
فكانت آلية التعامل مع الوثيقة مقيدة في إطار التحقق من هوية الوثيقة ومؤلفها ومدى
مصداقية عائديها ضمن ما يسمى بمنهج نقد الوثائق.
الخاتمة
أهمية الوثيقة التاريخية وأهمية الظروف المؤثرة في إصدارها والتحقق
من سلامتها ومكانها وزمانها والشك في نصها واستخدامها بقصد أرشفتها لتكون مرجعاً
علمياً.
وفي ختام هذا الكتاب، لا بد من تأكيد الهدف الأساسي وهو الرجوع إلى
الوثائق التاريخية، لاستخلاص المعلومات منها، وعلى الرغم من أهمية الرجوع إلى تلك
الوثائق، لكن هذا لا يعني التسليم بكل ما جاء فيها، ويسلك الباحث المؤرخ في سبيل
الوصول إلى حقيقة الوثيقة التاريخية منهجاً وطريقاً صعب المسالك، حيث يخطو خطوات
متتابعة متلازمة ومتداخلة عند نقده وفحصه لتلك الوثائق التاريخية ظاهرياً
وباطنياً، ولقد أوضحت أيضاً تلك الخطوات النقدية الأساسية فيما يتعلق بالوثيقة
المدونة؛ لأن نقد الوثائق عموماً هو منهج فحص وتحقيق الدليل مادي لا روح فيه دُون
قبل عدة عقود أو أكثر، وأخاطر صعوبة في تقديري هي إهمال مكانة الوثائق والتقليل من
الدور الذي يمكن أن تؤديه ليس في كشف الحقائق بل في مجرى الصراعات والنزاعات
الفردية والجماعية، كما يجب معرفة الدوافع لكتابة الوثائق وحسب الغرض من كتابتها
وكذلك معرفة الظروف القائمة وبيئتها من خلال ما جاء في البحث من التركيز على
مصداقية الوثيقة التاريخية وتحليل النماذج الواردة، يبقى السؤال مطروحاً، هل
الوثيقة نقلت لنا الحقيقة أم لا؟ وهل اعتمد الباحثون والمؤرخون على وثائق كافية
كمصدر لصياغة حدث ما؟
وأعتقد أن بحثنا هذا يجيب عن معظم الأسئلة، كما يتضح أن الانتفاع
بمضمون الوثائق ليس بالأمر السهل على أي باحث مهما كانت خبرته ومقدرته، وذلك
لصعوبة تحليل تلك الوثائق واستخلاص المعطيات التاريخية منها، وهذا يتطلب المثابرة
والممارسة والصبر، ولا بد من بعض التوصيات منها التوسع بالدراسات التي تهتم
بالوثيقة وتأريخها وصيانتها وأهميتها وتسهيل التعامل معها، وحمايتها قانونياً
واعتبار الجرائم الواقعة على الوثيقة التاريخية من الجرائم المخلة بالثقة العامة،
فالوثيقة هي أشبه بالمنجم الذي يحتاج إلى مزيد من الجهد لاستخراج المادة الخام،
هذه المادة لا يمكن لنا من دونها تجديد نظرتنا لقضايا التاريخ المعاصر، وأخيراً
أرجو أن أكون قد وفقت فيما سعيت إليه، والعمل لا يصوّبه ويحسّنه سوى قراءة
المهتمين بالتاريخ والوثائق التاريخية.
إقرأ أيضا: مفهوم التاريخ المعاصر للطبقات الفقيرة والمهمشين صانعي الأحداث
إقرأ أيضا: الثورة السورية الكبرى 1925م ضد الاستعمار الفرنسي.. الأسباب والوقائع