لما حضرت الوفاة الرئيس
المصري الراحل جمال عبد الناصر كان مواطنه الأديب
الراحل نجيب محفوظ يتناول غذاءه في منزله، فوجئ الأخير بالخادم المسن يقول الخبر
له منسوبا لأناس سمعوه، انفجر محفوظ فيه موضحا أنه لا يتحدث لا في السياسة ولا
بمثل هذه الأمور، أكد الخادم ما سمعه عليه، انفجر محفوظ فيه أكثر مؤكدا أن عليه أن
يصمت أو يترك الخدمة لديه.
وقد اعتذر للخادم لاحقا، وبقي ملمح خطير لدى محفوظ، أعرب عنه في كلمات
قليلة: "لو أن أعداءنا حكمونا لما فعلوا بنا ما فعلناه بأنفسنا، فحتى خبر
الموت كنا نخاف تداوله لئلا يكون فخا من السلطة لاصطيادنا"!
خرج الاحتلال من مصر منذ 70 عاما تقريبا، ومن الدول العربية في نحو متقارب
يزيد أو يقل، فكيف وصلنا لأحوال كان معها وجود المحتل الأجنبي الغريب أفضل لنا، مع
أنه الحريص على مصالحه أولا حتى إن أهدر دماء الآلاف منا، أو هدم اقتصادنا، أو حتى
استباح حرماتنا؟ وكيف نواجه ضمائرنا أو آدميتنا إن أقررنا بأن دماء مئات الآلاف من
الشهداء سالت من أجل التحرر وفي النهاية تستمر مأساواتنا العربية والإسلامية فيما
يبدو أنه لا نهاية له، على الأقل في اللحظة الراهنة؟
وبأي طريق ووسيلة ونهج ومسيرة وتدبر وقراءة في واقعنا وماضينا وتفهم
لمستقبلنا استطاع أعداؤنا احتواءنا، فيما لم نستطع مجرد فهم أنفسنا أو الطرق التي
ينبغي علينا أن نسير فيها وصولا لمصالحة مع ذواتنا ومعرفة الطرق الواجب علينا
اتخاذها لتملك قرارنا، وبالتالي النجاة من واقع بالغ الإظلام يلفنا، وفرقة تكاد لا
تبدو معالم لتلافيها؟ يكفي أننا لم نعد نعاني من تباعد بين أطراف الأمة التي
يجمعها دين واحد ولغة واحدة في الأغلب وماضٍ ومسيرة جعلاها تسود العالم، تتحكم في
الأغلب فيه بالخير، في مقابل أوروبا التي أهدرت عشرات الملايين من أتباعها في حروب
أشبه بالعبثية ثم نسجت خيوط لملمة شملها ما استطاعت، فيما نحن لا نعاني من فرقة
بيننا فحسب، بل إننا بتنا نعاني من فرقة بين أطياف المجتمع الواحد في أكثر من دولة
من دولنا الممتدة التي أهدى حدودنا لها المحتل قبل خروجه "الظاهري"!
يأتي إسلاميون معارضون لإصلاح أحوال إحدى تلك الدول المتأزمة، تدور الأيام
بهم -إلا مَنْ رحم ربي تعالى- ونفاجأ بأنهم سقطوا في فخ معاناة جديدة مع مجتمعهم،
يكون الحق معهم، تختارهم الشعوب عبر صناديق الانتخابات التي هي أعلى سبل تداول
السلطة التي عرفتها البشرية حتى اليوم، لكن أعداءهم لا يرضون عن النتائج بعد
إعلانها، ثم نفاجأ بالمأساة في ثياب بالغة الإيغال في المأساوية.. يُنحّى
المستحقون للحكم كما في الجزائر وغزة ثم مصر، لا تعود الأمور كما كانت.
كان على إخوان مصر أن يتدبروا الأمر جيدا قبل الترشح للرئاسة في 2012م وبدء
فصل جديد في صراع متطور، يتسلمون السلطة فيه بصورة ظاهرية، يتكالب عليهم أعداء
الداخل والخارج لتنحيتهم بصورة ديمقراطية مزيفة، وتبقى المأساة التي تحتاج لمجهودات
جبارة لتلاشي استمرارها والابتعاد عن الفرقة التي ترضي العدو وتحزن العاقل.
فإذا أضفنا تجارب دول أخرى في وادي النيل والمغرب العربي أيضا ودول الطوق
المحيطة بالكيان الصهيوني المراد لها عدم الاستقرار أيضا، فضلا عن اليمن الذي يعد
امتدادا للخليج العربي، ازدادت علامات الاستفهام والتعجب من هذا الحال المرير، وإن
تعددت محاولات
الإصلاح وصولا لنتيجة واحدة لا تسر!
يتحدث بعض أقوامنا من كُتَّاب ومحللين سياسيين عن ضرورة مواجهة الأعداء
داخليا وخارجيا متى توفرت الأدوات اللازمة لهذا وازدادت منظومة الوعي بدرجة كافية،
ويشيرون بأنه حتى حدوث هذا يجب أخذ خطوة للوراء في دولة مثل مصر حافظت على اتزانها
العام، وإن فقدت عدة آلاف من الشهداء، فضلا عن عشرات الآلاف من المصابين
والمعتقلين والمطاردين على الأقل، فيقف آخرون متنفذون كقيادات في الغربة عند
مساحات التأثر والتأثير العاطفي الانفعالي مؤكدين أن الحق لا يتراجع عنه، فلما
يتفجر السؤال: لكن كيف وأدوات الدفاع عنه لم تعد بين أيديكم أو لم تكونوا تمتلكونها
من الأساس؟ تجيء الإجابات بمواقف عملية لا تخلو من اتهامات للناصحين، ثم يتجه عدد
من معترضي الأمس لمسار التهدئة نفسه لكن بعد فقدهم وحدتهم السابقة بالانشقاقات، أو
يذهب البعض فرادى في صورة تجمعات مفترضة للتعبير عن المجموع.
من أبجديات العمل السياسي تنحية العواطف والمشاعر وإدراك أهمية التوازنات
وقيمة الطرح المتمهل، لكن في الوقت الأرجى لتحقيق الغاية، مع الأخذ بالاعتبار أن
أصحاب الحق منصورون، ولو بعد حين وإن طال بهم الأمد، بحكم انتمائهم إليه. والحق
اسم من أسماء الجبار تعالى، فلا يحتاجون لإصرار على رأي تبين عدم صوابه، أو إهدار
كفاءاتهم فيما لا طائل من ورائه، أو إضعاف قواهم في النهاية بطلب بعضهم رضا عدوهم
منفردين.
وكما حدث ويحدث في مصر تستمر المآسي بدول أخرى مع وجود عقليات تشير للصواب
لكنها تقف بمعزل يشير بدقة للحديث الشريف: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "يُجيرُ
على أُمَّتي أدْناهُم"، أخرجه أحمد. أي أن "الجميع" يحترم رأيهم في
منظومة ديننا الحنيف على الأقل، ومأمورون بالسعي للحفاظ على العقيدة والأنفس
والأعراض والعقول والأموال.
ترى هل تمكننا الأيام قريبا من مصالحة أنفسنا كمجموع نسعى لخيري الدارين
والعالم كله؟!