الشيخ محمد رفعت رحمه
الله، من القراء الذين يقفون في الصف الأول في دولة التلاوة في
مصر، مدرسة رائدة
وكبيرة، نالت إعجاب ومتابعة الملايين حول العالم، وبخاصة الشيخ رفعت، وهو شخصية
ارتبطت به مشاعر المصريين جميعا، وبخاصة في شهر رمضان، كان لي جيران مسيحيين، وقد
علا صوت مذياع بصوت رفعت يتلو آيات من القرآن الكريم، فقالت جارتي: إننا كلما
سمعنا صوته، ذكرنا باقتراب آذان المغرب في رمضان، فقد اعتادت الأذاعة على بث
تسجيلاته قبيل أذان المغرب في شهر رمضان.
الشيخ رفعت بلغت شهرته
العالم العربي والغربي على حد سواء، وكتبت مقالات ودراسات عنه في حياته، وبعد
وفاته، فقد كتب في حياته الأديب الكبير محمد المويلحي مقالا في مجلة الرسالة سنة
1939م، بعنوان: الشيخ محمد رفعت من الوجهة الفنية، وصفه بأنه سيد قراء هذا الزمن،
وتناول أداء الشيخ فنيا. وكتابات أخرى معظمها من غير المشايخ، مثل: الأستاذ محمود
السعدني، والأستاذ حسين عثمان، وغيرهما.
وحديثي عن الشيخ رفعت
لأن الناس في مصر فوجئوا بخبر إقدام السلطات المصرية على هدم قبره، بعد أن قامت
بهدم كل المدافن التي حوله، ولم يبق في هذه المساحة سوى قبره في مدافن السيدة
نفيسة بمصر، وهو ما أقدم عليه الحكم العسكري في مصر منذ فترة، في قيامه بهدم مدافن
أثرية، لمشاهير وعلماء، دون مراعاة لتاريخية هذه المدافن، مثل قبر الإمام العز بن
عبد السلام، وغيره.
هذا الخبر جعلني أقارن
بين نظرة أهل الحكم في مصر للشيخ رفعت، بحسب مستوى وعقلية من يحكم، فالشيخ رفعت
طوال حياته، وبعد مماته، كان موضع تقدير عند أهل الحكم، وبخاصة المدني، فقد قرأت
في مذكرات الزعيم المصري الراحل مصطفى باشا النحاس رحمه الله، ففي سنة 1941م، في
ظل أزمة سياسية شديدة بين النحاس ورفقائه، والملك فاروق، يقول النحاس:
(قصدت إلى صلاة الجمعة في مسجد فاضل باشا
لأنهم أخبروني أنه مسجد يقع بجوار المدرسة الخديوية وهي المدرسة التي كنا نتعلم
فيها التعليم الثانوي وأن به قارئا ممتازا يرتل القرآن ترتيلا متقنا، وفي الطريق
مررت على نادي المدارس العليا، فتذكرت ماضي الشباب أيام كنا نجتمع فيه نخطط للقيام
بأعمال سرية ضد جيش الاحتلال.
ووصلت إلى المسجد قبل
الصلاة بدقائق، فسمعت شيخا مكفوف البصر، يرتل آيات من الذكر الحكيم قول الله عز
وجل: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)، بصوت رخيم
جميل فيه خشوع، وفيه جلال، واهتزت نفسي عند هذا، وسألت عن اسم القارئ، قالوا: إن
اسمه الشيخ محمد رفعت، فلما انتهت الصلاة بين تكبير المصلين، ودعواتهم، قصدت إلى
حيث الشيخ؛ فشددت على يديه وحييته تحية الإعجاب والتقدير، فكانت مفاجأة له حين
عرفني، فقام يهلل ويكبر، وظهرت على جهه سيماء الفرح والسرور، وأخذ يدعو بدعوات
طيبات والمصلون يؤمنون عليه).
هذا ما ذكره النحاس في
مذكراته في الجزء الثاني منها، ص: 65. ومعلوم أن النحاس كتب مذكراته فيما بعد، فأن
تظل في ذاكرته صوت الشيخ، والآية التي تلاها، وما دار بينهما بهذه التفاصيل، يدل
على مكانة الشيخ عند سياسيي زمانه، وبخاصة قامة مثل النحاس باشا رحمه الله.
لقد قارنت بين معاملة النحاس باشا، والسيسي مع الشيخ رفعت، وغيره من رموز الأدب والفكر والعلم، لأنها مقارنة بين تعامل السياسي المدني أيا كان توجهه، وبين الحاكم العسكري، وبين نخبة المدني ونخبة العسكري، وبين سياسة وفلسفة عهدين، ونمطين من التفكير والحكم، في التعامل مع الرموز أحياء وأمواتا.
بينما الآن يجري على
قدم وساق إزالة مقبرة الشيخ، ومقابر آخرين من عظماء مصر، مثل: أمير الشعراء أحمد
شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وأبو التعليم في مصر، وواضع خططها وتاريخها
العمراني: علي مبارك باشا. أما الأولان، فشاعران معروفان، وبخاصة أولهما، فقد حفظ
شعره وتغنى به العرب في المشرق والمغرب الإسلامي، وكذلك حافظ إبراهيم، وقد تغنت
السيدة أم كلثوم بإحدى قصائده.
وأما ثالثهم، وهو علي
باشا مبارك، والذي كتب كتابا يؤرخ فيه للعمران في مصر، بعنوان: الخطط التوفيقية،
في عدة مجلدات، لأنه لاحظ أن المقريزي كتب تاريخ مصر العمراني حتى عهد الفاطميين،
وبعد وفاة المقريزي لم يأت مؤرخ يغطي هذه المدة الزمنية المهمة، فكتب هذا التاريخ
حتى عهد علي مبارك نفسه، رحمه الله.
هذا ما تقوم به مصر
العسكر، أو مصر السيسي، تجاه قبورهم، بدل التكريم، أو الحفاظ عليها، وهو تكريم
مستحق من أكثر من جهة، من جهة أنها
قبور لأموات، وواجب إكرامها، ولها حرمتها، ومن
جهة: أنها قبور لعظماء خدموا مصر والأمة، والواجب تقديرها، لسنا قبوريين ندعو
لتقديسها، بل نحن مسلمون، نؤمن بأن ما يؤذي الحي يؤذي الميت، وديننا ينهى عن
الجلوس على المقابر احتراما وتقديرا للموتى.
خرج خبر عن محافظة
القاهرة أن القرار غير صحيح، وهو كلام كاذب، إذ حفيدة الشيخ رفعت خرجت في برنامج
مع لميس الحديدي تقول: إن الجهات المسؤولة أخبرتهم بالهدم، وأنها تريد تدخل السلطة
لمنع ذلك، وثار جدل، وتكلم
الرأي العام في المسألة، فهل سارعت المحافظة بهذا الخبر
العجيب، لتفادي غضب الجماهير.
وهو ما حدث مع قبر عميد
الأدب العربي الدكتور طه حسين، ثم قرروا أن يسير الكوبري من فوقه، ليعبر تعبيرا
دقيقا عن المرحلة، وحكم العسكر: محور ياسر رزق، وهو صحفي مع تقديرنا للصحافة، لكن
ليس له إسهام ولا دور بارز في تاريخ الصحافة، ليكون: ياسر رزق فوق، وطه حسين تحت،
صورة معبرة عن سياسة وفلسفة المرحلة.
لقد قارنت بين معاملة
النحاس باشا، والسيسي مع الشيخ رفعت، وغيره من رموز الأدب والفكر والعلم، لأنها
مقارنة بين
تعامل السياسي المدني أيا كان توجهه، وبين الحاكم العسكري، وبين نخبة
المدني ونخبة العسكري، وبين سياسة وفلسفة عهدين، ونمطين من التفكير والحكم، في
التعامل مع الرموز أحياء وأمواتا.