يتناول هذا المقال، الذي تنشره "عربي21" في جزأين، الأفكار الأساسية التي جاءت في مداخلة الشيخ راشد
الغنوشي في المسامرة الرمضانية التي أحيتها جبهة الخلاص الوطني بمناسبة مرور سنة
على تأسيسها يوم 25 من رمضان 15 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
وقد قدم محمد القوماني القيادي بحركة النهضة بهذه المناسبة ورقة قيم
فيها أداء الجبهة والمعارضة مقترحا الحاجة لتجاوز خط المعارضة ومقاومة الانقلاب في
اتجاه مقاربة يعتبرها أكثر براغماتية تنتقل من أرضية المعارضة الراديكالية
للانقلاب لاعتباره أمرا واقعا والاشتغال من داخل الأرضية التي صنعها والعمل على
العودة للديمقراطية.
وقد كانت مداخلة الشيخ راشد فيها تفاعلا مع مداخلات الحضور وردا على
ما اقترحه الأستاذ القوماني من تغيير الخط السياسي للمعارضة.
مثلت مداخلة الشيخ راشد الغنوشي سببا للادعاء عليه من قبل سلطة قيس
سعيد واعتقاله ثم الاحتفاظ به وسجنه على ذمة القضية، باعتبار أن ما قاله يمثل دعوة
وتحريضا على العنف.
وبغض النظر عن حقيقة هذا الادعاء فقد بينت الأحداث أن الأمر في جوهره
تلفيق على الشيخ راشد، بما أن التسجيل المستعمل من قبل القاضي كان ملفقا وتلفيقا
لما استقطع من جزء من مداخلته من أجل الإيهام بأنه يدعو للتحارب.
وبالرغم من رفض فريق دفاع الشيخ راشد اعتماد هذا التسجيل المفبرك
والتزوير على الرجل ومن ثم استدعاء استعمال التسجيل الأصلي، فقد
تم الاحتفاظ بالشيخ راشد رهن الاعتقال، قبل أن يتم إصدار حكم بسحنه لمدة عام في
قضية أخرى..
يتناول هذا المقال مضمون مداخلة الشيخ راشد الغنوشي بالوصف والتحليل
والاستخلاص عرضا لمجموع المبادئ السياسية التي يقوم عليه الفكر السياسي للغنوشي
والتي يمكن تلخيصها في حاجة المجتمعات العربية لنوعين من المصالحات الثقافية
المؤسسة للإجماع السياسي الذي هو شرط لإمكانية الديمقراطيه فيه. وذلك ابتداءا من
المصالحة بين التيار العلماني والتيار الإسلامي وكذلك المصالحة بين التيار الوطني أو
الأحزاب الحاكمة في الدول العربية والتيارات والأحزاب الديمقراطية.
يدافع الغنوشي على فكرة قوامها أن المصالحة والتوافق يقومان على شرط
القبول بالديمقراطية والحرية ومن هنا يرى أن حدود التوافق الذي يتخذه منهجا تقف
عند حد الاستبداد واحتكار الحكم الذي يجب النضال لمقاومته وتجريمه والثورة عليه
فليس هناك في رأي الغنوشي منطقة وسط يمكن أن تلتقي عليها قوى الثورة مع قوى الثورة
المضادة.
وأخيرا يؤكد الغنوشي أن رؤيته تقوم على الالتقاء بناء على الدفاع على
القيم المشتركة (الحرية والديمقراطية) لا على أساس الاشتراك في الخلفية العقائدية
والأيديولجية باعتبار الذين يتبنون قصر الالتقاء مع الآخرين على أرضية التماثل
العقائدي والأيديولوجي إنما هم إقصائيون ولا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين وإنما يؤسس
فكرهم للحرب الأهلية ولعودة الاستبداد.
أود أن أنبه إلى أن اهتمامي بنص مداخلة الشيخ راشد ينبع من أهمية
المضمون الفكري والسياسي لمداخلته وما تمثله في رأيي من نقلة معرفية في سياق الفكر
السياسي الإسلامي عموما وفي إطار التجربة
التونسية خصوصا بما هي تجربة لحركة
إسلامية، ضمن سياق وطني وفي رقعة سياسية مثلت انطلاق الربيع العربي وصمدت أكثر من
غيرها أمام تمكن الثورة المضادة والاستبداد من العودة لافتكاك الحكم ومازالت
مقاومتها الأقل ثمنا على الشعب والبلاد مقارنة بما يقع في غيرها من الدول العربية.
قبل تناول مضمون المداخلة تحليلا وتقييما واستخلاصا من المهم في رأيي
التعريف بأهم الأفكار الأساسية التي حركت الفعل السياسي للغنوشي خلال الإثني عشر
سنة الماضة.
الديمقراطية والتوافق أو المصالحات التاريخية.. التوافق الإسلامي
العلماني
تقوم هذه الفكرة أو المبدأ على أساس أن الديمقراطية لا تقوم أو تستقر
في غياب أرضية إجماع سياسي بين النخب، ويعتبر هذا الإجماع شرطا لإمكان قيام الديمقراطية
في أي منظومة سياسية، إذ لا يمكن أن تستقر في أي دولة في غياب هذا الاجماع بما أن
الصراع أو الخلاف بين النخب إن مس أسس القيم الديمقراطية والتداول السلمي على
السلطة اهتز استقرار الدولة والحكم، وساد الاستبداد.
وقد دعا الغنوشي بناءا على هذا المبدأ وعمل على ضرورة بلوغ توافق
إسلامي علماني على أرضية الديمقراطية والحرية. وكان ذلك منذ نهايات تسعينيات القرن
الماضي وذلك ثمرة للعديد من الحوارات التي جرت بين النخب الفكرية الإسلامية في
بريطانيا وكذلك ثمرة التقائه بالنخب القومية العربية، ومن هنا سعيه ورفاقه
الإسلاميين والقوميين لتاسيس المؤتمر القومي الإسلامي.
ولما عاد الغنوشي لتونس عمل على تنفيذ وتطبيق هذا المبدأ في أول
حكومة شارك فيها حزبه بأغلبية كبيرة، وكان بإمكان حزبه أن يختار التحالف مع الكتلة
البرلمانية الثانية الفائزة في انتخابات 2012 (كتلة العريضة الشعبية، والتي كانت
تنتسب فكريا للخلفية إسلامية) إلا أن الاختيار في التحالف قام على أساس فكرة
الالتقاء الإسلامي ـ العلماني ومن ذلك تكونت حكومة الثورة الأولى من ثلاثة كتل
واحدة علمانية وثانية اشتراكية وثلاثة إسلامية.
العفو العام.. التصالح مع من يدخل خيمة الدستور من
المحسوبين على المنظومة القديمة
في سنة 2013، وعندما كان خصوم "النهضة" يجتمعون أمام البرلمان
في باردو معتصمين ومطالبين بإسقاط حكومة "الترويكا" وقد كان عددهم في
حدود عشرين ألفا، تم تجميع أغلبهم من عملة وشغيلة العديد من المؤسسات الخاصة
التابعة لشبكة رجال أعمال داعمين لحزب "نداء تونس"، جمعت حركة النهضة
قرابة مائة وثمانين ألف من أنصارها في تحرك مشهود في القصبة حيث مقر الحكومة التي
كان يرأسها وقتها المهندس "علي العريض".
كان أنصار "النهضة" يرفعون شعار "أوفياء أوفياء لا
تجمع لا نداء" وكانت إجابة الشيخ راشد على شعارات أنصار حزبه وهو يشير إليهم
بكف يده "أوفياء أوفياء لدماء الشهداء" ثم قال كلمة شهيرة "من دخل
باب الدستور فهو آمن" واعتبر أن من يقبل بدستور الثورة فهو ابن الثورة.
من الأفكار التي يدعو إليها الغنوشي هي فكرة المصالحة بين الثعالبي
وبورقيبة وهي من العناوين التي يدعو إليها كذلك الفيلسوف المناضل أبو يعرب
المرزوقي.
وهذه الفكرة والتوجه جاء كذلك بعد مسار طويل من الحوار في الأزمة
السياسية في البلاد، بحيث انتهى الغنوشي إلى أن هناك مصالحات تحتاجها البلاد كي
تصبح الديمقراطية فيها ممكنة.
ولذلك فإن الشطر الثاني أو الجناح الثاني لهذه المصالحات وإلى جانب
المصالحة بين التيار العلماني والإسلامي، هي المصالحة التاريخية بين التيار
البورقيبي وبين تيار الثعالبي الذي يعتبر الغنوشي حركته من أبنائه والذي هو كذلك
امتداد للتيار الزيتوني الذي تزعمه الشيخ الطاهر بن عاشور وابنه الشيخ الفاضل بن
عاشور ورفاقهما وتلامذتهما.
ؤكد الغنوشي أن رؤيته تقوم على الالتقاء بناء على الدفاع على القيم المشتركة (الحرية والديمقراطية) لا على أساس الاشتراك في الخلفية العقائدية والأيديولجية باعتبار الذين يتبنون قصر الالتقاء مع الآخرين على أرضية التماثل العقائدي والأيديولوجي إنما هم إقصائيون ولا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين وإنما يؤسس فكرهم للحرب الأهلية ولعودة الاستبداد.
وإذ قامت نخبة حركة "النهضة" بمصالحة فكرية في نهاية
الثمانينيات مع التيار الزيتوني فأصلت لجذورها في تاريخه وبنائه وزعمائه حتى أصبحت
أدبياته وشخوصه وإنتاجه الفكري مما يتشربه قادة "النهضة" بل يخوضون
إضرابات شاقة عن الطعام في سجون بن علي كي يفتكوا الحق في مطالعة كتب الشيخ الطاهر
بن عاشور وتفسيره التحرير والتنوير.
ويرى التيار الإسلامي أن له جذورا في الحركة الإصلاحية التونسية
بداية من خير الدين التونسي وابن ابي الضياف مرورا بالثعالبي والحركة الزيتونية
وعلى راسها بن عاشور والخضر حسين وصولا للغنوشي وحركة النهضة، كما يرى أن هذه
المصالحة بحاجة لإنجاز خطوة تاريخية أخرى تربط ما قطعه بورقيبة ليس فقط مع
الثعالبي بل كذلك مع بن يوسف.
ولذلك عمل الغنوشي على مد هذه الجسور كما كان من أهم مطالب الثورة
بخصوص العدالة الانتقالية إدراج المظالم التي سلطت على اليوسفيين ضمن من يجب جبر
ضررهم.
وفي هذا الإطار دعا الغنوشي لهذا اللقاء بين الإسلاميين وأنصار الحزب
الدستوري وسعى لمد الجسور وربط العلاقة مع القيادات التاريخية للدستوريين أكان ذلك
مع المرحوم حامد القروي، أو المرحوم الهادي البكوش وغيرهما من القيادات التاريخية
بما في ذلك الأمين العام السابق للتجمع الدستوري الديمقراطي السيد محمد الغرياني
الذي استدعاه كي يكون مستشارا له في رئاسة البرلمان في إطار إعداد قانون المصالحة
الوطنية.
كما عمل قبل ذلك على أن لا يعطل المجلس التأسيسي بتشريعاته إمكانية
ادماج المحسوبين على المنظومة القديمة في حضن الثورة، أكان بمعارضته للقانون الذي أسمي
بقانون تحصين الثورة، أو القانون الذي اقترح لوضع سن أقصى للترشح للرئاسيات 2014
ما كان سيؤدي لإقصاء الراحل الباجي قايد السبسي الرئيس السابق للجمهورية ورئيس حزب
"نداء تونس" الذي كان وقتها خصما لحركة "النهضة" وشركائها في
الحكم.
"الإسلام السياسي".. "المسلمون الديمقراطيون".. تحرير الإسلام
من الإسلاموية تأسيسا على مقولة المسلمين الديمقراطيين، أو المسلم الديمقراطي.
من المضامين الأساسية التي كانت موضوع حوار طويل في المحيط الفكري
الذي عاشه الغنوشي في لندن مع نخبة من المثقفين الإسلاميين والغربيين والقوميين بالإضافة
لدائرة من نخبة الحركة الموجودين في لندن أو في إطار الحلقة الفكرية التي كانت
تقام في لندن ويشارك فيها عدد من نخبة الحركة وقياداتها عن بعد إثر خروجهم من سجون
بن علي.
وقد تناسب هذا الحوار مع مضامين ودراسات فكرية أنتجتها مجموعة الأزمات
في نهاية التسعينيات عن موضوع "الإسلام السياسي" والسياقات التاريخية
لهذا المصطلح والذي جاء في سياق سلبي وقدحي في وصف الإسلام والمسلمين بصفتهم
واعتمادا على خلفيتهم الفكرية ورؤيتهم الكونية أن يشاركوا في الفضاء العام بما في
ذلك المشاركة في إدارة الفضاء العام أي المشاركة السياسية وتكوين أحزاب ذات خلفية إسلامية.
ومنذ ذلك الوقت انكشف أن وسم "الإسلام السياسي" يمثل وصفا
مسقطا على الفضاء العام للمجتمعات الإسلامية وإقصاءا للإسلام من الفضاء العام
وتحويله لحالة عقائدية كنسية أي تحويل "الدين" من السياق التداولي
الإسلامي للسياق التداولي المسيحي، حيث تقسم الكنيسة المسيحية بين الفضاء العقائدي
والفضاء العلماني الدنيوي.
وفي هذا الإطار تم التوصل لابتكار مصطلح "المسلمون الديمقراطيون"
أو "المسلم الديمقراطي"، مقابل مصطلح "الإسلام السياسي" الذي
يقتضي أن هناك إسلاما غير سياسي، بينما يقتضي مصطلح "المسلمون الديمقراطيون"
تمييزا داخل المسلمين في فضاء الإسلام في مقاربتهم لإدارة الشأن العام بين من
يتبنى فكرة الديمقراطية ومن ينكرها، وبين من يمكن وصفه بالديمقراطي ومن يمكن وصفه
بالمسلم المستبد وذلك بناءا على فعله وممارسته لا بناءا على عقيدته وأفكاره.
ويقتضي هذا كسر الحاجز المصطنع الذي بني على رؤية ترى تناظرا بين الإسلام
والمسيحية وبالتالي في الفصل بين الفضاء الإعتقادي والتعبدي، ولا أقول الديني،
وبين الفضاء العلماني الدنيوي ومن هنا اعتبار أن الفضاء التعبدي الإعتقادي لا
يتدخل في الفضاء العام وإدارة شؤونه.