عندما تشاجر وزير الداخلية الفرنسي مع رئيسة الوزراء الإيطالية بخصوص مسألة
الهجرة، اعتبرت أن زاوية التسييس لن تضيف الكثير إذا تركز كل المقال حولها. ففي النهاية معروف عن المسؤولة الإيطالية جورجيا ميلوني أنها وضعت التوجه الشعبوي في قلب سياستها، وكان متوقعا عندها أن يتكرر سيناريو تغاضي
إيطاليا عن استقبال سفن من قبيل سفينة «أنقذوا المتوسط» التي تكفلت
فرنسا شكل كامل بمراقبة هويات من على متنها وتحديد مسارهم اللاحق في العام الماضي.
أن تتحدث عن الممر البحري الذي يلجأ إليه (لأن اللجوء يبدأ من هنا) تونسيون أو عن جبال «الألب ماريتيم» والحدود الإيطالية الفرنسية المشتركة التي يلجأ إليها بوجه خاص أفارقة من أريتريا أو من السودان أمر معروف أيضا، كما هو معروف تبادل الدول الاتهامات بالتقاعس فيما بينها.
لكن ما هو أقل معرفة هو قصة المزارع سيدريك هيرو الذي واجه الاعتقال فالمداهمة فالمحاكمة بتهمة» مساعدة وإيواء ونقل «مهاجرين غير شرعيين في منطقة لارويا» على الحدود الفرنسية الإيطالية الجبلية.
وكانت القصة بداية تساؤلات أربكت السلطات كما أربكت المواطن. وقد طرحت جذريا السؤال الفلسفي بامتياز، سؤال الحريات الفردية. في البداية، رفضت المحكمة النظر في قضية سيدريك ذاهبة عكس مرافعة المدعي العام، ممثل الدولة، معتبرة بادرة المزارع ناجمة عن «دواع إنسانية بحتة لا تمت إلى المساعدة على الإقامة غير الشرعية بصلة». ثم عكست محكمة الاستئناف القرار تماما بعد مرافعة المدعي العام الجديدة فأدانت سيدريك «لإدخال ونقل ومساعدة أجانب على الإقامة غير الشرعية في فرنسا» وغرّمته مبلغ ثلاثة آلاف يورو، قبل أن يعاود المدعي العام استئناف القرار لتدين المحكمة سيدريك هذه المرة بأربعة أشهر سجن غير نافذة.
لقد أقام سيدريك هيرو على أراضيه مركزا استقبل فيه مئتي مهاجر من السودان وإريتريا ومن هنا طرح القضاء السؤال التالي: هل تصرف سيدريك كمهرّب لمهاجرين غير شرعيين؟
وهنا تضاربت الأجوبة. رأى المدعي العام أن سيدريك خرق القانون لأنه ساهم على حد وصفه في الإقامة غير الشرعية لهؤلاء الناس على أساس أنه جنبهم من جهة عمليات مراقبة الهوية من قبل أفراد الشرطة وأنه، من جانب آخر» جنى مقابل ذلك» وإن كان غير مادي لاستفادته من الواقعة بتلميع صورته إعلامياً.
لكن وجهة نظر المجلس الدستوري كانت مختلفة عن كل القراءات السابقة بعد أن أقرت بأن «حرية مساعدة الغير بهدف إنساني يمنع البت في شرعية إقامته على الأرض المستقبلة من عدمها».
وكان لهذا الإفتاء تأثير بليغ بحيث أدخل قرار المجلس الدستوري الفرنسي للسادس من حزيران/يونيو 2018 تغييرات على نص قانون الهجرة في فرنسا بإعلاء «مبدأ الأخوة» على تهمة «تهريب المهاجرين»، على عكس ما أوّل الادعاء.
لقد أكد المجلس الدستوري أن «القضية النضالية لا يمكن أن تبعد عن الإنسان مقاصده السامية»، أي بعبارة أخرى، أن سعي سيدريك إلى تصدر الواجهة لخدمة مصلحة خاصة كان باطلا. فلا تهريب لمهاجرين ولا تلميع صورة وبالتالي أسقط القضاء التهم التي كان قد رفعها.
هنا، عرف القضاء الفرنسي كيف يغلق الباب أمام تناقضات القانون الداخلية حينما أقر بـ «مبدأ الأخوة « الذي ليس قانونيا بالطبيعة لأن طبيعة الدولة في هذا الملف، كما في ملفات كثيرة أخرى، أن تكون «مكرّة – مفرّة، مقبلة – مدبرة معا».
فلا عجب إن عادت الأبواب، إن لم يكن إلى الانغلاق، على الأقل إلى مواربات لا يمكن البت في ديمومتها طالما عادت السياسة إلى التسلل بين ثناياها والدولة إلى طبيعتها.
لكن لا عجب أيضاً، في مجتمعات تتم فيها مصادرة كلمة الشعب، أن نرى استفاقات حكمة تعيد، عبر تفعيل أجهزة الدولة المستقلة، كتابة العلاقة بين الحكام والمحكومين.
القدس العربي