الإنسان القديم الذي وقف أمام صخرة ونحتَ عليها اسمه وبعضاً من أعماله في الخربشات الصخرية، ماذا أراد بذلك؟
ذلك الإنسان البدائي الذي ترك داخل الكهف بعضاً من الرسوم والإشارات، ماذا أراد، ولماذا نقش؟
الملك السبئي اليمني الذي عاد من الحرب منتصراً وسجل على عمود صخري ضخم أخبار انتصاره، مع بعض التفاصيل، ماذا أراد أن يقول؟
وتلك التماثيل والصور التي تملأ الكنائس والمعابد القديمة، وتلك الأضرحة الضخمة وشواهد القبور والكتابات التي تشير إلى المدفونين من «الكهنة والقديسين والأولياء»، ما هو الهدف منها وماذا تريد أن تقول؟
الشاعر الذي يكتب القصيدة، والفنان الذي يبدع اللوحة، والروائي الذي ينسج الرواية، والسيناريست والمصور والموسيقار والمطرب والعالم والمخترع والمبدعون من مختلف المشارب والثقافات واللغات، ماذا يريدون من وراء أعمالهم الإبداعية؟
ما هو الهدف الكبير الذي يبحثون عنه؟
«الزعيم الخالد» ماذا أراد؟ والسياسي المتمكن والمحارب «الجسور» والكاتب الكبير، كلهم ماذا يريدون بالضبط؟
هل هي الثروة؟ هل هي السلطة؟ هل هي الشهرة؟ هل هو الثناء؟ هل هو المجد؟ هل هو
الخلود؟
التماثيل والصور التي تملأ الكنائس والمعابد القديمة، وتلك الأضرحة الضخمة وشواهد القبور والكتابات التي تشير إلى المدفونين من «الكهنة والقديسين والأولياء»، ما هو الهدف منها وماذا تريد أن تقول؟
قد تكون الثروة والسلطة والشهرة والثناء والمجد هدفاً مراوغاً للعمل، لكن المحفز الإبداعي ليس ذلك، لأن الشاعر الذي يكتب قصيدته يكون مهجوساً بروح الإبداع، والروح لا تبحث عن المادة مثلاً، ولكن عن شيء آخر، والذين يكتبون أو يعملون لأجل المال يأتي عملهم دائماً مشوباً بنقص لا يمكن أن تقارن معه أعمال أولئك الباحثين عن الخلود.
إنه البحث عن الخلود إذن، التشبث بالحياة، اللجوء إلى صخرة تحتفظ بأسمائنا وذكرياتنا وقصائدنا وأغانينا وأحلامنا وأخبار معاركنا وانتصاراتنا وأعمالنا الخالدة أو التي نراها كذلك، أو لنقل صخرة تحتفظ بنسخة منا تبقينا على قيد الحياة، في انعكاس فطري لرغبتنا في الخلود، وهروبنا من الموت الذي يعاني الإنسان من حتميته والذي يدفعه للهروب منه إلى اللوحة والقصيدة والأغنية والكتابة والفلسفة، وإلى المغامرة والحرب والخراب والدمار، وهو الموت الذي جاء في القرآن أننا في اللحظة التي نهرب منه فإننا إنما نسرع الخطى إليه بكل سذاجة: «قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم»، ونحن في رحلة متواصلة هرباً من المجهول والماوراء، وهرباً من الموت الذي يلاقينا في طريق الهروب منه.
من هنا كتب الشاعر قصيدته لتخلد اسمه بعد ذهاب رسمه بفعل معاناة إبداعية مبعثها الشعور بالموت ومفارقة الحياة، وهو الشعور الذي سيطر على بتهوفن وهو يبدع أجمل السيمفونيات، والذي نتجت عنه «رسالة الغفران» للمعري، و «الكوميديا الإلهية» لدانتي، والذي استبد ببوذا الذي خرج من القصر إلى الغابات والأنهار والقفار باحثاً عن شيء لم يجده في القصر، فانطلق نحو حياة التشرد والفقر والفاقة بحثاً عن خلوده، عن روحه، عن سعادته الأبدية، أو «النيرفانا» التي تتخلص بها الروح من كل معاناتها الناتجة عن سجنها داخل قالب من الطين كتب عليها ألا تجد سعادتها إلا بالخروج منه، لتعود حرة طليقة في رحاب الخلود الذي يبحث عنه كل من كُتب عليه الموت.
التماثيل والصور التي تملأ الكنائس والمعابد القديمة، وتلك الأضرحة الضخمة وشواهد القبور والكتابات التي تشير إلى المدفونين من «الكهنة والقديسين والأولياء»، ما هو الهدف منها وماذا تريد أن تقول؟
وتحدثنا الأسطورة السومرية أن جلجامش حاكم مدينة «أوروك» كان يبحث عن خلوده، ذلك البحث الذي جعله يتصرف بنزق وطيش لم تسلم منه فتاة في مدينته التي عانت من نزواته وطيشه وظلمه، إلى أن قرر – بفعل حنوه على صديقه «أنكيدو» – أن يبحث عن عشبة الخلود، وعوضاً عن العشبة عاد جلجامش بجواهر الحكمة، وفهم عميق لأسرار الحياة.
كانت عقدة ذلك السومري حسب الأسطورة هي أن أمه الإلهة «ننسون» تزوجت من بشر فجاء جلجامش بثلثي إله وثلث بشر، الأمر الذي جعله يشد الرحال باحثاً عن ثلثه الآخر، لتكتمل «ألوهيته» باكتمال خلوده الذي بحث عنه في العشبة التي دله عليها «أوتونبشتم»، وعندما وجدها جلجامش توجه عائداً إلى مدينته، وأثناء الرحلة سرقت الحية منه تلك العشبة، فواصل رحلة العودة خائب الحظ، غير أنه أدرك أن الخلود البشري لن يكون بالوصول إلى مرتبة «الإله»، ولكن خلود الإنسان يكمن في إنجازه، هذا الإنجاز الذي رآه جلجامش يتجلى في تحقيق العدل الذي يعني توازن رغباته الذاتية مع مسؤولياته تجاه «أوروك».
ومثل جلجامش كان أبو الطيب المتنبي الذي خرج يطلب ملكاً لكنه أثناء رحلته في طلب الملك اكتشف أنه غدا ملكاً متوجاً بقصائده الخالدة على كافة الشعراء، وفي حين ذهب الملوك والأمراء طي النسيان ظل المتنبي يملأ الدنيا ويشغل الناس، وسيظل إلى ما شاء الله.
وقديماً تحدث
أفلاطون عن «المدينة الفاضلة»، وهي التي حادت فيما بعد عن «تعاليم الآلهة» فعاقبتها عقاباً شديداً غاصت بموجبه في أعماق المحيطات، وهي مدينة وصلت إلى قمة الرقي والتطور الصناعي والعلمي والتكنولوجي الذي لم تُسبق إليه، قبل أن تحل بها الكارثة، ولا يزال الإنسان يبحث عن «أطلانتس» الأسطورية التي غرقت بفعل طوفان عظيم وذهبت بعيداً في أعماق المحيطات، لازلنا نبحث عنها في أعماق بحارنا الذاتية التي لا قرار لها ولا نهاية.
وفي رحلة الزعيم النازي الألماني أدولف
هتلر نحو أسطورته الشخصية أو خلوده الذاتي أمر جميعة نازية اسمها «أتولا» بتكليف بعثة علمية للبحث عن أصول «العرق الآري» الذي ربما كانت أصوله تعود إلى تلك القارة الأسطورية «أطلانتس»، وهذا ما جعل هذا العرق مميزاً في نظر النازيين الذين دفعهم جنون هتلر وبحثه عن «خلوده الشخصي» إلى تفجير الحرب الأكثر دموية على مرّ التاريخ.
وإضافة لهتلر يحتفظ التاريخ بكم هائل من الأسماء لشخصيات استبدت بها الرغبة في الخلود فخرجت عن مقتضيات الحكمة بادعائها أنها آلهة أو أنصاف آلهة، رغبة منها في التحلي بالمجد، وبحثاً عن خلود خادع، وإمعاناً في التشبث بالحياة، بما فيها من سلطة وثروة وأمجاد فارغة، الأمر الذي نتجت عنه جرائم مروعة، لا تزال تتكرر حتى اليوم، بسبب نزوع الموتى للحياة ورغبة الفانين في الخلود.
وتحدثنا الأديان أن الإنسان الأول كان يعيش في «جنة» فيها من كل ما يتمناه، غير أنه طلب الخلود، فأكل من الشجرة التي قال له الشيطان إنها «شجرة الخلد»، فأكل آدم وزوجه منها، فكُتب عليهما وعلى ذريتهما الخروج من الجنة، لنبدأ جميعاً رحلة البحث عن الجنة مرة أخرى، وتلك هي مأساة الإنسان وهذا هو قدره ومسؤوليته وفضيلته في الوقت ذاته.
وهناك نص مشرق في سورة الأنبياء من القرآن الكريم، يقول مخاطباً النبي محمد عليه السلام: «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، أفإن مت فهم الخالدون»؟، في إشارة إلى أن الموت مصير الإنسان، وفي إشارة أخرى خفية إلى أن الطريق الأقرب للخلود إنما يكمن في الاتصال بالله «الحي الذي لا يموت»، وهي طريقة الأنبياء والمرسلين وكبار الأولياء والعارفين بالله الواصلين إلى جنة «هم فيها خالدون»، حسب التعبير القرآني الكريم.