تتفاجأ كيف أن البعض تفاجأ بعودة
الأسد إلى جامعة الدول
العربية وقمّتها، وفي السعودية. فالمعلوم أن المجتمعين في القمة، وما سبقتها من
القمم، لا يختلف كثير منهم عن الأسد في إجرامه وفي بنية الحكم التي أرساها أو
ورثها عن والده على أساس التمسك بالكرسي، مهما كلف الأمر من أثمان على مستوى
الأرواح البشرية أو الارتهان للخارج وتمزيق وحدة البلاد. ودون العودة للتاريخ
القديم منه أو المعاصر، تكفينا عشر سنوات عجاف تلت وأد أول تجربة انتخابية
ديمقراطية شهدتها المنطقة العربية، منذ ما سُمي بـ"الربيع العربي"، في
مصر؛ على جثث مئات من القتلى بالميادين وآلاف المعتقلين في السجون والمهجرين في
الداخل والخارج، وملايين ممن كفروا بالسياسة وما ينتج عنها.
البيادة العسكرية، ومن يلبسها ممن احتكروا مُلكية السلاح
واستعماله في مواجهة الشعب الثائر منه والمستكين، هي الغالبة على أمرها على طول
وعرض الجغرافيا العربية منذ عقود، وزادت سطوتها في السنين الأخيرة بعد أن تولى
أمرها ضعاف نفس وتجربة ومحدثي نعمة، استحْلوا السلطة وتنافسوا حولها دون اعتبار
لشرف العسكرية المفترض فيمن يتزيّنون بنياشين ظفروا بها على حين غفلة أو تبادلوها
عربون وئام ومودة، بلا معارك أو انتصارات تحسب لهم في ميادين الوغى والشرف،
والدفاع عن الأرض والعرض في مواجهة الغزاة أو المحتلين.
ليس غريبا أن يعود الأسد ليجلس بجانب "إخوانه" في اقتراف الجرائم والمجازر وإن لم يلجؤوا، كما فعل، للبراميل المتفجرة ولا الأسلحة الكيماوية المحرمة. فالعشر العجاف كانت كافية ليستعيد "رفاق السلاح" المبادرة ويعيدوا كل من بقي على قيد الحياة من "المتمردين والثوار" إلى بيت الطاعة صاغرين
كان طبيعيا أن يعود الأسد إلى حضنه العربي بعد أن قضى
سنوات "طرده" في أحضان الفرس والروس، وغيرهم ممن استحلى الارتماء في
أحضانهم الدافئة مقابل الحفاظ على كرسي أورثه له الوالد بانقلاب. فالأنظمة
العسكرية أو المخابراتية أو البوليسية صارت العلامة الواضحة لأنظمة العربان في
الشرق والغرب على حد سواء. لا صوت يعلو على طقطقة الأحذية العسكرية وأصوات مدافع
منتسبيها وما تيسّر لهم من رشاشات وطائرات تقصف الأحياء السكنية وتمتهن كرامة
أبنائها. العسكر والمليشيات في بلداننا العربية يد واحدة في قتل أبناء الشعب
وتشريدهم مهما أبانوا عن اختلافات في تقاسم السلطة لا في معناها أو مغزاها.
ليس غريبا أن يعود الأسد ليجلس بجانب "إخوانه"
في اقتراف الجرائم والمجازر وإن لم يلجؤوا، كما فعل، للبراميل المتفجرة ولا
الأسلحة الكيماوية المحرمة. فالعشر العجاف كانت كافية ليستعيد "رفاق
السلاح" المبادرة ويعيدوا كل من بقي على قيد الحياة من "المتمردين والثوار"
إلى بيت الطاعة صاغرين. الأجهزة المخابراتية والبوليسية تكاتفت جهودها لإحباط
"مؤامرات" دمقرطة المجتمعات، وصحّحت بذلك مسارات "ثورات" كان
أطلقها شباب عديمو خبرة بالشأن العام، وكان لا بد من استثارته بخطابات افتتاح الانقلابات،
العسكرية منها والمدنية، بالوعد بالإدماج وإطلاق مبادرات صناعة القيادات.
يحق للأسد أن يعود لكرسيه بعد طول غياب، ويحق له أكثر أن
يطنب في إلقاء خطابه ويسجع في بناء الجمل والفقرات، بل أن يعطي الدروس في السيادة
والأخلاق ويحذر من مد توسعي عثماني مغلف بفكر إخواني؛ أسبغ عليه وصم الانحراف. يحق
له ذلك، فالضيف والمضيف على نبرة واحدة تبدأ بمنشار وقتيل بلا قبر وتنتهي ببراميل
متفجرة ومقابر جماعية بلا أسماء.
لقد بدأ العمل على إعادة تدوير نظام الأسد وتبييض صفحة جرائمه في السر منذ سنوات. لكن قمة الجزائر، قبل أشهر، كانت الفرصة السانحة ليخرج النظام العسكري العربي بمختلف جنسياته وتلاوينه للجهر بضرورة عودة العروبي المنافح عن القدس والممانع أمام الامبريالية الغربية إلى "الحظيرة"، فما أحوج مجايليه من وجوده للدفاع عن العناوين الكبرى للأمة العربية وصياغة مستقبلها
لقد بدأ العمل على إعادة تدوير نظام الأسد وتبييض صفحة
جرائمه في السر منذ سنوات. لكن قمة الجزائر، قبل أشهر، كانت الفرصة السانحة ليخرج
النظام العسكري العربي بمختلف جنسياته وتلاوينه للجهر بضرورة عودة العروبي المنافح
عن القدس والممانع أمام الامبريالية الغربية إلى "الحظيرة"، فما أحوج
مجايليه من وجوده للدفاع عن العناوين الكبرى للأمة العربية وصياغة مستقبلها.
فلسطين وقضيتها تنفع لتبييض السجلات الإجرامية ولتبرير القتل والتدمير والتجويع
والقهر الذي تلقاه بقية الشعوب. لقد صار نيل "شرف" إعادة الأسد إلى
الحظيرة مبلغ المُنى ومنتهى الأحلام.
ولأن الانقلابيين لُحمة واحدة في مواجهة الشعوب، فقد كان
قيس سعيد أكثر "الرؤساء" سعيا للقاء بشار؛ لعل في لقائه يتحقق الاعتراف
به مستبدا جلادا بقفازات "حريرية"، ليس عن تعفف عن استخدام العنف بل
لعدم القدرة على اقترافه لانعدام الآليات والإمكانات.
وكم كانت الصورة دالّة حين رأينا الأيادي الملطخة
بالدماء تمتد إليه للمصافحة، بحرارة غير مستغربة، من جلاد وقاتل لم يتورع قبل
أسبوعين من إرسال ممثل عن رئيس أركانه للاجتماع، في الجزائر، في طاولة واحدة مع
"رئيس أركان" مليشيا مسلحة تحمل السلاح في مواجهة بلد عربي ممثل ومؤسس
للجامعة العربية وتنظيماتها. ففي الأسبوع الأول من شهر مايو، التأم اجتماع ما يسمى
"قدرة شمال أفريقيا"، بحضور الجزائر ومصر وحكومة الوحدة الوطنية الليبية
وجبهة البوليساريو، وغياب تونس وموريتانيا، للحديث عن تحديات الأمن والسلم في المنطقة،
من قبيل "الإرهاب والجريمة المنظمة والصراعات المسلحة والنزاعات
الحدودية".
ولأن الانقلابيين لُحمة واحدة في مواجهة الشعوب، فقد كان قيس سعيد أكثر "الرؤساء" سعيا للقاء بشار؛ لعل في لقائه يتحقق الاعتراف به مستبدا جلادا بقفازات "حريرية"، ليس عن تعفف عن استخدام العنف بل لعدم القدرة على اقترافه لانعدام الآليات والإمكانات
نسي رئيس الانقلاب في مصر كلمات خطاب سابق له كان يقول
فيه إنه "لا مكان لمفهوم المليشيات والمرتزقة وعصابات السلاح في المنطقة، وإن
على داعميها ممن وفروا لهم المأوى والمال والسلاح والتدريب، وسمحوا بنقل العناصر الإرهابية
من موقع إلى آخر أن يراجعوا حساباتهم وتقديراتهم الخاطئة، وأن يدركوا بشكل لا لبس
فيه أنه لا تهاون في حماية أمننا القومي وما يرتبط به من خطوط حمراء". السيسي
كان ألقى الخطاب في قمة جدة للأمن والتنمية، بحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن، قبل
أقل من سنة من الآن.
أما ما نسيه القادة ممن حضروا قمة جدة العربية قبل أيام،
فكان مشهد معمر القذافي وهو يعتلي منبر قمة العرب بدمشق، في العام 2008، ليحذر
القادة من مصير أسود محتوم. كان رئيس القمة يومها هو بشار الأسد الذي أسرف في
الضحك وهو يستمع لكلمات القذافي، حيث قال: "أبو عمار قعد في الأسر وإحنا
بنتفرج عليه، لماذا لم نقرر عدم انعقاد قمة بدونه؟ وكيف نسمح بشنق رئيس دولة عربية
وعضو في
الجامعة العربية؟ كنا مختلفين مع سياسات صدام وكلنا مختلفون مع بعض حتى
الآن، لكن لماذا نسمح بالتدخل الغربي؟". القذافي لخّص حال "القادة"
يومها بالقول: "ما في حاجة تجمعنا أبداً إلا القاعة دي.. الدور جاي عليكم
كلكم".
حضر أبو مازن في قمة مكة بعد أن سمح له الاحتلال
بالتحرك، لكن عددا ممن استمعوا لخطاب القذافي في دمشق غابوا بعد أن تحققت نبوءة
العقيد. الجيل الجديد من "القادة" يعتقد أن رياح التغيير قد ولّت وأن
شموس الثورات قد أفَلَت، لكن التاريخ علّمنا كيف يعيد إنتاج نفسه ولو في صيغ
مختلفة، لكنها في الغالب تكون أكثر دراماتيكية.