الشارع العربي اليوم عيّنة حية جديرة بالقراءة والتحليل في موقفه
المتباين من
الانتخابات التركية عامة ومن فوز الرئيس أردوغان بشكل خاص. شغلت
الانتخابات الرئاسية هناك وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف المنصات الإعلامية
الرسمية والخاصة بشكل يوحي بأنها تقع في بلد عربي ما.
لنضع جانبا حسابات الأنظمة العربية من هذه الانتخابات وهي التي تتحرك
حسب أجنداتها الخاصة ومصالحها الضيقة التي تكاد تقتصر على بقاء النظام في السلطة
دون تهديد شعبي يذكر. ما يهمنا هنا هو الشارع العربي والوعي الجمعي للشعوب
والجماهير لنرصد أسباب الانقسام من الديمقراطية التركية أولا ومن الرئيس التركي
ثانيا وعلاقة ذلك بتفاعلات المشهد العربي.
أنصار تركيا أم أنصار أردوغان؟
قد لا نبالغ في القول إذا أقررنا بأن أكثر الجماهير العربية كان متحمسا لفوز الرئيس التركي الذي يرى فيه مثالا لحاكم عادل نجح في نقل بلده من بلد
تنموي متوسط إلى قوة إقليمية ودولية يحسب لها ألف حساب. هو كذلك عند كثيرين رئيس
مسلم يمثل امتدادا لتاريخ الخلافة العثمانية الإسلامية في مواجهة الغرب المسيحي
والقوى الاستعمارية العالمية سواء في أوروبا أو في أمريكا.
استفاد الرجل كذلك من حالة العداء المعلنة التي تشنها ضده المنابر
الإعلامية الغربية خاصة بعد فشل انقلاب 2016 والتي تنعته دائما بما تنعت به القوى
السياسية العربية المعارضة على الساحة المحلية وتعتبره امتدادا لها. أما أهم أسباب
التعاطف العربي مع الرئيس التركي فتتمثل في المقارنة بينه وبين السلطة العربية
الحاكمة التي رسخت قدم الاستبداد ورفضت القبول بشروط اللعبة الديمقراطية عبر تشجيع
الانقلابات العسكرية وقمع المعارضين.
مهما اختلفت الأسباب فإنها تعكس حالة اليُتم التي يعاني منها الوجدان
السياسي العربي وهو ينتظر منذ قرون القائد المنقذ والبطل الذي سيحرر الأمة من حالة
الهوان التي تردت فيها. صحيح أنّ صورة الزعيم المفقود حاضرة بقوة في مخيال الشارع
العربي ووجدانه وليس حبه المعلن للرئيس التركي إلا تصعيدا لهذا الفقد الذي لم يجده
في وطنه خاصة بعد نجاح شعب تركيا في الصمود أمام كل المحاولات الانقلابية في
الداخل والخارج.
تبدو تركيا منحسرة في هذا التصوّر الشعبي وراء صورة الزعيم بل تبدو
صرحا هلاميا غير محدد المعالم يختلط فيه الإرث العثماني بمشهد الخلافة بانتصارات
جيوش المسلمين وحتى بمشاهد الأفلام التركية التاريخية. يقارن كثير من العرب حال
تركيا بحال بلدانهم لكنهم يغفلون معطيات أساسية أهمها أن تركيا دولة أمة لم تنجح
المعاهدات الاستعمارية المذلة في تقسيمها. كما يغفلون الدور المركزي الذي لعبته
النخب التركية القومية والإسلامية المحافظة وحتى جزء من النخب اللبرالية في
إنقاذها من السقوط والتبعية رغم شراسة الحكم العسكري وتجريف النظام الكمالي مع
أتاتورك لامتدادات تركيا المشرقية.
أعداء تركيا أم أعداء أردوغان؟
أما الفريق المقابل فيمثل القسمَ الأكبر منه أبواقُ النظام الرسمي
العربي المعادي لنهضة تركيا المسلمة خاصة من الممالك الخليجية أو من الأنظمة
العسكرية التي نجحت في تشكيل جزء الأكبر من وعي الشارع العربي.
ينطلق هذا الفريق في عدائه لتركيا من ثلاث مسلمات أساسية:
أما الأولى فهي اتهامه لأردوغان بأنه يشكّل امتدادا للجماعات
الإسلامية العربية وخاصة جماعة الإخوان المسلمين وهي مسلّمة يختلط فيها تصور
التيار المحافظ في تركيا بالإسلام السياسي العربي وصولا إلى اتهامه برعاية
الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة في مناطق النزاع الإقليمية وخاصة في سوريا
إضافة إلى مشروع الخلافة التركية. بقطع النظر عن سذاجة هذه القراءة فإنها تلقى في
الشارع العربي ترويجا مريحا سواء من طرف التيارات القومية الموالية للمشروع
الإيراني أو من قبل أذرع المنظومات العسكرية الانقلابية فضلا عن التيارات اليسارية
واللبرالية.
إنّ التعبير عن حالتي الاحتفال والعداء في الشارع العربي تجاه فوز الرئيس التركي يمثل انعكاسا صريحا لحالة الصراع العربية في الداخل بين منوالي التحرر والاستبداد رغم اضطراب الصورة وعدم وضوح تفاصيلها في وجدان الجمهور.
تدرك هذه الجماعات أنّ رسوخ الديمقراطية التركية يمثل تهديدا وجوديا
لها وللنظام الاستبدادي العربي الذي تقاتل من أجله وجوده الذي هو شرط لوجودها هي.
لا يرعب الاستبداد العربي شيء مثل نجاح التجارب الديمقراطية التي تمارس عبرها
الشعوب حقها وواجبها في الاختيار الحر الواعي خاصة إذا كان في ظل نظام محافظ أو
إسلامي.
ليس عداء البعد الإسلامي في التجارب الديمقراطية إلا شماعة تخفي
وراءها هذه الجماعات خوفها من وصول التجربة الديمقراطية إلى البلاد العربية لأن
هذه التجربة هي السبيل الوحيد الذي يعبر عن تحرر الإرادة الشعبية من وصاية
الاستبداد وقبضة الأنظمة الأمنية. عداء أردوغان ليس عداء لتركيا الإسلامية فهذه
أكذوبة عربية بل هو عداء لتجذر التجربة الديمقراطية في تركيا المسلمة. لم يفز
الرئيس التركي لأنه رئيس محافظ فقط بل لأنه يعبّر عن إرادة الشعب التركي الحرة
بفضل ما حققه لشعبه وبلده من إنجازات تاريخية في مجالات كثيرة لعلّ أهمها انحسار
الوصاية الغربية.
إنّ التعبير عن حالتي الاحتفال والعداء في الشارع العربي تجاه فوز
الرئيس التركي يمثل انعكاسا صريحا لحالة الصراع العربية في الداخل بين منوالي
التحرر والاستبداد رغم اضطراب الصورة وعدم وضوح تفاصيلها في وجدان الجمهور.
لا يمكن أن ننكر أن المسار التركي رغم امتداده الاقليمي المباشر يبقى
مسارا تركيا بشكل أساسي يعبر عن الحالة التركية قبل كل شيء لكن لا يمكن أن نتغاضى
عن الاعتراف بقوة تأثير هذا المنوال في الساحة العربية. يبقى السؤال المركزي هو
التالي : كيف يمكن للشارع العربي أن يحوّل الحالة العاطفية من تركيا سلبا كانت أو
إيجابا إلى حالة وعي تنفيذي قادر على استلهام التجربة والنسج على منوالها؟
رغم الانقلابات العسكرية ورغم الأزمات التي مرت بها تركيا فإن العبور
نحو الحالة الديمقراطية مهما كان لونها كان عبورا سلسا مقارنة بالحالة العربية
التي لا تزال تتخبط في الصراعات والحروب والانقلابات الدامية.
إن ردود الأفعال الأولية التي ترجمتها خطابات التهنئة الصادرة عن بعض
القيادات العربية تعكس قبول النظام الرسمي العربي بالأمر التركي الواقع الذي لا
يمكن إنكاره أو تغييره على المدى القصير على الأقل. بل إن هذه الأنظمة ستتحرك
مستقبلا بناء على مهادنة النظام التركي والإقرار به فاعلا إقليميا ودوليا لا يمكن
تجاوزه وهو الذي أعلن أنه سيؤسس لتركيا الجديدة بعد ثبات التجربة الديمقراطية
ورسوخ قدمها.
لن يفيد عداء تركيا العرب شعوبا وأنظمة في شيء ولن يفيدهم الإعجاب
بها في شيء أيضا لأنها دولة تتحرك ضمن مصالحها الخاصة أولا وأخيرا.. لكنّ الموقف
الأسلم والأكثر حكمة يجب أن ينطلق من دراسة أوجه الاستفادة من التجربة التركية عبر
بناء مشروع متكامل يراعي المصلحة العربية أولا وقبل كل شيء. هذا الخيار لن يكون
ممكنا للأسف على المدى القريب لأن الإرادة الشعبية الواعية القادرة على بناء هذا
المشروع لا تزال إرادة مسلوبة بالقمع والاستبداد وخيانة النخب.
بناء على ما تقدم نعود إلى نقطة البدء وهي المتمثلة في أن كل تحرر
عربي لا يمكن له أن يكون دون التخلص من قبضة الاستبداد الحاكم المكبّل لكل
الإرادات الفردية والجماعية. لن يكون البناء ممكنا ما دام النظام القمعي المصادِر
للوعي والتعبير والحرية الفردية والجماعية قائما وهو ما يؤشر على بقاء المنطقة في
الحالة التي هي عليها من التخلف والتبعية حتى تنجح يوما في بناء مشروعها الخاص
بقطع النظر عما يحدث خارج مجالها القريب والبعيد.