هناك نغمة بدأت
تتردد بشكل مكثف في الآونة الأخيرة، وهو طرح عنوانه: لقد أخطأت الشعوب بالثورة على
الحكام الظلمة. وأتت هذه النغمة بخاصة بعد إخفاق ثورات
الربيع العربي، وعودة الثورات
المضادة بشكل دموي، واستبداد غير مسبوق، في ظل صمت مريب من العالم الغربي، الذي
كان يتغنى أهله والمعجبون به في بلادنا بالدفاع عن حقوق الإنسان، بل تمت معظم
الجرائم في بلدان الثورات المضادة بدعم معلن أو خفي من معظم أنظمة الغرب.
ومما يزعج من هذا
الطرح أن يأتي من بعض من دعوا للثورة على الظلمة، وكأنه الإفاقة المتأخرة، بما
يعبر عن حالة يأس، وإحباط شديد، حتى صار أقصى ما يحلمون به وغيرهم للحقيقة أنه
يكفي أن يخرج النظام المستبد -في مصر وغيره- المسجونين من المعتقلات، ويكفي أي جهد
الآن لأي متواصل مع السلطة أن يخرج أفرادا ولو معدودين، ومن فصائل محددة، وربما من
غير المنتمين لأي فصيل سياسي، أي: أنهم مسجونون بالخطأ أيضا.
ليست المشكلة في
مراجعة النفس، أو نقد الذات، لكن ما يحدث هو جلد للذات، وتنكّر لها، والندم على
أغلى وأعز ما قدمت الشعوب، وهو
الثورة على ظلمتها، وإن لم تصل بها إلى مبتغاها.
وهو أمر طبيعي، إذ إن التحولات والتغيرات الناتجة عن الثورات، لا تثمر بين يوم
وليلة، ولا سنة أو سنوات قليلة، بل ربما تحتاج لعقود، كما يخبرنا التاريخ البعيد
والقريب.
وعبثا يدخل على
الخط في النقاش هنا الحديث الديني، فتجد مشايخ السلطة، وغيرهم ممن لا تجد لهم
موقفا من المظالم، فيحدثونك عما أحدثته الثورات في بلادنا العربية من خراب، وتخلف،
وفساد نتج عن ثورات مضادة لها. فلو أن الناس قد سكنوا أيام مبارك، أو أيام بشار،
أو القذافي، وغيرهم، لكانت الأوضاع أكثر هدوءا وأمنا وسلاما، وأنه بمنطق المصالح
والمفاسد فالثورات هنا حققت مفاسد، ولم تجلب مصالح. وهي حجة تصدر عن بعض السياسيين
كذلك، ممن يجعلها تحت عنوان مراجعات ثائر سابق.
والحقيقة هذا قلب
للحقائق، وتدليس بيّن، إذ إن الشعوب عند ثوراتها لم تخرّب، ولم تُفسد، ولم تسفك
دما، ولم تنتهك عرضا، ولم تخرّب مالا عامّا ولا خاصا، بل إن الذي فعل هذا كله
وزيادة هي الأنظمة، سواء التي ثارت عليها الشعوب، أو التي جاءت انتقاما من ثورات
الشعوب بثورات مضادة.
وهو منطق قديم في
التاريخ، منطق إلقاء التهمة على المظلوم، وتبرئة القاتل من دم المقتول، حين واجه
علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتلة عمار بن ياسر رضي الله عنه في الحرب الدائرة،
بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عمارا الفئة الباغية"، فرد
عليه معاوية رضي الله عنه: قتله من أخرجه. أي: أن القاتل هنا بريء ومن أخرجه هو
القاتل الحقيقي.
فالشعوب هنا
قتلها من أخرجها، وليس في حسبان هؤلاء أن من قتلها هو القاتل المباشر، وأن من أخرج
الشعوب عن صمتها هو الظلم، وليس من دعاهم للثورة والتظاهر فقط، فكثير من هذه
الشعوب التي خرجت كادت نخبتها السياسية أن تسلم بالأوضاع، ولكن الشعوب خرجت عن
المرسوم لها، وكل ذلك يكون فجأة وبدون مقدمات يتوقع المراقب أنها تؤدي لذلك. فالمُخرج
لها في الحقيقة هو الظلم الذي مارسه الظلمة، وعاونه عليه كل أياديه وأعوانه من
السياسيين وأرباب المال، والإعلاميين والمشايخ.
وترى أصحاب هذا المنطق يحدثونك عن عدد القتلى في هذه البلدان جراء الأحداث،
متجاهلين تماما أن مثل هذا العدد وزيادة، يذهب ضحية حوادث قطار جراء الإهمال،
وأضعاف مضاعفة مثله في أوبئة وأمراض جراء الإهمال الطبي، والسرطان الذي غزا أجساد
آلاف المصريين إن لم يكن ملايين منهم، بسبب الفساد الذي ملأ أرجاء البلاد.
أما عما يُزعم من خراب اقتصادي، فبنظرة سريعة على ما أنفقته هذه الأنظمة في
قتل الشعوب، وتدجينها، لو أُنفق نصفه على تنميتها، أو تخفيف وطأة الفقر عنها،
لطالبت بنفسها ببقاء هذه الأنظمة، لكن هذه الأنظمة وجدت دعما ماليا لم تسبقها إليه
أنظمة، سواء محليا أو إقليميا أو دوليا.
وأما عن حرية هذه الأوطان، فحدث ولا حرج عن فقدان السيادة في هذه البلدان،
على يد أنظمة لا يشك عاقل في خيانتها لأوطانها، ولا عمالتها لأعدائها. فالخراب
المادي والمعنوي الذي حل بهذه البلدان هو حصاد ظلمها وفسادها وحدها فقط، فسواء وُجدت
ثورات أم لم توجد، فهم فَسَدة بطبيعتهم، فلم يكونوا يوما مصلحين أو مخلصين في خدمة
أوطانهم، ثم تحولوا فجأة نتيجة سخط هذه الشعوب إلى ما رأيناه، وهي الحقيقة التي
يتعامى عنها من ينظرون لهذا الطرح.
وماذا فعلت الشعوب في هذه الثورات؟ إنها تظاهرت تظاهرا سلميا، بداية من
تونس وانتهاء بسوريا، فمن الذي حوّل التظاهر السلمي إلى ساحات قتل، المقتول فيها من
جهة واحدة، وهي جهة الشعب ومن يريد
الحرية والعدالة، والقتل من جهة واحدة هي جهة
السلطة والجيوش التي تم تمويلها وتجييشها من أموال الشعب ومقدراته، فهل جزاء من
يتظاهر سلميا القتل؟!
إن من ينظر لضريبة التحرر من الظلم بهذه القسمة والنتيجة، يخطئ خطأ فادحا،
وإلا لكان معنى ذلك التسليم للظلم، حتى ينتهي بنفسه، وهذا ليس من سنن الله في
الكون، لا مع الأنبياء والمرسلين، ولا مع الإصلاح والمصلحين، ولا مع أي حركة بشرية
في الكون، مسلمة كانت أو غير مسلمة، فقد دفع العالم الغربي ثمنا لحريته، ودفعت كل
شعوب العالم ضريبة سعيها نحو تحررها، أو نيلها العدالة والحرية.
لقد دفعت الأمة ثمنا باهظا، عندما قرر عدد من الفقهاء هذه الحكمة: حاكم
ظلوم خير من فتنة تدوم. ونسوا ونسينا أن الفتنة الحقيقية التي تدوم هي في ظلم
الحكام الذي يدوم ويستمر ولا ينتهي، ويتوارثه حاكما عن آخر، وأن ما قرره فقهاؤنا
من الإقرار بحكم المتغلب، كان مرهونا بأنه يطبق العدل والشرع، ولكنه جاء بغير
اختيار الناس، وأنه تسليم مؤقت تُسلم به الأمة، وهي تعمل على إنهائه، وليست تقر
وترسّخ لحكمه.
ليست الأزمة في طرح مراجعات لتتفادى الشعوب أخطاءها في تجاربها في الثورات،
فهذا ما لا نتحدث عنه، إنما نتحدث عن منطق ادعاء الحكمة بأثر رجعي، ومنطق اليأس
الذي يتلبس بثوب الحكمة، فمن الطبيعي -في الغالب- أن جيلا واحدا لا يقوم بثورتين،
وأن أي ثورات قادمة ستكون على يد أجيال أخرى. وعلى عواجيز الثورات السابقة إن
أرادوا صنع خير للأجيال القادمة، أن يكتبوا أخطاءهم بتجرد، من باب الاستفادة، وليس
من باب إغلاق الباب على الناس، وهو ما لم يحدث للأسف.
وعلى أرباب الخطاب الديني الذين يُلبسون خطابهم السلطوي ثوب الدين والشرع،
أن يتحلّوا بشيء من المسؤولية الدينية، فقبل أن يتم توجيه الخطاب للمظلوم لأن صوت
صراخه قد علا، أن يتوجهوا بخطابهم للظالم أولا، بأن يكف عن ظلمه، أو يتخفف من
ظلمه، أو أن يتحلوا بالصمت مع الجميع ظالمين ومظلومين. وإن كان ذلك لا يعفيهم من
المسؤولية أمام الله تعالى، لكنه على الأقل أخف من أن يكونوا صوتا للظلم
والاستبداد، وتكريسه، وتصوير ذلك للناس أنه الإسلام، والإسلام منه براء.
twitter.com/essamt74
[email protected]