خيوط النسيج
بدأت كتابة هذا المقال قبل أسبوعين، لنشره في ذكرى مولد القاص
المصري الراحل
يوسف إدريس، لكن الظروف الصحية حالت دون استكماله، أما لماذا أنشره بعد فوات المناسبة؟، فالإجابة ببساطة أن المقال ليس عن يوسف إدريس وحده، ولا ينشغل بتقاليد الاحتفاء واستعادة المآثر التي ترتبط في ثقافتنا بمقالات الذكرى، وأزيد فأقول أن الشاعر صلاح عبد الصبور كان أسبق من إدريس في تحفيزي للبدء في هذه الدراسة النقدية/ التاريخية التي اخترت لها مصطلح "جلد الثعبان" كعنوان تمهيدي، أو بالأسلوب المعروف في البلاغة الأجنبية باسم (cataphor)، والكلمة تعني وجود ضمير مجهول لا نعرف معناه إلا عندما نكمل القراءة، فنتعرف على المجهول في الجمل التالية، كان نقول: "كتبته في وقت طويل، لأنه كان مقالا معقداً وصعباً".
فكرة المقال لم تبدأ بالنقد الثقافي، لكنها نشأت بسبب الجغرافيا، وبالتحديد بسبب موسوعة جمال حمدان المعنونة "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان"، وأضيف فأقول إن شخصية جمال حمدان نفسها كانت الحافز الأهم في إضافة البعد الثقافي المتعلق بعلاقة المثقف مع السلطة، لأن حمدان "حالة نادرة" في هذه القضية المعقدة في تاريخنا، وقد توثقت علاقتي بحمدان وكتاباته بعد رحيله إلى درجة الانشغال باستكمال "عبقرية المكان" بدراسة عن "عبقرية الزمان"، فالجغرافيا جناح واحد للحضارة ولابد من جناح التاريخ لتكتمل الصورة، ولعل هذا الاتصال بدأ منذ اللحظة التي دونت فيها هذه العبارة في أوراقي الخاصة:
"لا أشبه نجيب محفوظ في شيء، لكنني أشبه جمال حمدان.. على الأقل في نصف اسمه"
حدث ذلك عصر ذلك اليوم من أبريل عام 1993 بعد اتصال على تليفون منزلي من الغالي إبراهيم أصلان (رحمة الله عليه)، وأبلغني النبأ الحزين: "جمال حمدان مات"..
كنا نعمل معا في القسم الثقافي لصحيفة دولية كبيرة، فقال لي: "أنا أرسلت الخبر، اكتب عنه براحتك وهات الموضوع بكره"، ومن يومها وأنا اقرأ وأكتب وأعيش مع "النصف الأول من اسمي"، وهذه السلسلة من المقالات تعتمد على الشق الثقافي من الدراسة التاريخية عن "عبقرية الزمان"، ولفظ عبقرية لا يعني أي تمجيد لمآثر تاريخنا المغلوط، لكنه "معارضة شعرية" لعنوان حمال حمدان، ومحاولة لتفكيك الأوهام التي صبغت التاريخ وأخفت وجه الحقائق.
عنوان "جلد الثعبان" يشير إلى القيمة الثمينة التي يتفاخر بها الناس في اقتناء منتجات من جلد الثعبان أو جلد التمساح، مع أن الثعبان نفسه (أو التمساح) قاتل ومخيف في حياته، فإذا انفصل الجلد عن صاحبه صارت له قيمة كبيرة يتنافس عليها الناس ويتباهون بها، وقد راودني هذا التشبيه بعد قراءة كتاب بول جونسون عن "المثقفين"، وتنشيط عدة البحث عن مظاهر الفصام بين شخصية وسلوك المبدع وبين ما يمثله إبداعه من قيمة ثقافية وإنسانية محل إعجاب وتقدير، وظل يوسف إدريس لغزاً يؤرقني في هذه المساحة المحيرة، لكن القضية تم حسمها في رأسي بعد دراسة حالة الشاعر العظيم صلاح عبد الصبور، والتفكير الطويل في قصة موته إثر مناقشة عن علاقة المثقف بالسلطة في بيت مجايله أحمد عبد المعطي حجازي، وسوف يأتي الحديث عن ذلك في المقال المخصص لعبد الصبور، وحتى لا نسرف في التوضيحات التاريخية أبدأ معكم بدراسة حالة يوسف إدريس
يوسف إدريس.. العصفور والسلك
في البدء كانت النكتة، وفي النهاية ربما أيضا تكون!
والنكتة في النكتة أنها ليست نكتة، ولكنها واقعة حدثت..
هكذا كتب إدريس في بداية قصته الشهيرة: أكان لا بد "يا لي لي" أن تضيئي النور؟، وهي قصة تضع المأساة في قالب نكتة، حيث تتغلب غواية الشيطان على إرادة الإيمان عند إمام جامع صغير في حي شعبي، فيترك المصلين سجودا في صلاة الفجر، ويهرع إلى غانية ظلت تراوده حتى سقط في الغواية.
التعديل اللائق بقصة إدريس في مقالنا، أن نضع "الأزمة" محل "النكتة"، فتصبح عبارة الافتتاح: في البدء كانت "الأزمة"، وفي النهاية دائما تكون!
كان إدريس نجما لامعا في سماء الأدب منذ مجموعته القصصية الأولى في منتصف الخمسينات (أرخص ليالي 1954)، كان حينها طبيبا اشتراكيا، يناضل تحت راية تنظيم يساري، وينخرط في أنشطة حركية منذ الأربعينات، حيث تزعم حركة الطلبة في كلية الطب للمطالبة بالاستقلال من الاحتلال الانجليزي، وتعرض للاعتقال لفترة قصيرة، وكتب إدريس عن هذه الفترة معتزا بنضاله اليساري وتدريبه على السلاح، ولما تغير النظام الملكي ووصل الضباط الأحرار إلى الحكم في صيف 1923 استمر إدريس في مساره التنظيمي مع الشيوعيين (حركة حدتو) حتى تم اعتقاله في فورة فرحته بالاستقبال النقدي لمجموعته القصصية، وظل حبيساً لمدة عام تقريبا، ولما خرج من المعتقل، لم يكن نفس الشيوعي الذي دخل، مما أدى إلى ملاحظات ومشاحنات مع العديد من رفاقه، وحدث أن تعرضت مصر في تلك الأثناء لعدوان عسكري ثلاثي من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بسبب تأميم عبد الناصر لقناة السويس، وذات مساء خريفي فوجئ الأدباء المتحلقين في حديقة نادي القصة (قرب ميدان التحرير وسط القاهرة) بشاب فارع يقتحم المكان ويصرخ في الساهرين: "انتو قاعدين بتتسامروا وتضحكوا والبلد بتتعرض للغزو.. لازم نعمل حاجة.. لازم المثقفين يكونوا في قلب المعركة..."
نفس الحماس الذي تحدث به إدريس، شهدته أماكن ونقابات وتجمعات ثقافية وفنية أخرى أدت إلى مشاركة فنية وثقافية واسعة تحت شعار "الفن في المعركة"..
ملاحظات الرفاق لم تهمل التزامن الذي ظهر في حركة إدريس وحركة مثقفين آخرين قريبين من النظام مثل يوسف السباعي وعز الدين ذو الفقار وفريد شوقي وكثيرين، وأسفر العتاب والنقد والجدال عن إعلان إدريس قطع علاقته بالتنظيم السري والتفرغ للكتابة.
بدأت شكوك الرفاق في "تحول" إدريس إلى اتجاه أن السلطة تتأكد بعد السماح له بالكتابة في مجلات مثل "التحرير" و "روز اليوسف"، وصحيفة "الجمهورية" التي يديرها ضابط الثورة حينذاك "أنور
السادات"، وظهر "مسحوق الهمس" يتناول العلاقة المريبة بين السادات والطبيب الشيوعي السابق، فقد تدخل السادات لانتدابه من وزارة الصحة إلى وزارة الثقافة، ولما ترأس السادات "المؤتمر الإسلامي" اصطحب إدريس معه، وتحولت العلاقة بين الضابط والمثقف إلى لغز كبير استمر إلى نهاية حياة الاثنين، وهو اللغز الذي يتجاوز الأسماء الشخصية للسادات وإدريس ليشمل عموم العلاقة المعقدة بين السلطة والمثقفين منذ كان المثقف العربي شاعرا مادحا مقابل الذهب في بلاط الخليفة وحتى مشاركته في الحوار الوطني الجاري حاليا مرورا بزمن الشيوخ والسلاطين طوال العصرين المملوكي والعثماني، حتى بدت العلاقة مشينة وفاضحة في سنوات الحملة الفرنسية وتشكيل بونابرت لديوان من الشيوخ يتقاضى الرواتب وينفذ سياسة الجنرال المحتل.
تفاصيل علاقة السادات ويوسف إدريس تحتاج إلى مساحة أوسع، والحديث عن أثر الاعتقال على تحولات المثقف اليساري تحتاج إلى سرد تاريخي مفصل حتى لا نلقي الاتهامات بلا أدلة، وحتى لا نقتطع المواقف من سياقها، وحتى لا ننكر النزعة الضميرية و"المواقفية" التي لم تمت في عقل ونفس إدريس، فكانت تطل في قصصه، كما تنفلت بتأثير من عنفوانه الشخصي وروحه المتمردة فتؤدي على كثير من الأزمات والتناقضات، التي يختلف فيها مع السلطة، فيتلقى عقاب الاستبعاد والتهميش، ثم يتقبل الاحتواء، ليتمرد من جديد، وتستمر "العلاقة البندولية" المتوترة حتى يوم وفاته غريبا وعقاب السلطة له بعد الموت...
نتابع التفاصيل في مقال مقبل