عديدةٌ
هي المرات التي سألتُ نفسي طفلا؛ هل الشيء الذي أراه هو ذاته الذي يراه أقراني؟
وهل البشر الطبيعيون متشابهون في رؤية الأشياء المادية من حولهم؟ وهل قلم الرصاص
الذي أراه وأكتب به، يراه غيري بنفس الشكل والطول؟ إلى أنْ توقفتُ عن طرح هذه
الأسئلة الطفولية، بعد التعرف إلى مقاييس الأشياء، كوحدات قياس الأطوال والأحجام
والأوزان وكذلك الألوان؛ فعيون البشر الطبيعية تتطابق في رؤية الأشياء المادية،
لكن ماذا عن الأشياء المعنوية؟
قياسا
على الأشياء المادية، اعتقدتُ أنَّ البشر الطبيعيين يتطابقون في مشاعر الحب والكره، والتألم لحال المظلومين، والتعاطف مع الضحايا. وكانت نظرتي المثالية للإنسان
تدفعني نحو الاعتقاد بأن العالم كله؛ عربهم وعجمهم، متعاطفون مع
الفلسطينيين، فكيف
يتعاطف شخصٌ سوي مع أناس سرقوا الأرض الفلسطينية وهَجَّرُوا شعبها وارتكبوا
المجزرة تلو الأخرى؟ ولكن بنظرة واقعية تجد أن امتلاك الأحقية، لا تعني بالضرورة
وجوب النصرة والمساندة.
فإسرائيل
التي يراها الفلسطينيون، وهم محقون، محتلة لأرضهم، سالبة لحقوقهم وقاتلة لأجدادهم
وأبنائهم، يراها العالم الغربي واحة للديمقراطية تستحق النصرة والمساندة، ووجوب
وأد كل تحرك داخل فلسطين أو خارجها من شأنه أن يمس بمكانة وصورة
"
إسرائيل" في المجتمع الدولي، فهل يجهل العالم الغربي الحقيقة والحق
التاريخي للفلسطينيين في أرضهم؟ وهل يتجاهل العالم الغربي حق تقرير المصير الذي
أقره الغرب ذاته، حتى بات حقا دوليا لا جدال فيه؟ أم إن وراء الأَكمَةِ ما وراءها؟
بيت
القصيد يكْمُن في العدسة التي يتم النظر بها لـ"إسرائيل"؛ فالغرب يراها
مشروعا تخلّص به من المشكلة اليهودية في أوروبا، وأزاح عن نفسه عقدة الهولوكوست؛
بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وكذلك إنشاء رأس حربة وقاعدة أساسية للغرب في
المنطقة العربية. وهذه عين الحقيقة، ولكن الغرب استطاع أن يسوِّقَ روايةً أخرى، مفادها أنَّ "إسرائيل" دولة طبيعة المنشأة حَسَنة السمعة، ديمقراطية
السلوك غربية الهوى، لها حق البقاء والاستمرار، فالمسألة اليهودية مسألة أوروبية
صِرفة، ولكن ما مسألة المطبعين؟
يرى
المطبّعون في "إسرائيل" فرصة كبيرة للوصول لقلب وهوى الإدارات الأمريكية
المتعاقبة؛ فعلاقات جيدة مع "إسرائيل تمهد الطريق لعلاقات ممتازة مع الولايات
المتحدة الأمريكية، ويرون في "إسرائيل حليفا يمكن الاستفادة منه تقنيا
وتكنولوجيا، والأهم من ذلك الحفاظ على بقائهم في الحكم والسلطة. وللتغطية على هذه
الحقائق، يسوّق المطبعون روايات تُقزم الصراع، وتتنكر للحقوق الفلسطينية؛ بدعوى
الانفتاح والسلام والعيش المشترك، ورمي الماضي بكل مآسيه بما فيه من حروب وقتل
ودماء، والتطلع للمستقبل. وهذه نظرة تثبت "إسرائيل" فشلها يوما بعد يوم
باستمرارها في القتل والتشريد وبناء المستوطنات والقضاء على المستقبل الفلسطيني.
نِتاج
المقال؛ أن الزاوية التي تُرى بها "إسرائيل" تختلف من شخص أو كيان لشخص
أو كيان آخر، ومدارُ الأمرِ يعود للمصلحة والفائدة وليس للحق والحقيقة؛ فمعرفة الحقيقة
شيء والإقرار والعمل بمقتضاها شيء آخر، والعمل بمقتضى الأحقية الفلسطينية يكلّف
الأطراف -كما يعتقدون- ثمنا باهظا لا يقدرون على دفعه، هذا الثمن قَبِلَ الفلسطيني
المقاوم على نفسه دفعه والعمل بمقتضاه، لذلك يتعرض لحملة ضغوطات كبيرة تدفعه نحو
الاعتراف بشرعية هذا الاحتلال والتسليم بالأمر الواقع.
ويتناسى
كل من يضغط على المقاومة، أن الشعب الفلسطيني المقاوم يرى "إسرائيل" من
حيث لا يراها الغرب والمطبعون، وفي سبيل ذلك يعتمد الفلسطينيون على كل جهد كبير أو
صغير من قبل أحرار العالم في كل مكان، الذين يُظْهِرُونَ الوجه الحقيقي لهذا
الكيان الغاصب الصهيوني، ويقاطعونه في كل المحافل الدولية.