عبد الله الزواري هو واحد من أبرز مناضلي حركة
النهضة
التونسية، تعرض إلى الملاحقة والسجن عدة مرات زمن حكم الرئيس بورقيبة ثم زمن حكم
بن علي، لم يكن مجرد ناشط سياسي بل كان رجلا ميدانيا وعنصرا متحركا؛ لا يكتفي
بإلقاء محاضرات في شباب ما كان يُعرف أواخر السبعينات بالجماعة الإسلامية ثم
بالاتجاه الإسلامي بداية الثمانينات، بل كان لا يكف عن الاتصالات والزيارات لكل
قرية ومدينة وحتى للبيوت النائية في الأرياف؛ يتفقد ويذكّر ويشد العزائم ويقدم
النصائح.
أول مرة عرفتُ فيها المرحوم عبد الله الزواري كان في
سنة 1977 وكنتُ تلميذا بالمعهد الثانوي بسليانة، وكانت صحوةُ التدين آنذاك في
الأوساط التلمذية تتزايدُ تحت رعاية بعض المربين والموظفين من منتمي الجماعة الإسلامية..
كان يوما مختلفا عن بقية الأيام من حيثُ أنشطته ومضامينه يوم زارنا المرحوم
ورُتّبت لنا زيارة إلى أحواز مدينة سليانة، شابٌّ متقد حيوية باشٌّ وذو صوتٍ مميزٍ
ونظرات صقرٍ.. عبد الله متدرب على عدد من فنون الدفاع وعلى درجة عالية من الثقافة
الكشفية، وهو مُربّ خبير بأنفس الأطفال وأذهانهم، فكان يعتمد معنا أساليب تجمع بين
الجد واللعب.. إنه لا ينفعل ولا يصرخ ولا يضجر ولا يضيق له صدرٌ، إنه اللطف ذاتُهُ
وإنك لا تشعر وهو معك إلا بالأمان.
في العُطل عبد الله لا يقطع حبال التواصل معنا، ولم
تكن لدينا هواتف لا ثابتة ولا جوالة؛ كان عبد الله مجهزا بروح إيمانية وبدافعية
إنسانية لا مثيل لهما، يُفاجئنا بزيارةٍ خاطفة ونحن في مدننا وقرانا وأريافنا
المنتشرة المتباعدة.. لا أنسى أبدا ذات يوم من عطلتنا الصيفية سنة 1978 حين أطلت
علينا دراجةٌ نارية في بيتنا بأعلى مرتفعات جبل ريحان، وهو مكان لا تصعده السيارات
نادرا إلا بمشقة لوُعُورته وارتفاعه.. لقد أحبه والدي أيما حبٍّ وظل يسألني عنه
سنواتٍ حتى وأنا أستاذ ورب أسرة؛ يسأل عنه بنفس الصياغة ودون ذكر اسمه: "آكا
الراجل الغول وينو توّه؟"..
حين تعرض والدي للتخويف بسبب كثرة تنقلاتي حتى في
العطل، همس إليّ مرة وكنتُ أساعده في الحصاد بالمنجل :"وليدي رُدْ بالك على
روحك"، فأجبته: "الناس الذين ألتقي بهم هم من نوع ذاك الرجل الذي
زارنا"، فلم يكرر ملاحظته ثانية، بل كم مرة استقبل في بيتنا عددا من شباب
الجهة فيكرمهم بذبيحة ويجلس إليهم في حلقتهم يستمع منتشيا مستمتعا.
في إحدى العطل كنتُ عائدا من سليانة إلى بلدتي بوعرادة
صحبة بعض الأصدقاء نظرنا في المقاعد الأخيرة من الحافلة فإذا برجل ينامُ نومة
المُجْهَدين، إنه المناضل عبد الله الزواري على غير عادته لا يتنقل بدراجته
النارية المعروفة، إنه يستفيد من زمن السفر في الحافلة ليسترق بعض لحظات النوم.
وهو الذي يصل الليل بالنهار صاحيا ويتحرك في أكثر من اتجاه ويجلس في أكثر من مجلس،
ويتنقل بين إخوته أفرادا وجماعاتٍ كما لو أنه فراشةٌ أو نحلةٌ أو دَفْقَةٌ من
دَفقاتِ الرحمة والشوق والأمل.
في صائفة 1978 قلتُ له أنا واثنان من الأصدقاء: نريد
أن نشتغل هذه العطلة استعدادا لمتطلبات البكالوريا السنة القادمة.. لم يتأخر عبد
الله عن إجابتنا حين زارنا في بوعرادة على دراجته الحمراء ليُعلمنا بأننا سنشتغل
في إحدى التعاضديات الفلاحية بالكريب طيلة موسم الحصاد، ورتب لنا الإقامة فيها
وزودنا بكتب للمطالعة ولم يغفل عن زيارتنا.
حين انتقلت للدراسة الجامعية في العاصمة سنة 1979 لم
ينقطع عبد الله عن تعهدنا كما لو أننا أبناؤه بل إننا أبناؤه.. لقد زارنا في
المبيت الجامعي ببن عروس 2؛ فقط لرؤيتنا وهو لا يحتاج إلى أن يقدم إلينا مواعظ
ونصائح وتوجيهات، بل يكفي أن يَبَشَّ في وجوهنا وأن يُربّتَ على أكتافنا كي نطمئن
ويطمئن.. كنتُ أجد بصمات شخصيته في الكثير ممن عرفتهم من تلاميذه الروحيين من
أبناء الكاف وسليانة وبورويس والسرس ومكثر..
في حملة الاعتقالات سنة 1987 وكنت أدَرّسُ بكسرى
التقيتُه بمدينة مكثر، بعد أن استطاع مراوغة البوليس السياسي بالكاف حين جاؤوا إلى
بيته لاعتقاله.. لم يكن متخفيا في بيت أو مغارة وهو يعلم أنه محل تفتيش، إنما كان
يتحرك كعادته متخذا كل أساليب الحيطة وهو رجل الوضعيات الخطرة.. كان يداوم على
الصلاة في المسجد ويلعب كرة القدم مع بعض شباب مكثر، وكان يتنقل في ملامح مختلفة
ومتنوعة.. الشبابُ في مكثر ينادونه "عم بشير" ولا يعرفون أنه هو عبد
الله.
بعد مدة تفطّن الأمن إلى مقر إقامته فداهموه فتصرف مع الحدث تصرف الرجال الشجعان ثم أخذوه إلى
سليانة.. أمرَ الوالي بإحضاره إلى مكتبه لرؤيته فقد سمع عنه الكثير مما يُثير
إعجاب حتى الخصوم.. يروي أحد الحاضرين ممن نثق بهم أن الوالي طلب من عبد الله الانضمام
إلى السلطة فأجابه: أنا أدعوك للانضمام إلينا، فاستغرب الوالي الإجابةَ وقال له:
ولكن أنا سلطة، فقال عبد الله: أنت والٍ على سليانة وأنا والٍ على سليانة والكاف..
الراوي ذكر أن الوالي علق بعد إخراج عبد الله: "صَحّه ليهم عندهم
الرجال".
التقيتُه كم مرة بعد خروجه من السجن في 1988 ثم انقطعت
صلتنا طويلا ليُفاجئني سنة 2005 باتصال هاتفي وهو في منفاه بجرجيس يسأل عني وعن
عدد من أبنائه، ثم عاود الاتصال بعد مدة ليطلب مني الإشراف على الركن الثقافي في
مجلة إلكترونية قال إنها بصدد الإعداد، ولم أكن بعد متمكنا من الكتابة على الحاسوب
ولا أعرف كيف أتعامل مع الإنترنت فقال لي أرسل نصوصك بخط يدك على العنوان البريدي
التالي (بعثه إلي في إرسالية بالهاتف).. عبد الله لا يؤمن بالعجز ولا يعترف
بالموانع ولا يسلّم ولا يستسلم.. إنه مسكون بالفعل والحركة والأخذ بالأسباب دون
احتساب النتائج والمكاسب.. وهو رجل معافى من كل النوازع الغنائمية ومن كل إغراءات
المكانة والمكان.
التقيته بعد 14 كانون الثاني/ يناير في مناسبات عدة،
إنه نفس الرجل روحيةً وبشاشةً وتوازنا واقتحاميَّةً.. للرجل مشاريع عمل متعددة
وآفاق للفعل بغير حدود.. إنه يتمثل كما ينبغي حديث الرسول ص:
"اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل
سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.. كانت لي معه وصديقين
عزيزين رحلة إلى لبنان سنة 2013، وفي السفر يُعرف الرجال، هذا الرجل عوالم وأعماقٌ
وتجارب وحكايات.
عبد الله مدرسةٌ تُغري بالبحث والدراسة والتوثيق.. لم
يكن أسطورةً ولا تأليفا خياليا، بل كان حقيقة وتجربة وترجمة لما أودع الخالقُ
المبدعُ في الإنسان من قُدراتٍ على الفعل والحركة والتحمل والثبات والحب
والمقاومة.
أن يموت عبد الله في الطريق فتلك وضعية منسجمة مع مسار
حياته التي لا تعرف القعود والسكون والبرود.. عبد الله هو كيمياء الأشواق وهو
القوة الفيزيائية للحياة.. إنه "الإنسانُ" الذي يريد أن يتحقق ويريد
تجاوز وضعية الكينونة إلى فعل الوجود كما لو أنه يتمثل قولة الفيلسوف جون بول
سارتر: "الوجودُ فعلٌ وليس حالةً".. عبد الله يظل حيا في آثاره ومعانيه
وقيمه وفي الألياف العصبية لأبنائه وفي حرير الروح.
twitter.com/bahriarfaoui1