كيان الصهيونية: قبل أوغندا وبعد جنين

حوّامات الـ«أباشي» الإسرائيلية تحلّق في سماء مخيم جنين، إلى جوار مقاتلات الـF-16 . مستوطنون يحرقون الحقول والمزروعات في محيط حوارة، وآخرون تحت جنح الظلام يحرقون مدرسة فلسطينية.

في هضبة الجولان المحتلة يتبجح وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بأنّ المراوح العملاقة التي يقيمها الاحتلال هناك (وتأكل/ تهوّد آلاف الدونمات للمواطنين السوريين) هي تعبير ضروري عن السيادة الإسرائيلية. وأمّا في تل أبيب، فإنّ تظاهرات آلاف الإسرائيليين ضدّ ما تسميه حكومة بنيامين نتنياهو «خطة إصلاح القضاء» تتواصل. في الغضون، تتوسع أكثر فأكثر خرائط اغتيالات النشطاء الفلسطينيين، ضمن استئناف سياسة الردع التي لم تسحبها دولة الاحتلال من التداول أصلاً.

مشاهد متنافرة من حيث الشكل والأساليب والجغرافيا، لكنها متكاملة ومترابطة ترسّخ جوهر الحال التي بلغها الكيان الصهيوني، عند السنة الـ75 من إنشائه في فلسطين التاريخية؛ عبر العصابات الإرهابية والتهجير والتطهير العرقي والمجازر ومصادرة الأراضي وتخريب الاقتصاد والاستيطان. ولأنّ هذه هي فلسطين + الجولان السوري المحتل، وليست أفريقيا؛ فإنّ قلّة قليلة من الإسرائيليين تحيي الذكرى الـ120 للمؤتمر الصهيوني السادس، الذي عُقد في بازل السويسرية سنة 1903، وخلاله أثار تيودور هرتزل ضجة عارمة حين اقترح إقامة «فلسطين يهودية» في… أوغندا، آنذاك، التي هي بعض كينيا اليوم!

تتوسع أكثر فأكثر خرائط اغتيالات النشطاء الفلسطينيين، ضمن استئناف سياسة الردع التي لم تسحبها دولة الاحتلال من التداول أصلاً.

بين متظاهري تل أبيب مَنْ هم صهاينة أيضاً، وليس بدلالة حمل الجنسية الإسرائيلية فقط، إذْ يعثر المرء على أمثال الروائي دافيد غروسمان (الناقد/ الرافض لاحتلال الضفة الغربية)؛ أو «المؤرّخ الجديد» بيني موريس (الذي سلخ عن جلده آخر ما اقترن به من آثار «تجديد» في إعادة قراءة تاريخ النكبة)؛ أو أوري رام (عالم الاجتماع الذي اعتبر أنّ الـ»نيو- صهيونية» ليست أقلّ من «اتجاه سياسي/ ثقافي إقصائي، قوموي، أو حتى عنصري ومعادٍ للديمقراطية»).

وهرتزل الحاضر في نفوسهم، أياً كانت مستويات غيابه عن شوارع تل أبيب مثل أحياء جنين ونابلس وحوارة الفلسطينية، يمتلك الكثير من أسباب الحضور، حتى على سبيل الإحياء، في سائر سلوكيات الحكومة الأكثر تطرفاً وتديناً وفاشية في تاريخ الكيان الصهيوني؛ يستوي في السيرورة أمثال بتسلئيل سموترتش وزير المالية وزعيم «الحزب الصهيوني الديني»، مع وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت من حزب «الليكود»، مع أرييه درعي وزير الشؤون الداخلية وزعيم حزب «شاس».

وليس عجيباً أنّ كيان ما بعد الصهيونية هذا لا يستحضر هرتزل في أيّ نطاق عقائدي يفوق تلك القاعدة الشهيرة التي ابتدعها صاحب كرّاس «الدولة اليهودية»؛ أي تلك التي توصي بضرورة إبقاء الحاخامات على مرمى حجر من الساسة، دائماً وأبداً: «في الدولة اليهودية القادمة، لا بدّ من بقاء الكنيس ماثلاً أمام البصر. وينبغى أن يظلّ مرئياً». وقد يصحّ القول إنّ ذلك الحاخام الذي كان في خاطر هرتزل بات اليوم، في الكيان الراهن ما بعد الصهيوني، أشبه بتميمة باردة باهتة، إزاء ما أخذ يستحوذ عليه أمثال سموترتش وغالانت ودرعي من سطوة وسيطرة.

هذه حال لا تُبقي الكثير من التباعد بين عقيدةٍ ما قبل – صهيونية تتخلّق عنها نماذج باروخ غولدشتين (الإرهابي الإسرائيلي، قتل 29 مصلياً فلسطينياً في الحرم الإبراهيمي سنة 1995)؛ أو إيغال أمير (قاتل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين)؛ وبين عقيدة ما بعد – صهيونية تتخلّق عنها نماذج عاموس عوز، الذي يطالب بالديمقراطية (ولكن ليس على الجانب الفلسطيني، إلا بشروط)، والعلمانية (دون إبعاد الكنيس عن الأنظار، أو إزاحة مسافته السياسية والإيديولوجية أبعد قليلاً من مرمى حجر)، والسلام (ليس مع أيّ شريك فلسطيني، بل مع الوحيد الذي تسبغ عليه دولة الاحتلال شرف الشراكة).
وللتاريخ حصصه الوافرة، ودروسه الصارمة، في سائر المسافات بين ما قبل أوغندا وما بعد جنين.