ملاحظات وانطباعات عن لبنان

لبنان بعد 4 سنوات غياب هو غير ما كان عليه على الزائر، طبعاً. هذه بعض ملاحظات سريعة عنه:

1- الوضع السنّي-الشيعي أفضل بكثير مما كان عليه من قبل. هذا لا يعني أنه ليس هناك سنّة متعاطفون مع سمير جعجع أو أنه ليس هناك شيعة يجاهرون بالزهو الطائفي والقوّة، لكنّ هناك خفوتاً في حدّة الكراهية بين الطائفتيْن. الأسباب كثيرة لذلك ومنها صعود حالة طائفيّة مسيحيّة انعزاليّة تنادي بالفدراليّة. هذه الدعوة تقول للمسلمين كافّة إن المسيحيّين (مع أن الموقف لا يعبّر عن المسيحيّين بل عن أحزاب لهم) لا يريدون العيش مع المسلمين، كلّ المسلمين. من الطبيعي أن يوحّد ذلك الأمر المسلمين. كما أن ردّة الفعل الطائفيّة الشنيعة للكثير من الطائفيّين المسيحيّين عن تأجيل التوقيت الصيفي احتراماً للصائمين أثبتت للمسلمين أن هناك إسلاموفوبيا بغيضة بين بعض مسيحيّي لبنان (هناك كتاب جديد صدر عن الإسلاموفوبيا في لبنان لعلي قاسم عن دار نشر بلومزبري).

2- سألتُ شاباً مثقّفاً في حزب الله عن الشعارات والطقوس الطائفيّة التي رافقت تدخّل حزب الله في الحرب السوريّة فقال لي بصراحة: أنا شاركتُ في الحرب في القصير وأعترف لك أن التعبئة الطائفيّة وحدها كانت كفيلة بتجنيد المقاتلين وتحميسهم، وأن التعبئة المعتمدة على التحريض الاستراتيجي والسياسي ما كانت ستنفع. أجبته: لكنّ الثمن كان مرتفعاً للغاية، من ناحية تسعير الخلاف المذهبي ومن ناحية رصيد الحزب العربي.

3- إميل لحّود لا يزال أوّل وآخر رئيس وطني في عرفي. تاريخه ناصع ولم يشُبْه أي موقف غير وطني. وحده اعتنق عقيدة عداء ضد إسرائيل والصهيونيّة. هل يقدّر حزب الله تضحيات ومواقف هذا الرئيس الوطني؟ هل يزوره أكثر من مرّة في السنة بمناسبة عيد التحرير؟

4- غياب اللهجة الفلسطينيّة مزعج لي. هناك طمس لهذه اللهجة وهناك جيل جديد من الفلسطينيّين يُلبنِن لهجته للاستتار.

5- الحديث عن الوجود السوري السياسي مُبالغ فيه والأعمال الصعبة الشاقّة هي من نصيبهم.

6- شارع الحمراء أصابه الإنهاك الشديد، لكن لم يصبه أذى من وفود عرب إليه كما زعم طارق تميم.

7- مدينة صور تغيّرت كثيراً بحكم البناء العشوائي غير المنظّم وردم البحر.

8- المطاعم اللبنانيّة، وهي كثيرة ومتنوّعة، باتت تتخصّص في اختراع أطباق جديدة. هذا ليس محصوراً فقط في «أم شريف». ويُقال إن طبق البوظة مع غزل البنات هو من اختراع مطعم «بابل».

9- بات لحلويات «أمل بحصلي» منافس قوي وجدّي في حلويات «الشدياق». لم أكن قد سمعتُ بها قبل سنوات عندما لفتني غسان سلامة إلى ضرورة تجربة الكرابيج (وكان المحلّ الوحيد موجوداً في وادي شحرور وقد سارع الصديق العزيز، بدر الحاج، إلى إرسال شحنة كرابيج لي وقد نالت إعجابي). كرابيج «الشدياق» (الذي افتتح فرعاً في بيروت قرب فندق «فينسيا») أسخى من حلويات «البحصلي» من ناحية كميّة حشو الفستق أو الجوز في البقلاوة. وطبق الصفوف ينافس «المكاري». قيل لي إن المنافسة الحادة حسّنت من جودة حلويات «البحصلي».

10 - لو كانت السلطة بيدي (من دون صلاحيات استثنائيّة كما تطلب حركة «مواطنون ومواطنات في دولة») لأمرتُ بإغلاق محل عطورات «عصام اللبّان» في الحمراء. ما إن تمرَّ أمامه حتى يشهر شابٌ زجاجة عطورات بوجهك ويرشّها عليك من دون استئذان. هذه كانت تجري بصورة يوميّة وكنتُ أحاول في البداية أن أجادلهم برفق من دون فائدة. ورائحة العطر كانت نتنة، ما زاد في معاناة المارّة (أوكلوني بالتحدّث باسمهم).

11- قيادة السيّارة في لبنان تزداد صعوبة للقادم من دولة يتقيّد فيها السائقون بالأزياح البيضاء على الطرقات لأن الدّرّاجات الناريّة تفاجئك من كلّ الجهات.

12- من المستحيل تذوّق صحن حمّص رديء في لبنان وجودة صحن الفول نادرة إلا في مطعم «بارود» في صور (بات له فرع في الضاحية).

13- قابلتُ وزير الخارجيّة اللبناني، عبدالله أبو حبيب. أوّل سؤال طرحتُه عليه: ما اسمُ السفير الإيراني في لبنان؟ عجز عن الإجابة (استأذنته في نشر هذه الواقعة).

14- الشيعة منقسمون حول الثقافة الدينية في الضاحية والجنوب. العلمانيّون (من أعداء وأصدقاء المقاومة) معارضون بشدّة للمظاهر الدينيّة المنتشرة وصور الرموز، لكن يعترف الصادقون منهم أن الأكثريّة الشيعيّة تؤيّد الحزب أو الحركة.

15- هناك انتقاد لسياسات الحزب الداخليّة من قبل أعضاء في الحزب. هذه أوّل مرّة أسجّل هذه الظاهرة.

16- باعة الصحف الذين أسألهم عن بيع الجرائد يقولون: حسب العنوان. العنوان يؤثّر كثيراً على مبيع الصحيفة في اليوم.

17- هناك العديد من المذكّرات السياسيّة غير المنشورة بعد: من مروان حمادة وعلي غندور، والأهم حتى من ن.ع.

18- إصرار الحزبيْن الشيعيّيْن على ترشيح شخص واحد لرئاسة الجمهوريّة مزعج للكثير من اللبنانيّين واللبنانيّات، وليس فقط في جمهور أعداء الحزب.

19- كنتُ أقول للعرب في أميركا جواباً على سؤال شكيب أرسلان التاريخي «لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟»، إن سرّ تقدّم الغرب لا يكمن في تفوق غربي جيني أو حضاري أو ثقافي، بل يكمن في حسن التدريب والإعداد، في كل الوظائف والمهام، حتى في خدمة المطاعم. في لبنان، تلحظ غياب التدريب. سرّ نجاح المقاومة الباهر هو في التدريب والإعداد الحديدي بعكس التدريب المتراخي في صفوف المقاومة الفلسطينيّة. تدريب نُدُل المطاعم كما تدريب العاملين في شركة الطيران اللبنانيّة (أنا أصرّ على نبذ اسم «طيران الشرق الأوسط» لأنها لم تعد شركة طيران إقليميّة كما كانت) تعيس للغاية. سائق التكسي الذي أقلّنا إلى صور أصرّ على بعث رسائل نصيّة وهو يقود السيّارة قبل أن أطلب منه أن يكفّ.

20- ثقافة الرفق بالحيوان تطوَّرت كثيراً في لبنان. دليلي؟ بتّ للمرّة الأولى في حياتي أرى (في منطقة رأس بيروت والحمراء) قططاً تفترش منتصف الأرصفة وتنام مرتاحة. هذا دليل على أنها لا تشعر بالخطر أبداً. في زماني كانت القطط تهرب مسرعة من المارّة لأنها كانت تواجه وحشيّة وسماجة صبية الأحياء.

21- لبنان لا يمكن له إلا وأن يصل إلى مستوى من تعايش أنماط الحياة كما هو جارٍ في منطقة شاطئ صور: من شاء فليسفر ومن شاء فلـ«يحتشم». لا يمكن للخيارات إلا أن تكون حرّة.

22- الإدمان على الكحول وعلى الحبوب المهدِّئة منتشر. طبيب نفسي معروف قدَّر لي أن عدد المعتمدين على الحبوب (المُقرّرة من طبيب مختصّ) يصل إلى ربع الشعب اللبناني.

23- شعارات ورموز «الثورة»، عندما تراها بأمّ العين، تكون أقلّ إزعاجاً للنظر ربما لأنها تبدو لي صبيانيّة ونتاج عقل مُراهق. نَصَب قبضة «الثورة» بالغ البشاعة والشعارات على الجدران لا تبدو مزعجة لأي سلطة قائمة.

24- تلتقي بأناس على المقلب السياسي الآخر وتظنّ أن هناك معرفة سابقة بينك وبينهم، ما يُضفي طابعاً إنسانياً. صدفت شخصية من المقلب الآخر في ساحة في بيروت وأخذنا بعضنا بالأحضان. هذا جانب من العيش في لبنان مع الاختلاف.

25- الحديث عن تنامي النزعات الانفصاليّة عند المسيحيّين غير مبالغ فيه وهو يضرّ بهم أكثر مما يضرّ بغيرهم، لأنه يوحِّد بين الأحزاب المسلمة وهذا قد يدفعها مستقبلاً للعمل بنظام سياسي عددي أو طائفي إسلامي صارخ.

26- الـ«جي.بي.إس» في لبنان لا يعمل بالسرعة نفسها التي يعمل بها في غير بلدان. في الطريق إلى الزراريّة، مثلاً، كان المفرق يظهر على الخارطة بعد أن تكون قد تجاوزته بميل أو أكثر. الاعتماد على حركة الكواكب أضمن.

27- قلّما تجد شخصاً يحمل صحيفة بين يديه.

28- ثقافة «كيف تفعل كذا وكذا» (خصوصاً هؤلاء الذين يكتبون إرشادات لتحسين الحياة) منتشرة من خلال النشر والترجمة. وهذه الكتب نوعان: منها غير العلمي (مثل «توني روبنز» أو خالد غطّاس) ومنها غير العلمي لكن بمضمون منطقي.

29- حرم الجامعة الأميركيّة يختلف عن أيّامي. يبدو أقرب إلى نادٍ اجتماعي. لا ألوم الشباب الذي قرفَ من السياسة ومن متابعتها.

30- ليس من رصد علمي لحالة اليأس، لكن الشعور بأن لبنان وصل إلى الحضيض يمنح الناس أملاً بأن الأمور لا يمكن أن تصل إلى أسوأ، لكن هناك قلّة تقسم لك أغلظ الأَيْمان بأن الحضيض لم يبلغ قعره.
31- قال لي بيروتي متأسّفاً: اللهجة البيروتيّة إلى انقراض. هو على حقّ. لم تعد تسمعها ملء الأحياء في بيروت الغربيّة.

32- سألتُ مختصّين عن سبب عدم إصلاح برج المرّ أو الهوليداي إن. السبب معماري، وطريقة التشييد تتطلّب الهدم وإعادة البناء من جديد.

33- هناك جيش يحمي منزل فؤاد السنيورة ونهاد المشنوق ولم أرَ إلا حارساً واحداً أمام منزل إميل لحّود.

34- الكثير من المسلمين يشيدون بنظافة المناطق ذات الأكثريّة المسيحيّة وبعض هؤلاء يفسّرون ذلك بالاستعانة بتعميمات استشراقيّة أو إسلاموفوبيّة.

35- صوت الأَذان مرتفع جداً، كما بعض أجراس الكنائس. يُسجَّل للمفتي حسن خالد أنه أفتى قبل عام 1982 بتخفيض صوت مكبّرات الصوت التابعة للمساجد.

36- لا شك أن ثقافة قبول إسرائيل وعدم الاعتراف بخطرها على لبنان والعرب باتت منتشرة، وفي كل الطوائف (المزاج الطائفي يتغيّر عبر السنوات، وهذا حسن في جانب وسيّئ في جانب آخر).

37- قرأتُ في إعلان أن مجلّة «المجلّة» السعوديّة تفخر بأنها أقوى مجلّة عربيّة. طبعاً، لأن ليس من منافسة لها.

38- مررتُ بالقرب من منزل فيروز ولم ألوِّح عن بعد.

39- تحتاج إلى حقيبة لحمل العملة اللبنانية المنتفخة.

40- المدقّقون بالجوازات في المطار بطيئو العمل. شاهدت بريطانياً يلقى معاملة خاصّة من قبل الجميع في المطار لأنه يحمل «أمر مهمة» من قبل قائد الجيش. وسمعتُ أنه من القوّات البريطانية. ألم تقولوا إن أمن المطار خاضع للحزب؟

41- الغرب يقول بصراحة إنه لن يسمح بخروج النازحين السوريّين من لبنان والأردن وتركيا، وحلفاء أميركا في لبنان يطالبون بإخراجهم من دون الاعتراف بدور أميركا في منع إعمار سوريا.

(الأخبار اللبنانية)