إن الفن يتأثر بشكل أو بآخر بما في المجتمع، يعكس ما فيه، يتراجع في حالات الانحطاط، ويزدهر في حالات التقدم والتطور، فالبلاد هي الحاضنة الأولى للفن، ولا فن دون ثقافة يعكسها، وأطعمة يروّج لها، وطبيعة يتغنى بها، أو حتى عادات يجسدها ويثير المشاعر نحوها.
كما أن الوضع السياسي العام في أي بلد مصدّر للفن، يؤثر بطبيعة الحال على نوعية الفن، وقوته، وقضاياه، وجودته، وجرأته، فالحرية التي يعيش في ظلها الشعب، يعيش الفن والفنانين في ظلها كذلك، فلا تجربة فنية واعية وناضجة بلا حرية تعبير كاملة، فالفن الذي يحاول إظهار الحقائق على استحياء، أو يخفيها كما يخفي نفسه خلف جدار الخوف والجزع، هو أضعف أنواع الفن بلا شك.
وإن كان الفن حساسا تجاه محيطه، فالثورة هي إحدى أعظم المؤثرات التي تذبذب الفنون بأنواعها، فكما تنهض الحرية بالفن وترتقي به، فسياسة تكميم الأفواه، تنحدر بالفن وتعود به إلى الوراء، ويفتقد صداه، ويفتقر الواقعية، وتصبح مشاهده مشوشة وخافتة ألوانها.
الدراما السورية
اعتاد الجمهور العربي على أن تكون الدراما السورية حاضرة ببريقها وصوتها الرنان، نشمّ من خلالها العبق الدمشقي الأصيل، الذي تغنّى به نزار قباني حين قال:
يا دمشق التي تفشى شذاها
تحت جلدي كأنه الزيزفون،
ونبصر الصناعات التقليدية والحرف اليدوية في المدينة الشهباء، ونلمح لمعان الساحل مصافحًا خضار الطبيعة ليرسم صورة مثالية عن بلد مثالي.
كانت الدراما السورية إحدى النماذج الفنية الرائدة عربيا، إذ أنها اعتادت على أن تكون مرآة للواقع بما فيه، واعتاد المتابع العربي أن يشاهد بِنَهَمٍ المشاهد الدافئة في المسلسلات السورية الشعبية.
فكيف أثرت الثورة السورية على الفن السوري وتوهّجه؟ وهل شهدناها في انحدار أم ازدهار؟ وعلى انقسام آراء الفنانين تجاه النظام إلى قسمين: مؤيد ومعارض، كيف أثر الرأي السياسي للفنان السوري على نشاطه وحضوره الفني في ساحة الدراما السورية؟
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجدنا بأنها ليست ثورة للفقراء والمهمشين فقط، بل كان للطبقة الفنية من الشعب السوري كالفنانين من ممثلين ومغنيين صوت فيها، وعليه اختلفت المواقف التي اتخذها الفنانون تجاه الثورة، بعضهم كان واضحًا بشأن تأييده لنظام بشار
الأسد، وبعضهم كان يسير وسط المتظاهرين ويهتف معهم بهتافات ضد النظام، وبعضهم لم يصرّح برأيه واكتفى بالصمت.
كان للممثل السوري "فارس الحلو" حضوره في المشهد الثوري، كما كان له رأيه السياسي الواضح تجاه ما يحصل في
سوريا آنذاك، ويرى بأن الفرق بين حالهم قبل الثورة وبعدها، كالفرق بين عصر الظلمات وعصر النور، كما يرى بأنهم "تحرروا تماما من الرضوخ للممنوع، وقطعوا حواجز التوتر والخوف من الآخر، وبات بإمكانهم التعبير فنياً وفكرياً وبالطرق التي يرغبون بها بفعل الثورة"، مضيفا بأن "الثمن كان باهظا جدا".
واستدرك الحلو في حواره لـ"عربي21": "لا شك في أننا نواجه صعوبات جمة بالتعبير الحر، فمنابرنا مغلقة في وجوهنا، وستبقى كذلك حتى يجبرونا على العودة إلى حظيرتهم، وهذا مستحيل"
وأردف "لا عودة إلى الوراء المظلم بينما انفتح الأفق علينا".
الدراما السورية اليوم وغدًا
بعد اندلاع الثورة، أصبح النظام السوري يهيمن على المنصات الفنية، بإحكام سيطرته على شركات الإنتاج، والرقابة الشديدة على المحتوى المعروض، فأصبحنا نرى معايير محددة لما يُعرض، فتتوافق المسلسلات السورية غالبا مع رؤية النظام السوري اليوم، إلا ما ندر من مسلسلات تعكس الواقع بطريقة غير مباشرة، باستخدام الرموز والإيحاءات، وقد نالت مثل هذه الأعمال شهرة واسعة، ونجاحات مبهرة.
وعن الدراما السورية اليوم، قال فارس الحلو: "إنه بعد الكشف الصريح لكل مظاهر الزيف والكذب والقبح الذي كنا نعيشه قبل الثورة، نجد الدراما السورية اليوم متورطة في الدجل أكثر وأكثر، فهي بنصوصها تزيف الحقيقة وتجهد لطمسها، والفنانون هم أدوات هذه الزعبرة".
كما أن تنوّع مواقف العاملين في مجال الدراما والمسلسلات، أدى إلى هيمنة بعضهم في ظل غياب البعض الآخر، وهجرة الكثير من الفنانين إلى بلاد الغرب كألمانيا وأمريكا وغيرها من الدول، ولجوء العديد منهم إلى العمل في قطاع الدراما المصرية أو اللبنانية، كون العمل في بلادهم يستلزم التخلي عن بعض المبادئ التي من الصعب التخلي عنها، ولم يقتصر هذا على الممثلين فقط، بل شمل كُتاب الدراما السورية أيضا، الذي أدى موقفهم من النظام إلى وقف عملهم في قطاع الدراما، واستبدالهم بكتّاب آخرين قادرين على التكيّف مع الأوضاع والضوابط الجديدة، بالابتعاد عن طرح المواضيع الحساسة التي لا تتفق مع سياسة نظام الأسد.
وردًا على سؤال "عربي21"، فيما إذا كانت الدراما السورية ستتطور بالمستقبل أم ستظل على ما هي عليه اليوم، يرى الحلو بأن "الدراما العربية في الشرق الأوسط، يحتاج تطورها إلى قرار سياسي، وهو بطبيعة الحال مفقود".
وأضاف "يمكن أن نلاحظ تطور شكل الإنتاج أو تقنياته، ولكن المحتوى بقي يراوح مكانه، حيث نرى أن معالجة المواضيع الاجتماعية الشائكة لم تتقدم قيد أنملة، بل على العكس، تم ابتكار مواضيع جديدة للدراما، تحاكي وجهات فكرية للسلطة السياسية، والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى".
وكان الحلو واضحا في أنه "لا أمل في تطور الدراما من دون حرية الرأي والفكر"
ولكننا نأمل أن تعود الدراما السوريا بهالَتها المضيئة التي عهدناها.