كثيرة
هي
الأفكار السياسية الميتة التي أثبت الواقع والتجربة العملية أنها أفكار ميتة، وكانت منذ ميلادها غير قابلة للحياة وعجزت عن تحقيق الأهداف والغايات التي قامت من
أجلها. الموت هو السنة الإلهية الخالدة لكل شيء، حتى إن الشرائع السماوية القديمة
قد أصابها بحكمة لله وقدره الانتهاء والنسخ، وحلت مكانها شرائع سماوية أخرى.
الأفكار
السياسية التي تم طرحها في القرن الأخير في المنطقة العربية من الفكر الوطني
اليميني والفكر القومي العروبي بكل تشكيلاته، والإسلام السياسي السني والشيعي وبكل
تشكيلاتهم الفرعية، أثبتت تلك الأفكار والأطروحات أنها أفكار ميتة وغير قابلة
للحياة، وأنها أفكار حملت بذور الفناء في داخلها، ونتيجة لهذا العجز، يمثل أمامنا في
الواقع أمة تشهد الدمار والانهيار في كل شيء، وتقف في ذيل الأمم.
رغم أن
تلك النظريات التي كانت تبشر بالنهوض والتطور وتقدم نفسها على أنها مفتاح الحل، أثبتت
أنها نظريات وأفكار ميتة، لكنها ما زالت موجودة بيننا وما زال يبشر بها البعض ويحاول
البعض أن يقنع الجمهور بأنها أفكار قابلة للحياة والتطبيق، فلماذا هذه الأفكار لا زالت
موجودة بيننا رغم موتها وافتقارها للاستمرار؟
هناك
مجموعة من الأسباب تجعل الأفكار الميتة تستمر بيننا رغم فنائها، وأهم هذه الأسباب:
* عندما تنشأ الأفكار الجديدة تكون جذابة لمن حولها من
الأنصار، وخاصة عنصر الشباب الذين يتربون عليها ويتشربون أفكارها، ويبشرون بها على أنها
طريق الخلاص والخروج من الواقع المأزوم، وفي الغالب تجد هذه الأفكار مقاومة ممن
حولها في البداية، فيقدم لها أنصارها التضحيات من أوقاتهم ومالهم وأحيانا حرياتهم،
فتنشأ حالة من الاتحاد الروحي ما بين الأفكار وحامليها، وبعد أن تشتد الأفكار
وتقوى وتُجرّب على أرض الواقع وتثبت عدم قدرتها على تحقيق أهدافها؛ يصعب على من
حملها وضحّى وبشّر بها وتربّى عليها أن يقر بعد تلك السنوات الطويلة أنه كان يسير
في الطريق الخطأ، أو يؤمن بأفكار عاجزة، أو أنه كان يسير في الطريق غير المثمر في
تحقيق الأهداف المنشودة. هذا الإنكار يذهب بالشخص عادة لردة فعل تدفعه لمزيد من التمسك
بتلك الأفكار بعناد والدفاع عنها، ولوم الظروف التي لم تخدم نُبل مشروعها، بل يذهب
لأبعد من ذلك، في محاولة يائسة لتجديدها أو إحيائها لمحاولة فتح المجال أمامها
لتجرب من جديد في فرصة أخرى. هذه الحالة هي التي تجعل الأفكار الميتة تستمر في
الوجود لفترة أطول بعد وفاتها.
* عندما تنشأ الأفكار تقوم حولها مجموعة من
الهياكل التنظيمية والمؤسسات والمناصب والمصالح والمكتسبات، وهذه المؤسسات والمصالح
تنبني عليها مكاسب مادية ونمط حياة اقتصادي وحياة أسر ومعاشها، لذلك عندما تموت
الأفكار تستمر هذه المؤسسات في العمل لفترة أطول؛ ليس لتحقيق الأهداف من تلك
الأفكار الميتة، ولكن من أجل حفظ تلك المؤسسات لحماية معاش "أيتام الأفكار"، ومن ارتبطت مصالحهم المادية ومعاشهم بها.
* عندما تقوى الأفكار وتشتد، ينشأ معها وحولها
الأدب الذي يبشر بها، فتؤلَّف القصائد والأشعار والروايات والمؤلفات والمسرح والأغاني
والنشيد والرسومات.. إلخ، هذا التنوع الأدبي والفني والإبداع، يجعل الأفكار تعيش
بعد موتها ويستمر ذكرها بين الناس حتى بعد رحيلها، فالأدب هو من يصنع السمعة عن
تلك الأفكار، والسمعة الحسنة تحتاج إلى وقت حتى تتناساها الأجيال.
* عندما تقوم الأفكار، تنشأ معها مجموعة من
العلاقات الاجتماعية المتشابكة بين الأعضاء من صداقات تصل إلى حد الزواج والمصاهرة
في بعض الأحيان، ويصبح هناك نمط ونوع من العلاقات الاجتماعية لا يمكن تعويضه خارج أسوار
الهياكل التنظيمية لهذه الأفكار. والأهم من ذلك، أن بعض الفئات الاجتماعية تكون
عاجزة خارج التنظيم عن بناء أي علاقات اجتماعية، أو أنها لا تتمتع بوضع اجتماعي
يعطيها ذات المكانة التي تجدها داخل التنظيم، فيصبح الاستمرار في تبني الأفكار
الميتة والبقاء في تنظيماتها للحفاظ على المكتسبات الاجتماعية والمكتسبات المعنوية
حاجة ضرورة لا بد منها.
* الشعوب من خلال واقعها الذي تعيشه، هي من
تقرر أن الأفكار ماتت أو لا زالت على قيد الحياة. الشعوب تتعلم بالتجربة، وكما
قيل؛ فإن الشعوب تسمع بعيونها، فهي تصدق ما تراه لا ما تسمعه. تدرك الشعوب الحقائق
دائما بشكل متأخر؛ كونها غير منخرطة في الشأن السياسي وتهضم الحدث بعد مروره بسنوات،
كما تقيم التجربة بعد انتهاء أجلها بفترة عقد أو عقدين من الزمان، خاصة إذا ما كان
للأفكار الميتة رمز أثر أو يؤثر في المجتمع، وهذه المدة هي التي تعطي الأفكار
الميتة فرصة للبقاء والوجود بعد موتها.
الواقع العملي أثبت أن الأيديولوجيات والأفكار التي قامت في أثناء وبعد جلاء الاستعمار في القرن العشرين، من فكر إقامة الدولة الإمبراطورية العربية وفكر إحياء الدولة الإمبراطورية الإسلامية. هذه التجارب على أرض الواقع، أثبتت أنها أفكار غير قابلة للحياة وماتت، لكنها نتيجة أسباب اقتصادية وروحية وأدبية واجتماعية لا زالت موجودة بيننا حتى الآن.