نشرت دورية "
فورين أفيرز" مقالا لأستاذ التاريخ الحديث بجامعة بريستول سايمون جي بوتر حول هيئة البث البريطانية "
بي بي سي"، وما اعتبره تراجعا للقوة البريطانية الناعمة.
وقال الكاتب إنه خلال الحرب الأهلية في السودان، كانت "بي بي سي" أهم مصدر موثوق للأخبار يأتي من مكان بعيد، حيث أعلن "بي بي سي وورلد سيرفيس" أو خدمة بي بي سي العالمية عن بث إذاعي خاص للسودان "للسودان سلام"؛ لكي يبقى المستمعون المحليون على معرفة بالوضع المتدهور في البلد، وتوفير نشرات إخبارية بالعربية من لندن، عمان والقاهرة.
واستخدمت القناة الدولية التكنولوجيا القديمة والحديثة جنبا إلى جنب: راديو بتردد قصير، وهو الوسيط المفضل للإذاعات الدولية منذ عشرينات القرن الماضي، وقرن هذا مع قنوات على وسائل التواصل الاجتماعي ورقمية.
وكان الهدف من وراء هذا، حسب مدير الخدمة العالمية لبي بي سي، هو تقديم "معلومات مستقلة واضحة ونصح في ساعة الحاجة". ولغة كهذه تقوم على الخداع تعود إلى عشية الحرب العالمية الثانية، وهو أن بي بي سي تقوم بشكل خير وحيادي بتقديم الأخبار الحقيقية والموثوقة لمستمعيها حول العالم.
وفي عام 1999، وصف الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان، بي بي سي بأنها "أعظم هدية قدمتها
بريطانيا للعالم هذا القرن".
وتبث الخدمة العالمية لبي بي سي حاليا بأربعين لغة، وتصل إلى 365 مليون شخص كل أسبوع عبر الراديو والوسائل الرقمية الأخرى. وتعمل من خلال أكبر إذاعة بريطانية عامة. وبي بي سي هي من الناحية النظرية مستقلة، ويغطي عملها ميثاق ملكي يجعل محاسبتها للبرلمان وليس
الحكومة، وتمول من رخصة عامة، والتي يجب على كل شخص في بريطانيا يراقب بي بي سي دفعها وبالقانون. وتزعم بي بي سي اليوم أن عدد المستهلكين لأخبارها حول العالم يصل إلى 500 مليون شخص.
وتحصل الخدمة العالمية على نصيب الأسد من المستمعين، ويمكنها أن تزعم ذلك بمبرر أنها لا تزال تلعب دورا كبيرا في حياة الناس حول العالم.
ورغم أهمية الدور الذي تلعبه في أوقات التوترات الدولية، فإن الخدمة العالمية وجدت نفسها في الفترة الأخيرة وسط مشاكل مالية. وفي أيلول/ سبتمبر 2022 أعلنت عن تخفيضات واسعة في العاملين والخدمات لديها، مع إمكانية خسارة 400 وظيفة، وخفضت الخدمات الإذاعية (مع استمرار الخدمات الرقمية) في عدد من اللغات الآسيوية. وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، أعلنت بي بي سي عن وقف البث باللغة العربية بعد 85 عاما.
ولو نظرنا إلى الخدمة السريعة للسودان، فهو يعلم ضعفا وليس قوة في الخدمة العالمية، واعترافا بالضرر الذي تسببت فيه التخفيضات الأخيرة.
وتتعرض الخدمة العالية للخطر، ليس بسبب التخفيضات، فهي ليست تابعة للحكومة البريطانية أو هيئة بث حكومي، ولكن من بي بي سي، نفس المنظمة التي توفر الأخبار والبرامج للجمهور المحلية.
كل هذا يمنح الخدمة العالمية مصادر فنية ضخمة، واحتياطات في المواهب، وسمعة بي بي سي كإذاعة موثوقة. إلا أن التشابك بين البث المحلي والدولي يترك الخدمة العالمية مكشوفة. فالعداء لبي بي سي بين قطاعات بريطانية، بخاصة المحافظين الذين حكموا البلاد لأكثر من عقد، وضع الكثير من الضغوط على التمويل العام. ولأن بي بي سي تدفع معظم فاتورة الخدمة العالمية، فإن محاولات تخفيض التمويل العام لبي بي سي ترك أثره الضار على الخدمة العالمية. فالحملة المحلية التي يقوم بها أعداء بي بي سي يعرض ما ينظر إليه على أنه واحد من أهم القوى الناعمة العالمية لبريطانيا.
وظلت العلاقة بين بي بي سي والحكومة شائكة وغامضة، فهي مستقلة عن القرار السياسي، إلا أنها متعاونة معه. وأنشأت الحكومة البريطانية بي بي سي قبل قرن كجزء من سيطرة الدولة على كل الأخبار، واستمر الاحتكار للأخبار حتى عام 1955، وكانت له أسبابه المحلية، أي تجنب التصادم مع الصحف، وعدم خلق جو فوضوي كالذي يميز الخدمات الإذاعية الأمريكية.
وفي ساحة بث إذاعي دولي، كان هناك دائما تعاون خلف الأضواء بين بي بي سي والحكومة. مثلا، طلبت وزارة الخارجية بداية 1938 من بي بي سي البث بالعربية لمواجهة الدعاية الفاشية بالعربية. وفي نفس العام بدأت بي بي سي بالبث بعدة لغات أوروبية، وبالتعاون أيضا مع وزارة الخارجية، ردا على دعاية النازية وطموحات هتلر المناطقية. وأدى اندلاع الحرب في أوروبا لتوسع خدمات بي بي سي وبتمويل مباشر من الدولة.
والكثير من الخدمات الدولية كانت تحت سيطرة كاملة للدولة، وبدا هذا واضحا في المحتوى. إلا أن المفهوم الاسمي لاستقلالية بي بي سي ساعد في تأكيد زعم الحيادية والصرامة. وحصلت الهيئة على ثقة الجمهور المحلي، وهناك قلة من الدول التي أنشأت قنوات إذاعية لكي تدير عملياتها المحلية والدولية في نفس الوقت.
ويبدو أن الحكومة البريطانية موزعة بين العدوانية لبي بي سي محليا، وما يمكن تقدمه الخدمة العالمية لها كقوة ناعمة تسهم في تشكيل ذهن المستمعين بشأن شؤون العالم كما تراها بريطانيا. وكانت النتيجة هي سلسلة من المساعدات المتقطعة والوقتية دون النظر للمستقبل. ففي عام 2021 قدمت الحكومة مبلغ 10 ملايين دولار ولمرة واحدة لمساعدة بي بي سي في الحفاظ على هدف تقديم الحقيقة والمعلومات الموثوقة، ومواجهة الأخبار الزائفة والدعاية الروسية والصينية.
اظهار أخبار متعلقة
وفي عام 2022، قدمت الحكومة 5 ملايين دولار طارئة تهدف لتعزيز خدمات بي بي سي الموجهة للمستمعين في روسيا وأوكرانيا. إلا أن المعضلة للخدمة العالمية مستمرة، والحلول متعددة، قطع الحبل السري الذي ربطها مع الخدمة المحلية، بشكل يفقدها مظهر الاستقلالية عن الحكومة والاستفادة من مصادر القناة الأم، أو تحويلها لكي تصبح تحت سيطرة الحكومة، ما سيفقدها المصداقية، ويحولها إلى إذاعة مثل بقية الإذاعات الدولية. وربما استمرت الخدمة العالمية في شكلها الحالي تعتمد على المعونات حسب الحاجة.
وبالنسبة لبي بي سي وخدمتها العالمية فهذا وضع يضعف قوتها في زمن القوة الناعمة، فقد أعطت الهيئة بريطانيا الفرصة لكي تتصرف أكبر من حجمها على المسرح الدولي، وفي زمن التنافس الدولي وضخ المنافسين والحلفاء المال والمصادر تبخل الحكومة عليها. وربما ارتكب صناع السياسة فعلا تخريبيا، ودمروا بطريقة غير مقصودة الأرصدة التي منحت الثقة ببريطانيا وحسن النية على المسرح الدولي، ومنذ الحرب العالمية الثانية.