سعيا وراء تبيّن أسباب الانكسار الذي آلت إليه الأمة من المحيط إلى
الخليج تختلف الآراء وتتباين فمنهم من يرى أن الخارج والغرب تحديدا هو سبب أزمتنا
وتخلفنا. يمثل الغرب من ناحية أولى السبب التاريخي لتخلف الشعوب
العربية وهو الذي
غزاها ثم احتلها عقودا فنهب ثرواتها ونصب على حكمها أشرس المستبدين. هذا كلام
يستقيم تاريخيا بقدر كبير لكنه لا يصمد أمام التحليل اليوم.
لنضع جانبا تقديم المسؤولية الخارجية على غيرها لأنها في الحقيقة لا
تخدم إلا سرديات الاستبداد وأدبياته ولننظر فقط إلى الداخل : ما الذي يمنع الأمة
وشعوبها من التحرر والخروج من دائرة الموت رغم الامكانات الهائلة التي تستحوذ
عليها ؟ في الإجابة عن هذا السؤال رأيان. أما الأول فيرى أن الأنظمة الحاكمة هي
سبب البلاء كله والشر معظمه وهو
رأي الجمهور. أما الرأي الثاني فيحمّل الشعوب
مسؤولية تردي أوضاعها ويرى أنها سبب ماهي فيه من السقوط والتخلف وهو رأي
الأقلية.أما القول بأن المسؤولية مشتركة فرأي انتهازي رغم طابعه الوسطي لأنه لا
يقدّم الأسباب التي يتأسس عليها منطقه.
النظام الاستبدادي العربي
ليس دفاعا عنه لكن النظام الرسمي العربي كائن عاقل وكيان واع إذ يبدو
هو الآخر مفعولا به فليس الحاكم عندنا إلا مجرد وكيل إقليمي لا يملك من أمره شيئا
كثيرا بل هو عبارة عن حارس مزرعة من مزارع سايكس بيكو يحافظ على رئاستها مادام
ملتزما بالأوامر والنواهي التي تصدر إليه من الخارج.
لا يعني هذا الإقرار أن الخارج متحكم بالضرورة كليا في القرار
المحلّي لكنّ المستبد العربي يعلم جيدا أنه يتحرك داخل خطوط ودوائر حمراء لا يمكن
تجاوزها ويبقى هامش الحركة رغم ذلك ممكنا وقابلا للتوسيع. ليس الحاكم بريئا من
حالنا لكنه هو الآخر مفعول به يخاف من الخارج كما يخاف من ثورة شعبه وخاصة من
المتربصين به من حوله بما فيهم أقرب المقربين إليه.
لعنُ الحاكم إذن أو نقده أو تحميله مسؤولية ما نحن فيه هو ضرب من
الهذيان وخسران للوقت والجهد فالسلطة العربية قوة وظيفية تقوم بدورها على أكمل وجه
لحماية نفسها أولا وأخيرا كما يفعل كل جسد حي. لا يجب إذن أن ننتظر من الحاكم أن
يدعو إلى التغيير والوعي والحرية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية وإن تظاهرت
أبواقه بذلك فهذا الفعل سيؤدي به إلى السقوط والاندثار كما حدث لأكثر من حاكم
عربي. هذا ليس دوره التاريخي بل إنّ دوره التاريخي يتمثل في النهب والقمع
والاستبداد ونشر الفساد الذي هو المناخ الوحيد الذي يمكن أن يحفظه من كل تغيير
ويمنعه من كل سقوط محتمل.
مسؤولية الشعوب
يرى كثيرون أن الشعوب نفسها ضحية النظام وضحية الخارج معا فقد تكالب
عليها الوكيل والكفيل معا لكن آخرين يعتقدون عن بصيرة أن الشعوب العربية مسؤولة في
جزء كبير عن المصير الذي آلت إليه. فكيف يمكن لشعب مثل شعب مصر مثلا وتعداده يفوق مائة مليون نسمة أن يعجز عن إسقاط
نظام قمعي فاسد وأن يصنع نهضته وكرامته وسيادته كما فعلت شعوب أخرى كثيرة عبر العالم؟
إذا كنّا ننهج موضوعيا نحو تبرئة النظام السياسي العربي الحاكم بما هو موظف محلي ووكيل إقليمي فإن الشعوب والنخب يتحملان الجزء الأكبر من مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع اليوم.
من شارك في إسقاط التجارب الديمقراطية؟ ومن سكت عن قمع الحريات؟ ومن
بارك اعتقال النشطاء والوطنيين وصمت عن سجنهم واعتقالهم وتعذيبهم؟ أليست الشعوب؟
من يصفق للظالمين ويشمت في المعتقلين؟ أليست الشعوب ؟
سيقول قائل: نعم لكنهم قلة قليلة. هذا صحيح لكن أين البقية؟ أين
الملايين الهادرة من المحيط إلى الخليج؟ هل يستطيع النظام الانقلابي في مصر مثلا
الوقوف أمام مليون ثائر فقط؟ كيف يسكت شعب مصر والفساد منتشر كالطاعون؟ كيف يصمت
أمام غلاء الأسعار وانهيار القدرة الشرائية وانقطاع الماء والكهرباء وانعدام الأمل
في تحسن الأوضاع؟
أليست الشعوب مسؤولة عما آلت إليه أوضاعها من خراب؟
يقول آخرون: أنظر ما حدث لشعب سوريا وليبيا اللذين خرجا مطالبين
بالحرية والعدالة والثورة كيف صار حالهم اليوم؟ هذا صحيح أيضا لكنه حق أريد به
باطل. إن ذبح
الثورات وتدمير الأوطان بعدها كان أمرا متعمدا ومقصودا من النظام
العالمي ومن المستبد الداخلي حتى تكفر الشعوب بالتغيير ولترضى بما هي فيه من
الاستبداد والهوان وقد نجحوا في ذلك نجاحا كبيرا. فليس الحنين إلى الاستبداد
السابق للثورات في ليبيا وتونس ومصر وسوريا إلا العنوان الأبرز لهذا النجاح عند
كثير من العوام.
النخب أو اللاعب الثالث الخفي
يبدو هذا اللاعب الذي يترنح بين موقع الشعب وموقع السلطة أخطر
الفاعلين في المشهد العربي المتحلّل. هو فاعل شعبي لأنه ينتمي إلى الشعب لكنه في
نفس الوقت قريب من السلطة مجاور لها متفاعل معها سلبا أو إيجابا بل إنه يسبح في
فلكها في أغلب الحالات.
أولا ـ لا يمكن لأي نظام استبدادي أن يستبد ويحكم إلا عبر وسيط أساسي
ممثلا في النخب من سياسيين ومثقفين وإعلاميين وأكاديميين وكتاب وفنانين ورياضيين
وغيرهم من المكونات التي تشكّل الجسم الوسيط الرابط بين السلطة السياسية والمجتمع.
هذا المكوّن المركزي هو الذي نجح عبر تجارب أمم أخرى في صياغة مشاريع الخروج من
الحكم الفردي وبناء دولة المؤسسات وفصل السلطات وإقرار الحرية مبدأ للمجتمع
والدولة.
إن البناء من جديد يفرض إعادة تشكيل نخب جديدة تقطع كليا مع نخب الأيديولوجيا البالية التي باعت الوهم للأمة عقودا كما يستوجب الخروج من خطابات الإطراء التي تكال للشعوب العربية ومصارحتها بحقيقة كونها صانعا أساسيا للمأساة التي تعيش فيها.
ثانيا ـ شكلت النخب العربية السياسية منها والثقافية الفكرية حجر
الزاوية في مشاريع الاستبداد والهيمنة بدل أن تكون رافعة للتحرر وبناء مجتمعات
العدالة. نخب انتهازية نخرتها الأيديولوجيا المستوردة ولم تفلح إلا في التناحر
والتقاتل والتآمر بشكل حوّل المشهد الفكري والسياسي العربي إلى حالة من الموت الذي
لا يقاوم. ساهمت هذه النخب بقوّة في التمكين لمشاريع الاستبداد وفي تمرير مشاريع
التغريب وفي صياغة خطابات شعبوية براقة فضحتها ثورات الشعوب الأخيرة وعرّت زيفها.
إذا كنّا ننهج موضوعيا نحو تبرئة النظام السياسي العربي الحاكم بما
هو موظف محلي ووكيل إقليمي فإن الشعوب والنخب يتحملان الجزء الأكبر من مسؤولية ما
آلت إليه الأوضاع اليوم. إن تناحر النخب العسكرية في السودان وقبلها في ليبيا دليل
لا يقبل الدحض عن الدور الخطير الذي لعبته هذه المكونات في منع دولها وشعوبها من
النهضة والبناء.
إن البناء من جديد يفرض إعادة تشكيل نخب جديدة تقطع كليا مع نخب
الأيديولوجيا البالية التي باعت الوهم للأمة عقودا كما يستوجب الخروج من خطابات
الإطراء التي تكال للشعوب العربية ومصارحتها بحقيقة كونها صانعا أساسيا للمأساة
التي تعيش فيها.