قال الكاتب والباحث
المصري، خليل العناني، إن
المذبحة
التي وقعت في رابعة، قبل عقد من الزمان، كان من المفترض أن تكون مشهدا مبكيا
ومؤلما للشعب، لكن منفذيها عرضوها بطريقة سريالية مبهجة ومفرحة، تسببت في تمزيق
نسيج المصريين.
وأشار العناني بمقال نشره في
موقع ميدل إيست
آي، وترجمته "عربي21" إلى أن روابط المصريين التي كان يعتقد أنها غير قابلة
للكسر، استبدلت بمشاعر عدم ثقة وانقسام، ولا يزال قسم كبير من المجتمع، أعمى عن
الفظائع التي ارتكبت قبل عقد من الزمن، وعالقا في شباك الإنكار.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
في الساعات الأولى من صباح يوم 14 آب/أغسطس
2013، قبل عقد من الزمان، اخترقت سيمفونية مؤلمة من الطلقات النارية الهواء لتكتب
حكاية كئيبة حُفرت في وعي المصريين إلى الأبد. فما قد يبدو طلقًا ناريًا يتعالى من
أحد حفلات الزفاف في مصر سرعان ما تحوّل إلى مسرحية درامية، حيث ألقت أصداء العنف
بظلالها الشريرة على هدوء الصباح.
في الواقع، ما بشرت به هذه الطلقات النارية لم
يكن حفلًا لتزاوج روحين بل مذبحة لا توصف. أصبحت مواقع الاحتجاج في ميدان رابعة
العدوية والنهضة، الواقعين على بعد مسافة قصيرة من منزلي، بؤرة هجوم وحشي أدى إلى
إبادة مئات الأرواح. لقد أُطلق وابل من الرصاص لا يرحم.
عندما خططت السلطات المصرية لرقصة الموت، كان
المشهد العام يشوبه تباين مخيف. وبينما كان ينبغي أن يبكي الناس وانهمرت من أعينهم
دموع وعذاب الحرقة والفقد، تكشّفت مظاهر احتفال الفاسد. عُرضت سيمفونية سريالية من
البهجة والفرح أمام مشهد مأساوي - مشهد شاذ يطارد فترات استراحة ذاكرتي.
بعد عشر سنوات، لا تزال جراح رابعة لم تندمل.
لقد دُمّر نسيج المجتمع المصري الذي كان يُنظر إليه في يوم من الأيام على أنه مرن
ومترابط. وتمزّقت الروابط التي كان يُعتقد أنها غير قابلة للكسر واستُبدلت بشعور
منتشر من عدم الثقة والانقسام.
في ظل هذا الواقع المرير لا يزال قسم كبير من
المجتمع أعمى عن الفظائع التي ارتكبت قبل عقد من الزمن وعالقًا في شباك الإنكار.
بحماس مثير للقلق، يُمجّدون السلطات المسؤولة عن هذه الأعمال الشنيعة ويشيدون بهم
كأبطال ويُصفقون لمُرتكبي مجزرة رابعة، مما يجعل ذكريات الشهداء مؤثرة أكثر.
ألقى جهلهم المتعمّد وتأييدهم للممارسات
الوحشية بظلاله على كامل الأمة - وهي ذكرى صارخة بأن ندوب ذلك اليوم المأساوي أعمق
من أي ندوب جسدية أخرى. وبينما يتقدّم العالم إلى الأمام، يعتبر هؤلاء المنكرون
بمثابة شهادة مؤلمة على صعود قوة من وحي الأوهام وإنكار خبيث للحقيقة.
العمى المتعمّد
تعتبر الجهات الوحيدة المستفيدة من ذلك هي
السلطات المصرية التي دبّرت هذه النكبة. لقد لعبوا بمكر تلك الاستراتيجية
الكلاسيكية "فرق تسدّ"- وهي استراتيجية خبيثة تضرم العداء بين فئات
المجتمع مما يؤجج نيران الصراع في صفوفه.
لقد استسلم جوهر الوحدة، الذي كان يومًا ما حجر
الزاوية في المجتمع المصري، لقوى التلاعب المدمرة. انقلبت الجماهير ضد بعضها
البعض، في حين تستمتع السلطات بانتصارها المشؤوم. وتعتبر هذه المأساة بمثابة درس
صارخ وشهادة مؤلمة للقوة الصامدة لإتقانها الخداع وفن زرع الفتنة.
سبب استمرار الأمة في حالة الإنكار هذه فيما
يتعلق بمذبحة رابعة ظلّ لغزا دائما. من الواضح أن الانقسامات السياسية
والأيديولوجية الراسخة، مثل خطوط الصدع العميقة، تعمق هذا العمى المتعمد. لكن جذور
الإنكار أعمق بكثير وتتجاوز عالم السياسة وتتسرب إلى جوهر مجتمعنا.
أصبحت وحدة أمتنا التي كان يتم الاحتفال بها في
السابق والتآزر الآن ملوثة وهشة. استبدلت فسيفساء من القيم المشتركة والهوية
الجماعية بالشك وانعدام الثقة. لقد تآكلت الخيوط التي نسجت مجتمعاتنا وجعلتها نسيجًا نابضًا بالحياة، مما جعلنا عرضة للتلاعب والانقسام.
لقد مر عقد من الزمان على تلك المجزرة
المشؤومة، ولا تزال جوقة منسقة من المسؤولين تلقي باللوم على الضحايا. تظل الحقيقة
مدفونة تحت طبقات من الخداع والتضليل. لم يمثل مرتكبو هذه الفظائع أمام العدالة
بعد أو تعرضوا لأي نوع من المساءلة.
يفتح هذا الظلم الجراح الدامية ويظل بمثابة
تذكير قاتم بديناميات القوة المشوهة في السلطة. لا تزال أصداء الطلقات النارية
لذلك الصباح تتردد في الذاكرة الجماعية للأمة وفي أسس حكمها. ويرتبط شفاؤنا
ارتباطًا وثيقًا باعترافنا بهذا اليوم المؤلم.
وحتى تواجه الأمة الحقيقة وتسعى لتحقيق العدالة
للذين سقطوا، سيستمر شبح المذبحة حاضرا بشكل مخيف وغير قابل لإسكاته. يمكن للاعتراف بالحقيقة، التي ينبغي تمجيدها،
تحويل حتى أكثر الموروثات قتامة.