إن القيام بتمرين
تقييمي لتجربة عشر سنوات
من التطبيق الفعلي لمقتضيات الدستور الجديد، يستلزم تقييم العمل الحكومي في ظل
دستور 2011، خلال المرحلة التي تحمل فيها حزب العدالة والتنمية مسؤولية رئاسة
الحكومة واحتك خلالها بالسلطة بشكل مباشر، والتقدير الدقيق لما يمكن تسميته
بالمعطيات الماكروسياسية التي تحكمت في التجربة محليا وإقليميا ودوليا، وعلى ضوء
ما حملته هذه التجربة من انتظارات كبيرة تقترب من النظرة المثالية، وتعلق آمالا
عريضة على حزب العدالة والتنمية، باعتباره يمثل قوة سياسية ذات امتداد اجتماعي،
وباالنظر إلى كونه لم يسبق أن تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام من موقع الحكومة.
إن سؤال التقييم يفرض نفسه للوقوف عند
عناصر القوة وتثمينها، والوقوف عند عناصر الضعف والاعتراف بها، والقيام بالنقد
الذاتي اللازم لتجديد قراءة الحزب لمفردات الواقع السياسي بشكل موضوعي، والتمكن من
الفهم الجيد للعوائق الذاتية والموضوعية، التي تعترض مشروع الإصلاح الحقيقي في
البلاد، وهو ما يفتح المجال أمام إمكانية التوفر على رؤية متكاملة للإصلاح السياسي
المنشود.
رياح الربيع العربي التي حملت حزب
العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة.
ما من شك أن "ثورات"
الربيع العربي أدت دورا أساسيا في وصول حزب العدالة والتنمية إلى
رئاسة الحكومة، فقد وصلت شرارة هذه الاحتجاجات إلى
المغرب عن طريق الدينامية
الاحتجاجية التي انطلقت يوم 20 شباط/فبراير، ونجحت في تنظيم مظاهرات في أغلب المدن
الكبرى، بالإضافة إلى مدن صغيرة ومتوسطة، بمشاركة فعاليات يسارية وإسلامية
وليبرالية، وقد كان لسقوط عدد من رؤوس الأنظمة العربية صدى ملهما لهذه الاحتجاجات،
غير أن رد فعل السلطات المغربية جاء مختلفا، فبعد خطاب 9 آذار/ مارس الذي وعد فيه الملك
بتعديل الدستور، تم اتخاذ جملة من القرارات ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية
لامتصاص غضب الشارع، فتمت الزيادة في أجور موظفي القطاع العام، وبذلك تم تحييد
النقابات العمالية التي لم تنخرط في هذه الاحتجاجات، كما تم تشكيل لجنة استشارية
لوضع الدستور برئاسة مستشار الملك أستاذ القانون الدستوري عبد اللطيف المنوني،
وعضوية عدد من الشخصيات القانونية.
وإلى جانب هذه اللجنة، شكل الملك آلية
سياسية مكلفة بالمتابعة والتشاور وتبادل الرأي بشأن الإصلاح المقترح للدستور، وضمت
في عضويتها رئيس اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور ورؤساء الأحزاب السياسية
ورؤساء النقابات، ترأسها مستشار الملك محمد معتصم (توفي خلال قبل شهرين) ، وجرى
تتويج هذه الإجراءات بتنظيم انتخابات سابقة لأوانها يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 حقق فيها حزب
العدالة والتنمية فوزا كبيرا بحصوله على 107 مقاعد، من أصل 395 من عدد أعضاء مجلس
النواب، أي حوالي 27%، وهكذا قام الملك يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 باستقبال عبد الإله بنكيران بمدينة ميدلت، وعينه رئيسا
للحكومة طبقا لمقتضيات الفصل 47 من الدستور الجديد، وبعد 36 يوما تم تشكيل الحكومة
الجديدة بمشاركة أربعة أحزاب سياسية، هي حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، وهي أحزاب كانت تشكل جزءا من الكتلة الديموقراطية إضافة إلى حزب الحركة الشعبية.
السياق الدولي والإقليمي في ميزان
التقييم.
تعرضت الدينامية السياسية التي أطلقتها
رياح الربيع العربي لانتكاسة قوية، مع إجهاض المسار الديموقراطي في مصر، بعد سيطرة
الجيش على السلطة في أعقاب مظاهرات 30 تموز/يوليو 2013، وكشفت الثورة المضادة عن نفسها
في تونس، خصوصا بعد عملية اغتيال شكري بلعيد زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين،
بتاريخ 6 شباط/فبراير 2013 ومحمد البراهمي، مؤسس حزب التيار الشعبي في 25 تموز/يوليو من نفس السنة، مما اضطر حركة النهضة
لتقديم تنازلات مؤلمة بعد انتخابات 2014، التي عرفت صعودا سريعا ومفاجئا لحزب نداء
تونس، الذي ضم عددا كبيرا من الطبقة السياسية المساندة لابن علي، كما دخلت كل من
ليبيا وسوريا واليمن في مستنقع العنف، وكان من الطبيعي أن تنعكس هذه الأحداث على
المناخ السياسي العام بالمغرب، وأن يكون لها تأثير معنوي ملحوظ.
وهكذا، تعرضت الحكومة لهزات عنيفة
ابتداء من سنتها الثانية، خاصة من طرف حزب الاستقلال الذي لم يتردد أمينه العام
حميد شباط الذي كان قد جرى انتخابه على رأس حزب الاستقلال في أيلول/ سبتمبر 2012، في توجيه
اتهامات عنيفة لحزب العدالة والتنمية، أدت في آخر المطاف إلى خروج حزب الاستقلال
من الحكومة يوم 10 حزيرلن/يونيو 2013، خلال السنة الثانية من ولايتها، وهو الخروج الذي لم
يكن مستندا على اعتبارات مرتبطة بالاختلاف في البرامج والرؤى، بقدر ما اقترن
بمحاولة افتعال الخصومة مع حزب العدالة والتنمية، واستفزازه بتصريحات صادرة عن
أمينه العام المنتخب حديثا آنذاك، حميد شباط الذي لم يتردد في نعت رئيس الحكومة
بالعلاقة مع داعش وجبهة النصرة والموساد.
استمرت حكومة عبد الإله بنكيران بدون
أغلبية برلمانية داعمة زهاء 4 أشهر، وصرح عبد الإله بنكيران بأنه لن يقدم
استقالته، وأن بإمكان الأغلبية المعارضة أن تسقط الحكومة عن طريق سحب الثقة، وهي
الإمكانية التي يتيحها الدستور.
على عكس بعض التجارب العربية المقارنة، لم يعتمد المغرب سياسة عدائية اتجاه الحركة الإسلامية، ولم يختر أسلوب تجفيف منابع التدين لمحاصرتها، وهو ما انعكس بشكل إيجابي على الحركة الإسلامية نفسها، وجعل سلوكها السياسي يتميز بالاعتدال، إلى درجة المبالغة في المرونة السياسية التي تكون على حساب المبادئ في بعض الأحيان.
غير أن الأمور جرت في اتجاه دخول حزب
التجمع الوطني للأحرار للحكومة مكان حزب الاستقلال، وهو الحزب المقرب من القصر،
وكان يقدم نفسه كمنافس لحزب العدالة والتنمية خلال الحملة الانتخابية. وإذا كان
حزب العدالة والتنمية قد نجح في المحافظة على رئاسة الحكومة، فإن حزب التجمع
الوطني للأحرار، نجح في الاستحواذ على أهم المناصب الوزارية من قبيل الاقتصاد
والمالية والصناعة والاستثمار، إلى جانب وزارة الخارجية التي كانت لدى حزب العدالة
والتنمية، وتولي وزير تقنوقراطي منصب وزير الداخلية مكان وزير حزبي سابق.
وهكذا نلاحظ أن تأثير العامل الدولي
كان تأثيرا محدودا ونسبيا، ولم يمنع حزب العدالة والتنمية من الاستمرار في رئاسة
الحكومة، ولو في ظل شرورط سياسية غير مريحة.
بل إن العامل الدولي والإقليمي لم يكن
له أي دور في منع حزب العدالة والتنمية من تحقيق نجاح انتخابي مبهر خلال
الانتخابات البلدية التي جرى تنظيمها يوم 4 أيلول / سبتمبر 2015، والتي تمكن من
خلالها من ترؤس جميع بلديات المدن الكبرى في المغرب، بما فيها العاصمة الرباط
والدار البيضاء وفاس ومراكش وأغادير وطنجة وسلا ومكناس وغيرها.
كما أن العامل الدولي والإقليمي لم
يظهر له أي تأثير خلال الانتخابات التشريعية ليوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، التي مكنت حزب
العدالة والتنمية من رئاسة الحكومة للمرة الثانية على التوالي، استثناء من التاريخ
السياسي المغربي المعاصر، وهو ما يجعلنا نعتبر بأن الحياة السياسية المغربية،
وتحديدا ما يتعلق بانتظام العملية الانتخابية واحترام مخرجاتها، تتحكم فيها معطيات
داخلية بالأساس، سمحت لحزب العدالة والتنمية باستكمال ولايته على رأس الحكومة لمدة
خمس سنوات من 2011 إلى 2016، بل ونجح في استكمال ولاية ثانية من 2016 إلى 2021،
رغم التعثر الكبير الذي واجه رئيس الحكومة المعين للمرة الثانية عبد الإله بنكيران، وفشله في تشكيل الحكومة، وتعيين سعد الدين العثماني مكانه بعد ستة أشهر مما سمي بـ
"البلوكاج الحكومي".
لكن قبل تحليل محطة البلوكاج الحكومي
دعونا نقف عند المعطيات الداخلية التي سمحت لحزب العدالة والتنمية بتحقيق ما لم
تنجح حركات إسلامية أخرى في تحقيقه في سياقات أخرى مختلفة.
أولا ـ خصوصية النظام السياسي المغربي
مدخل أساسي لفهم استمرارية العدالة والتنمية.
ندافع هنا عن فرضية محورية، هي أن
المشروعية السياسية القوية التي تتمتع بها المؤسسة الملكية، مكنتها من طبيعة إدماجية
واستيعابية لمختلف التشكيلات السياسية، إلى جانب خبرة طويلة في ترويض الأحزاب
السياسية المعارضة، في ظل شروط انفتاح سياسي متحكم فيه من قبل المؤسسة الملكية،
مطبوع بالقبول النسبي بالقوى السياسية والاجتماعية، بما فيها الحركات الإسلامية،
فالمغرب، على عكس بعض التجارب العربية المقارنة، لم يعتمد المغرب
سياسة عدائية
اتجاه الحركة الإسلامية، ولم يختر أسلوب تجفيف منابع التدين لمحاصرتها، وهو ما
انعكس بشكل إيجابي على الحركة الإسلامية نفسها، وجعل سلوكها السياسي يتميز
بالاعتدال، إلى درجة المبالغة في المرونة السياسية التي تكون على حساب المبادئ في
بعض الأحيان.
إن تحكم الملكية في الزمن السياسي
الاستراتيجي من خلال مشروعيتها المستقرة وموقعها الدستوري ومكانتها السياسية، في
الوقت الذي تخضع فيه الأحزاب الحكومية للمحاسبة في الزمن السياسي المحدود
بالانتخابات الدورية، يجعل الأحزاب السياسية مهما بلغت شعبيتها تكون مطالبة بتقديم
الحساب للمواطنين بشكل منتظم، وتلبية احتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما
لا يستطيع أي حزب سياسي تحمله لفترة طويلة، ولذلك فإن نجاح حزب العدالة والتنمية
في البقاء في السلطة، لا يشكل أي خطر على النظام السياسي ولا يستطيع أن يغير من
قواعد العملية السياسية، التي تبقى تحت مراقبة المؤسسة الملكية، انطلاقا من
صلاحياتها الدستورية الواسعة.
كما أن قواعد النظام الانتخابي لا تسمح
بتشكيل الحكومة من حزب واحد، وهو ما يفرض على الحزب الأول تقديم التنازلات
الضرورية للحفاظ على استمرار الائتلاف الحكومي، التي كثيرا ما يؤدي بعضها دور
الفرملة المنهجية لعدد من المشاريع ذات الطبيعة الإصلاحية النوعية، فضلا عن دور
الجهاز البيروقراطي، الذي لا يشتغل بالمرونة المطلوبة عندما يتعلق الأمر بمشاريع
حكومية، خصوصا عندما يتعلق بمشاريع ذات نزعة إصلاحية قوية، يمكن أن تمس بمصالح أو
امتيازات لفئات معينة مستفيدة.
ثانيا ـ رعاية شعبية الحزب عبر خطاب
اجتماعي واضح مع إعطاء الأولوية للاستقرار السياسي
إن صمود حزب العدالة والتنمية في
السلطة لمدة عشر سنوات، يمكن أن يجد تفسيره في نجاحه المعتبر في الحفاظ على شعبيته، بحيث نجح الحزب خلال الولاية التي تولى خلالها عبد الإله بنكيران رئاسة الحكومة،
في إطلاق العديد من المبادرات الإصلاحية
الشجاعة التي لم تتجرأ عليها حكومات أخرى، وعلى رأسها إصلاح صندوق الدعم وتحرير
قطاع المحروقات والشروع في إصلاح أنظمة التقاعد، وبلورة خطاب سياسي يدافع عن مصالح
الفئات الاجتماعية الفقيرة، كما تابع
المغاربة رئيس حكومة يتحدث معهم باللغة التي يفهمونها، ولا يتوقف عن تبسيط
الإشكاليات السياسية المعقدة للناس، مع الحرص على تميز الأداء السياسي اليومي
لمسؤولي العدالة والتنمية بنظافة اليد والتورع عن السقوط في الفساد ونهب المال
العام.
ومن المفيد التذكير بأن الحكومة الأولى
تشكلت في ظل ظروف وأوضاع صعبة مطبوعة بحركة احتجاجية استمرت طيلة سنة 2012 تقريبا،
تميزت بتنامي حالات احتلال الأملاك العمومية، وتوسع حركة الإضرابات القطاعية
العشوائية والمتكررة في مجالات حيوية، مثل المستشفيات والمدارس والمحاكم والجماعات
المحلية، مما أدى إلى تعطيل خدمات ومرافق عمومية أساسية، وإلى تأخير مصالح
المواطنين بشكل حاد وإضعاف ثقة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، بالموازاة مع
حملات إعلامية عملت على خلق حالة من التوجس إزاء المستقبل، والتشكيك من قبل البعض في قدرة التجربة الحكومية الجديدة على
المساهمة في صيانة هيبة الدولة، وتدعيم الثقة في مسار الإصلاح في إطار الاستقرار.
في ظل هذه المعطيات، نجح حزب العدالة
والتنمية في تجنب العزلة السياسية وحافظ على تحالفاته السياسية، سواء على مستوى
الحكومة أو على مستوى الجماعات الترابية، مع تسجيل نوع من التفاهم أكثر مع حزب
التقدم والاشتراكية، وتبنى وزراؤه لغة وطنية منشغلة بمواجهة المشكلات الاقتصادية
والاجتماعية للمواطنين، من خلال اقتراح الأفكار والبرامج والحلول، وتغليب منطق
التوافق والتعاون على منطق الأغلبية العددية، والحرص ـ بصفة خاصة ـ على عدم
الاصطدام بالمؤسسة الملكية وبالقوة الصلبة داخل مؤسسات الدولة.
في الحلقة القادمة نتوقف عند قصة
التحالف مع حزب التقدم والاشتراكية ذي المرجعية الاشتراكية.