الكتاب: "الإسلام والحداثة والربيع
العربي"
الكاتب: فرانسيس فوكوياما
حوار: الدكتور
رضوان زيادة
الناشر: المركز الثقافي العربي الدار
البيضاء المغرب، ط1- 2015
عدد الصفحات 269
يمثل هذا الأثر حوارا أجراه الدكتور
رضوان زيادة (وآخران) مع
المفكر الأكاديمي الأمريكي ذي الأصول اليابانية المختص في
فلسفة السياسة والاقتصاد فرانسيس فوكوياما الذي يعد من أهم منظري المحافظين الجدد.
برز اسمه مع ظهور مؤلفه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (1992) وتزامنه
مع انهيار الشيوعية في المعسكر الشرقي. ففي هذا الأثر دافع عن أطروحة تقول إن
الديمقراطية الليبرالية باتت الشكل الوحيد للحكم. ولن يظهر نظام سياسي مختلف يصلح
على المدى البعيد. وفي هذا الحوار الذي تطرق إلى قضايا الدولة وحكم القانون
وخلفيات معارضته للحرب على العراق عوائق تحقق الديمقراطية في الشرق الأوسط
والعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، يراجع المفكر المثير للجدل بعض تصوراته.
1 ـ مفهوم الدولة
يعرف الدولة بكونها بيروقراطية عمادها
الجدارة والإدارة الموضوعية. ويجد مسارها متشابها في مختلف الحضارات. فقد عرفت
مختلف المجتمعات بتجربة الحكم القبلي أو التنظيم الذي يعتمد النسب والقرابة قبل
الارتقاء إلى تنظيم الدولة. ويحدد شرطين لتحققها: قابلية المساءلة وتحقق حكم
القانون.
أ ـ الحكومة القابلة للمساءلة:
تنزع الدولة باستمرار إلى المركزية،
إلى تجميع أكبر قدر من السلطات حتى تكون أقوى. ولكن المفارقة أنّ قوتها هذه قد
تتحوّل إلى مصدر وهن. فقوتها يجعلها تنخر من الدّاخل . فلا تقوى على مقاومة الفساد
داخلها.ولهذا العجز تبعاتكعدم القدرة على تحقيق تنمية اقتصادية بصورة جيدة.ويضرب
على ذلك مثلا فرنسا ما قبل الثورة. فقد كانت توصف بالعظمة وتتسم المركزية القوية.
ولكنها كانت أكثر المجتمعات فسادا على الأرض،على المستوى الرسمي خاصة، فالملك كان
يبيع المناصب السياسية إلى الأثرياء في ما يشبه المزاد العلني.
لئن وجد السلفيون الديمقراطية مناهضة للدين فإنّ ذلك لا ينفي وجود فهم للدين أكثر ليبرالية وتسامحا.. القول بأن الإسلام دين ودنيا هو تفسير ما للدين وليس الدين بالضرورة.
وكثيرا ما يؤدي هذا الفساد إلى تفكيك
أي تجمع معارض بأن يُشترى بعض أفراده كأن يمنح مكاسب معتبرة كالحق في جمع ضريبة
ما. وقد يُورّث هذا الحق لنسله لاحقا. ولا يجد الوضع القائم حاليا في دول أمريكا
اللاتينية بعيدا عن هذه الحالة، رغم أنها توصف بالديمقراطية. فكثيرا ما لا تقوى
الدولة على فرض بعض القوانين.
ولكن لهذه المعادلة وجه الآخر يستدعيه
من تاريخ انجلترا حين وُجد برلمان قوي جدا لم تتمكن الدولة من فرض الضرائب عليه
ويستدعيه من هنغاريا في القرن الخامس عشر. فمن شأن وجود نخبة متماسكة لا تستطيع
الدول مواجهاتها أن يقوّض الدولة
"فإذا تماديت في ذلك بطريقة معينة، وأصبحت ترفض تماما أن تدفع أي ضرائب ولا
تريد أي حكومة مركزية إطلاقا، فعند نقطة ما لن يكون لديك دولة، ولن يكون لديك عمل
جماعي، وهذا ما حدث لهنغاريا في أوائل القرن السادس عشر، ثم غزاهم الأتراك وفقدوا
بلادهم". وعليه فوجود حكومة دستورية و مقاومة قوية من المجتمع المدني غير
كافيين لإنتاج ديمقراطية حديثة وإنما وجود دولة قوية ومجتمع قوي في الآن نفسه.
فلابد من التوازن بين القوتين المتعارضتين. فـ"ـيبقى كل منهما تحت المساءلة
من قبل الطرف الآخر. وإذا كان لديك مجتمع قوي ودولة ضعيفة، أو دولة قوية ومجتمع ضعيف،
فإن أحدهما سيكون لاغيا."
ب ـ حكم القانون:
حكم القانون مفهوم من نحت الباحث يشير
إلى نوع من التقييد أعلى من الحاكم السياسي. ولا يتحقق إلا بضمان إنفاذ القانون
على الأقوياء وعلى النحب خاصة حتى لا تحصل تجاوزات، فتطبيق القانون على الضعفاء
فحسب لن يجسد فكرة العدالة. وعامة لا يمتثل المواطنون للقانون إلا بتوفر شرطين: أن
يكون عادلا أولا وأن يعكس شيئا من قيم مجتمعاتهم ومن تطلعاتهم للمستقبل وفق رؤاهم
الخاصة ثانيا. "لأن أحدا لن يتبع مجموعة من المعايير تملي عليه كيف
يتصرف" فـ"ـرغم وجود مجموعة رسمية من القوانين في أفريقيا والتي لها أصل
استعماري، إلا أنّ حكم القانون ضعيف لأنه لا يتماشى مع القيم أو التقاليد التي
يحافظ عليها المجتمع". ولتوضيح المفهوم يشير إلى تجربة كمال أتاتورك في
تركيا. فقد تخلص نظامه من الشريعة متأثرا بالنموذج الغربي فقوض الفهم المحلي
للعدالة، وفي الآن نفسه لم يخلق هذا النظام مؤسسات تحل محّله بفعل نزعته المفرطة
إلى التغريب.
2 - خلفيات معارضته للحرب على العراق
يأخذه الحوار إلى الحرب على العراق وقد
كان معارضا لها. فيعلن بوضوح أنه لم يرفضها لأسباب أخلاقية وإنما لإيمانه بأنها لن
تضمن التخلص من صدام حسين بشكل سريع وبخسائر أقل ولن تكفل عبور العراق السريع لنظام
حكم مستقر. فالولايات المتحدة الأمريكية لم تستعد الاستعداد الجيّد لهذا التحدي
وتقديرات إدارة بوش لمجريات الحرب كانت خاطئة وورطتها اليوم هناك تؤكد صواب موقفه.
ويردّ سوء التقدير هذا إلى قصور في الإلمام بخصوصيات المنطقة الثقافية.
فالأمريكيون كانوا يعتقدون أن الحرب ستكرر تجربة أوروبا الشرقية 1989. فصدام كان
مكروها من قبل شعبه وحالما يتم إزاحته من على رأس السلطة سيندفع الجميع إلى إرساء
تجربة ديمقراطية على المنوال الغربي. ولكن اتضح لاحقا أنّ المشهد مركب. فزوال حكم
صدام حسين كشف الاختلافات الكبيرة بين السنة والشيعة والعرب والأكراد، وقد زادت
مشاعر الريبة من الوجود الأمريكي،بسبب الصراع العربي الإسرائيلي، في تعقيد الأمر.
وينفي فوكوياما أن يكون دافع الولايات
المتحدة الاستيلاء على النفط العراقي واحتكار استغلاله لأن صدام حسين كان سيسعد
بترتيبات تنقذ حكمه مقابل تسوية عنوانها جلب الاستثمارات الأمريكية للعراق،
مؤكدا أنّ مسألة أسلحة الدمار الشامل كانت
الدافع الرئيسي وأن الولايات المتحدة لم تحسن تقدير الموقف مرّة أخرى، وأنّ الجميع
كان يقع تحت تأثير الصدمة النفسية إثر هجمات 11 سبتمبر. فقد طُرح السؤال بشدة،
ماذا سيفعل هؤلاء الإرهابيون بالأسلحة النووية تقع بين أيديهم؟ وما الضامن لعدم
وجود تنسيق بينهم وبين صدّام. واعتقد هو بدوره أن "الجهاد الإسلاموي"
يمثل تهديدا حقيقيا للولايات المتحدة. أما اليوم فقد بات يعتقد أنه يعسر على هؤلاء
الجهاديين الوصول إلى مثل هذه الأسئلة وأن غزو أفغانستان والعراق قاد إلى الأسوإ:
فقد تشجع على تكتل الجهاديين من كل أنحاء العالم.
3 - عوائق تحقق الديمقراطية في الشرق
الأوسط
في إطار حديثة عن التناقض بين تبني
الولايات المتحدة الأمريكية لنشر الديمقراطية في العالم النامي ودعمها
الدكتاتوريات في هذه البلدان يميل إلى التملص من الإجابات المباشرة، فيقدر أن النفط
والصراع مع إسرائيل عاملان أعاقا التنمية الديمقراطية في الشرق الأوسط. فقد غدا
النفط نقمة أكثر مما هو نعمة. وانطلاقا من تصوره الليبرالي اليميني يقدّر أن فرض الضرائب يصنع رأيا عاما مسائلا
للدولة حول كيفية إنفاق الأموال.
يقدر أن النفط والصراع مع إسرائيل عاملان أعاقا التنمية الديمقراطية في الشرق الأوسط. فقد غدا النفط نقمة أكثر مما هو نعمة. وانطلاقا من تصوره الليبرالي اليميني يقدّر أن فرض الضرائب يصنع رأيا عاما مسائلا للدولة حول كيفية إنفاق الأموال.
أما في الاقتصاد الريعي القائم على
تصدير النفط، فلا تفرض الضرائب ولا يسهم المواطن في موارد الدولة ومن ثمة يشعر
بأنه غير معني بكيفية صرف الدولة لأموالها، فلا يتشكل رأي عام مراقب للدولة فيهدم
أسّ عميق من أسس الديمقراطية. ومثل الصراع مع إسرائيل تعلة جيدة لترمي الدولة كل
مظاهر فشلها أو تقصيرها على ذلك الصراع.
4 - في العلاقة بين الإسلام والديمقراطية
يميل العلمانيون في الشرق الأوسط، منذ
تجربة الكماليين في تركيا، إلى تبني الفهم
الفرنسي الذي يفصل بعمق بين الكنيسة والدولة ويعتقد أن الدين عدو للديمقراطية.
فهذا الاعتقاد ناشئ عن معارضة الكنيسة الكاثوليكية للثورة. وعلى خلاف التجربة
الفرنسية لم يقع الصدام الكبير بين الكنيسة والمجتمع الحديث في الدول
الأنغلوساكسونية. ولهذا كانت حداثة الولايات المتحدة أكثر تسامحا مع التدين حيث
تكون الدولة محايدة ويسود اعتقاد بإمكانية قيام نظام ديمقراطي يؤمنه أشخاص متدينون.
تفسر الأنظمة الدينية الظواهر بطرق
عديدة. ولئن وجد السلفيون الديمقراطية مناهضة للدين فإنّ ذلك لا ينفي وجود فهم
للدين أكثر ليبرالية وتسامحا.. القول بأن الإسلام دين ودنيا هو تفسير ما للدين وليس
الدين بالضرورة.
ولعل مأتى الاحتراز حول الديمقراطية أن
يرتبط بسعي من تبنوها من المسلمين إلى استيراد النموذج الغربي دون أن يأخذوا بعين
الاعتبار العناصر الثقافية المحلية أو أن يرتبط بعملها على فرض أفكارها في عديد
المسائل الثقافية (حقوق المرأة، دور الدين في المجتمع). أضف إلى ذلك أنّ التهديدات
المسلطة على العالم الإسلامي كانت كبيرة. ومن ثمة فإن العودة إلى الدين والتمسك
بالهوية مثلا ضربا من الآلية الدفاعية. ولا يعود هذا القلق حول الهوية إلى
التهديدات الخارجية دائما يقدر ما يمثل ردة فعل على فشل التحديث في المجتمعات
الإسلامية. فمن أسبابه الشكل السيئ للحكم في هذه البلدان. فلو وجدت صين عربية:
بمعنى دولة تحقق نموا سنويا يقدر بعشرة في المائة لاهتم الناس بتنمية الثروة قبل
أن يهتموا بالقلق على الهوية.
و"بالتالي لا أعتقد، يقول
فوكوياما، أنّ هنالك عائقا مركزيا في الإسلام أمام الديمقراطية أو غيرها من جوانب
التنمية السياسية الحديثة". فجوهر الديمقراطية هو أن يكون القادة مسؤولين
أمام شعوبهم.
5 - فوكوياما والسؤال المأزق
على هذا النحو شرح فهمه للتنمية
السياسية وحكم القانون مستندا إلى خلفيته اليمينية، فيبدو الباحث كمن يتراجع خطوة
إلى الوراء مقارنة بما جاء في أثره "نهاية التاريخ" بعد أن زال انبهاره
بفكرة العولمة ويبدو واعيا بذلك تماما، فيقدر أن مفاهيمه هذه إعادة كتابة لأثر
"نهاية التاريخ" بشكل ما بعد أن أضحى أكثر معرفة أكبر بالتاريخ وأضحى
على وعي بأن فرض المؤسسات دون توفر العوامل الموضوعية لنجاحها يولد ديمقراطية
شكلية. لكن هذا المفكّر لم يكن واضحا
دائما. فقد كان يعمل على تعويم الأسئلة المحرجة شأن دعم الولايات المتحدة
للدكتاتوريات حين تزعم عملها على نشر الديمقراطية. أو شأن شرحه لمفهوم حكم القانون
الذي يدعو إليه. فالمفهوم يمثل تراجعا مهما عن أطروحته في كتابه نهاية التاريخ،
ودعوة إلى أن يتم أخذ الثقافة المحلية بعين الاعتبار عند سن القوانين حتى تكتسب
قابليتها للتجسد على أرض الواقع بدل الحماسة المفرطة للعولمة التي تضرب التنوع
الثقافي.
ولكن محاوريه ظلوا يلحون على موقفه من
المساواة بين المرأة والرجل في ظل اختلاف التصورات والخلفيات الثقافية. وسؤالهم
يجمع بين قيمتين متنافستين، احترام القيم الكونية مثل حقوق المساواة التي لا يمكن
لفوكوياما أن يتنصّل منها أولا وجعل ما هو مقبول في مجتمع ما أساسا للقانون وكثيرة
هي الثقافات التي تؤمن بالمساواة التامة بين الجنسين، يرتبك الباحث حينئذ ويكتفي
بـ: "إذا أنا أتخيل فقط ما الذي سيحدث" وعندما طُرح عليه السؤال ثانية
بصيغة مغايرة، أساسها أن الدولة، في بعض المجتمعات الإسلامية، من حقق تقدما في
قضية حقوق المرأة فيما كان الفاعلون الاجتماعيون غير الحكوميين ضد التوسع في هذه
الحقوق.
أجاب بأنّ حكم القانون المثالي هو أن
يعكس القانون الإجماع الاجتماعي. ولكن هذا لا يوفر في عديد المجتمعات. فثمة
موضوعات مختلف فيها ومتنازع عليها سياسيا وحقوق المرأة أحدها. في تلك الحالة لابد
أن نستند إلى المعايير الدولية (الغربية أساسا) يضرب مثالا: فالمعايير التي اشترطها
الاتحاد الأوروبي على دول أوروبا الوسطى لإجبارها على تغيير معاييرها. ونظام حقوق
الإنسان الدولي يفعل ذلك في كل مكان.
المعضلة أن هذا الفرض سيخلق صراعا حادا
ويجعل المهمة شاقة. فلم يوضح تصوّره بقدر ما نسف المفهوم "حكم القانون"
الذي ترتكز عليه كل مراجعاته لأطروحاته السابقة.