الكتاب: "الإنسان على المحك-المركزية البشرية والتوازن البنَّاء"
الكاتب: علي حرب
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى
تموز/ يوليو 2020
(132 صفحة من الحجم الوسط).
انفجار الهويات الوطنية في المنطقة العربية
يتناول المفكر علي حرب الأزمة الراهنة في العالم العربي ، الذي هو في
أسوأ أحواله تردّياً وتمزقاً، كما تشهد الحروب الأهلية في غير بلد عربي.ويتناول
المشكلة من زاوية الهوية الوطنية. الهوية الوطنية العربية عاشت فترة من الزمن
متماسكة في الظاهر، تحت حكم الزعيم الأوحد والنظام السلطوي أو الشمولي. ولكنها
كانت مجرد فسيفساء من المكونات والعناصر المتنافرة، سواء من حيث خصوصياتها
الطائفية والأثنية، أو من حيث اتجاهاتها الإيديولوجية والسياسية.
ولذا، فقد انفجرت تلك الهويات مع انفجار "انتفاضات الربيع
العربي"، عندما لاحت الفرصة أمام المجتمعات العربية للتحرر من نير الاستبداد
لإقامة دولة المواطنة والقوانين، والانخراط في بناء نفسها وانجاز مشاريعها في
النهوض والإصلاح والتقدم.
يقول المفكر علي حرب: "ولكن ثالوث الاستبداد والفساد والإرهاب
كان بالمرصاد، لمنع أي تغيير حقيقي. ولذا فقد عمل على عسكرة الثورات وتخريبها ، إن
بجرها إلى استخدام العنف لمواجهة العنف الذي باشره النظام ضد التظاهرات السلمية،
أو باستقدام الميليشيات الموالية له وأحيانا بإطلاق سراح العناصر الجهادية
المعادية للنظام من ولها. ففي مواجهة الثورة يجتمع الضدان: الاستبداد السياس
والإرهاب سجود الديني.
ومن المفارقات أن بعض الدول العربية، كمصر، كانت في عصر النهضة
متقدمة حضارياً على عدد من البلدان كماليزيا وكوريا وسنغافورة، فإذا بها بعد
عقود تمسي وراءها. وتلك هي حصيلة خروج البلاد العربية من عصر النهضة والليبرالية
إلى العصر الأيديولوجي، بنسخه القومية واليسارية والإسلامية"، (ص22)..
وهكذا يجد العالم العربي نفسه فريسة لمشاريع وأنظمة وقوى تشل طاقته
وتهدر موارده بقدر ما تقوده إلى ما وصل إليه من التفكك والتمزق.
من المفارقات أن بعض الدول العربية، كمصر، كانت في عصر النهضة متقدمة حضارياً على عدد من البلدان كماليزيا وكوريا وسنغافورة، فإذا بها بعد عقود تمسي وراءها. وتلك هي حصيلة خروج البلاد العربية من عصر النهضة والليبرالية إلى العصر الأيديولوجي، بنسخه القومية واليسارية والإسلامية
فهناك على مستوى الداخل العربي الأنظمة الديكتاتورية والحركات
الأصولية التي تقبض على السلطات وتهدر المقدرات بالإضافة إلى الايديولوجيات التي
تزيف الوعي وتزور الوقائع وتعطل إرادة الفهم، لكي تبرر فشل الحكام واستمرارهم في
القبض على السلطة. نحن إزاء مربع يتواطأ أركانه على تخريب غير بلد عربي: حاكم يطغى
ويستكبر، داعية يفتي ويكفر، مثقف ينظر ويبرّر، جهادي أو مجاهد يقتل وينفذ.
وهناك الأطراف الخارجية الدولية والإقليمية المتواطئة مع الداخل، كما
يتجسـم هــذا الـــداء في التدخلات من جانب اللاعبين على المسرح العربي. ومن
السذاجة أن يصدق الواحد أن الدول اللاعبة على المسرح العربي تريد وقف الحروب
الأهلية أو تسعى لإحلال السلام فما يجري من قتل وتهجير وتدمير في غير بلد عربي، يتم
بمشاركة الدول الكبرى وتدخل القوى الإقليمية، أميركا وروسيا وإيران وتركيا. بل هو
يتم برعاية الأمم المتحدة و تحت نظر العالم الساكت والعاجز أو المستفيد والمتواطئ.
ولا ننخدعنّ بالمؤتمرات الدولية أو الإسلامية التي تعقد لمعالجة أزمات الدول
العربية المتناسلة والمستعصية. لأن المستهدف أساساً هم العرب.
يقول المفكر علي حرب، في تشخيصه لإيران كلاعب إقليمي مهم: "إيران
تنفرد عن بقية اللاعبين، كونها تملك داخل المجتمعات العربية أوراقاً تلعب بها
وتوظفها. لقد عملت على إيقاظ الذاكرة الموتورة لدى الشيعة العرب، بتدريبهم وتمويلهم
وتسليحهم، لكي يشنّوا الحرب على شركائهم في اللغـــة والوطن والمصير، مما حولهم
إلى ألغام داخل المجتمعات العربية تسهم في تمزيقها وزعزعة استقرارها.
هذا الولاء لإيران جعل الشيعة العرب يتباهون بكرههم لهويتهم الوطنية
أو العربية، هذا في حين أن إيران لا تعترف بهم، بل تستخدمهم كأدوات لتنفيذ
استراتيجيتها التوسعية. ويأتي الشيعة
اللبنانيون في رأس القائمة حيث ولائهم من
المطلق لإيران" (ص24).
وهكذا فإن البلدان العربية ذات التركيبة الطائفية التعددية، تقع بين
فكي الكماشة: العصبيات الطائفية في الداخل، وما يمارسه الخارج.. الضغوط والتدخلات.
الأمر الذي أفضى إلى تحول تلك البلدان إلى مسرح الصراع مركب هـو أهلي
ومحلي، بين طوائفه ودوله بقدر ما هو اقليمي وعالمي بين الدول الكبرى والقوى
الفاعلة لنحسن قراءة المشهد العالمي. لقد تغيرت خارطة الصراعات وطبيعتها في هذا
العصر المعولم. لم يعد هناك نزاع محلي أو وطني صرف. كل نزاع له محر ركاته وأبعاده
الاقليمية والدولية. هذا شأن الصراع في ليبيا التي أصبحت مسرحاً للتدخلات الخارجية
من قبل العرب وغير العرب .
وينتقد المفكر علي حرب كل أولئك يتحدثون عن العصبيات بلغة القرن
التاسع عشــ لكي يشهدوا على جهلهم بمفهوم العصبية وبالواقع الكـــوني، حيث تندرج
العصبيات في أطر أوسع ومتحدات أكبر، فيقول:"... العصبية تحولت إلى طبقة من
طبقات الوعي، تعيد الايديولوجيات الشمولية تشكيلها، على نحو يجمع بين مساوئ
الحداثة ومساوئ القدامة، بين التعصب والفاشية، مما جعل الناس تترحم على الازمنة
السالفة، إزاء ما ولدته الايديولوجيات الحديثة القومية والدينية واليسارية من فشل
في إدارة الدول ومن عنف لا سابق له"، (ص25).
ولا عجب، ففي هذا العصر، حيث تتشابك المصالح والمصائر، وتتعولم
المشكلات والهويات تتداخل العصبية والشمولية العنصرية والشعبوية الوطنية والفاشية.
ما الدرس الذي يمكن استخلاصه لمعالجة الأزمة، سواء في ما يخص بنـــاء
الهوية الوطنية، أو في ما يخص العلاقات بين الدول العربية، يطرح المفكر علي حرب
إعادة النظر في ما كنا نفكر فيه لنفتح إمكانات جديدة للتحاور والتواصل للتداول
والتبادل في ما يخص قضايا الهوية والوحدة والعمل العربي المشترك.
ثمة مسائل أربع تحتاج إلى إعادة النظر حسب مقاربة علي حرب:
1 ـ لا وجود المجتمع متجانس بالكلية. كما
لا وجود لهوية صافية تعرى من أثر الغير. فالأصل هو التعدد والاختلاف بل التعارض
والصراع. ولذا لا تجدي محاولات اصطناع مجتمع متجانس تمام التجانس، عبر الازاحة
السكانية وتغيير الخرائط. هذا وهم، لأن المجتمع البشري لا ينفك عن إنتاج التعدد
والتفاوت. والممكن هو العمل على واقع الاختلاف وتحويله لتشكيل الفضاء الوطني،
بلغته الجامعة ووحدته المركبة وقواعده المشتركة.
2 ـ ليس المجتمع مجرد مواطن مثالي مرتبط
بأجهزة الدولة ومؤسساتها وقوانينها. لأن الأصل هو المجتمع الأهلي مختلف مكوناته
وقواه. والذين تخيلوا وجود مواطن مدني، لا أهل له أعادوا إنتاج الواقع الاجتماعي
بعصبياته وعنصرياته، وعلى النحو الأسوأ. إن الممكن هو العمل على المجتمـ الأهل
وتحويله، على النحو الذي يتيح للواحد أن يقيم مع هويته الثقافية الفرعية، علاقة
وطنية مدنية ديموقراطية.
3 ـ لا تقوم وحدة بين الدول العربية
بالقوة. لأن الوحدة ليست حلماً أو طيفاً أو قدراً، وإنما هي مؤسسات وعلاقات تتخيل.
وتُركب أو تُبنى وتُصنع أو تُهندس وتُدبَّر، بقدر ما تمليها المصالح المشتركة
والمنافع المتبادلة. والذين انطلقوا من تصور متعال أو طوباوي عن الوحدة أنتجوا
المزيد من الانقسام والفرقة. لأن الممكن هو الانطلاق من واقع الاختلاف بين الدول
والأوطان، للعمل عليه وتحويله إلى عمل عربي مشترك له أطره وقواعده، وله
مجالاتــــه وحقوله.
لنحسن القراءة. فالمتشابهون ينتجون وحدة فقيرة هي وحدة القطيع، حيث
يراد للكل أن يكونوا نسخاً بعضهم عن بعض، بقدر ما يشكلون صوراً متماثلة لنفس الأصل
أو الشخص أو الطيف وهذه الوحدة هي وحدة ملغمة تنتظر ساعة الانفجار، لأنها تقوم على
إلغاء التعدد والتنوع وعلى استبعاد المختلف ونبذه. هذا ما شهدت به تجارب الوحدة
العربية والتوحيد الإسلامي: لقد عجز أهلها عن توحيد حي في مدينة.
وحدهم المختلفون يقدرون على إنشاء وحدة ناجحة ومثمرة بقدر ما يحسنون
إدارة اختلافاتهم والعمل عليها بخلق وسط للحوار والتداول، أو تشكيل مجال للتبادل
والتفاعل.
إيران تنفرد عن بقية اللاعبين، كونها تملك داخل المجتمعات العربية أوراقاً تلعب بها وتوظفها. لقد عملت على إيقاظ الذاكرة الموتورة لدى الشيعة العرب، بتدريبهم وتمويلهم وتسليحهم، لكي يشنّوا الحرب على شركائهم في اللغـــة والوطن والمصير، مما حولهم إلى ألغام داخل المجتمعات العربية تسهم في تمزيقها وزعزعة استقرارها.
والوحدة البناءة والمثمرة لن تكون عملاً نخبوياً، بعد فشل النخب
الثقافية والسياسية التي أسهمت في تدمير فكرة .الوحدة فالرهان أن تسهم في صنع
المصير العربي المشترك كل القوى الحية والمنتجة في المجتمعات العربية، على اختلاف
الحقول والقطاعات، وعلى النحو الذي يتيح ابتكار ما يحتاج إليه أي اتفاق أو عمل
مشترك من البنى التحتية والمساحات المشتركة والأطر الجامعة.
4 ـ صياغة خطاب عربي جديد، بحيث تحلّ محلّ
مفردات الأمة، والوحدة والوطن العربي، أو الشعب العربي تعابير أخرى مثل العالم
العربي والعمل العربي المشترك أو التضامن العربي.
5 ـ وأخيراً، وخاصة إعادة النظر بالرابطة
الإسلامية التي تجمع بين الدول العربية وبين الدول الإسلامية غير العربية. فماذا
جنى العرب، في ما يخص قضاياهم ومشاريعهم من الدول الإسلامية كباكستان وإيران أو
تركيا وأفغانستان؟
لا شيء سوى الضرر والخسارة على هذا الوجه أو ذاك: تصدير النماذج
التكفيرية والإرهابية، الدعوات المستحيلة والأصوليات القاتلة، عودة الدين عودته
المرعبة وعودة الاستعمار عودته المدمرة.
الخروج من المأزق
ينتقد المفكر علي حرب، الخطاب العربي المعاصر، لا سيما الخطاب
القومي، الذي يعتبر أنَّ اللغة تجمع العرب، كما تجمعهم المصالح المشتركة، أو العدو
المشترك الذي يستهدفهم، ولكن أهم ما يمكن عمله للخروج من النفق هو قراءة الواقع،
كي ينجحوا في معالجته. فالعالم العربي، ليس وطناً واحداً أو شعباً واحدا، بل عالم
متعدّد ومتنوع متعارض ومنقسم بدوله وأوطانه، بشعوبه وطوائفه. بذلك يكفون عن
التعامل مع الوحدة كحق ضائع، ومع الانقسام بوصفه صنيعة الاستعمار للانطلاق من واقع
الاختلاف والعمل عليه لتشكيل فضاء حضاري عربي، وما يحتاج إليه من ابتكار القواعد
المشتركة واللغــة الجامعة.
آن لنا أن ننتقل من عصر العروبة الإيديولوجية الفاشية والمدمرة،
لتخيل سردية جديدة للصفة العربية ذات وجوه وأبعاد مدنية حضارية، ديمقراطية
وكوسموبوليتية.
ومن المفارقات أن العرب خرجوا بالدعوة الإسلامية، لكي يتصدروا واجهة
العمل الحضاري والإنتاج المعرفي لقرون طوال، بعد أن استوعبوا واستثمروا منجزات
الحضارات السابقة والمعاصرة لهم، فإذا المــآل اليوم للمشروع الديني تخريب العالم
العربي بمنجزاته الحضارية والمدنية والثقافية عبر محاولات أسلمة الحياة والمجتمعات
والدول والقوانين، فضلا عن أسلمة العلوم والمعارف.
ولعل العرب يدفعون الثمن الآن لاستعمارهم البلدان التي فتحوها بالنص
والسيف، واستعمروها لغةً وعقيدةً، باسم الله والقرآن. والثمن الباهظ لذلك هو
المزايدة عليهم بإسلام أصولي تكفيري ،إرهابي، كما يفعل بشكل خاص الأفغان وأهل
باكستان أو الثأر منهم ومن نبيهم، انتقاماً لمقتل حفيده الحسين في كربلاء، وكما
تفعل إيران ويا للمفارقة والحصيلة هي إقامة دين بديل للإسلام النبوي، قطباه ذاكرة
موتورة لا ترويها بحار من الدماء وخرافة المهدي المنتظر، الذي سيحقق على الأرض
العدالة التي عجز عن تحقيقها كل الرسل والأنبياء.
والرهان للخروج من المأزق، سواء بالنسبة للعرب أو لسواهم من المسلمين
غير العرب، هو الخروج من السجن الديني للتفكير والعمل، كما تفعل معظـم المجتمعات
والأمم ، بقواعد الشراكة والمداولة والمبادلة كما بمفاهيم الدولة والمواطنة
والديموقراطية، فضلاً عن لغة الانفتاح والاعتراف والهوية العالمية العابرة للحدود،
الكاسرة لعقيدة الأحق والأصدق والأقدس والأشرف.
لا أريد تبسيط الأمور. أعترف بأننا إزاء مُعضلة لا أدعي أنني أمتلك
مفاتيح حلها.
كيف يمكن لدول عربية ضعيفة أو متخلفة أو منكوبة بزعمائها وحروبها، أن
تقيم علاقات سوية ومتوازنة، ومثمرة مع دول كإيران وتركيا وروسيا وأمريكا، تملك من
الأوراق والإمكانات والمبررات لكي تتدخل في شؤونها أو تلعب بها وعلى ساحتها؟
اقرأ أيضا: هل يتمكن البشر من تغيير أنماط تفكيرهم في الأزمة الراهنة؟ كتاب يجيب (1من2)