نشر
الفنان المغربي أمين بودشار مقطعا من حفلته في الدار البيضاء، لأغنية الراحل عبد
الحليم حافظ "جانا الهوى"، التي كتبها محمد حمزة، ولحَّنها بليغ حمدي، وبعد
فترة وجيزة أصبحت الأغنية الأكثر مشاهدة على قناته، ومحل إعجاب لمشاهديها، فكيف
بقيت هذه المقطوعة التي جاوزت نصف قرن؟
تتشابك
الإجابة عن السؤال مع الحالة
الفنية التي أنتجها جيل عبد الحليم والأجيال السابقة
له، وهم يستحقون الذكر وفق ترتيب ظهورهم الفني؛ ففي العشرينيات بزغ نجم عبد الوهاب
وأم كلثوم، وفي الثلاثينيات انطلق فريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد، وفي
الأربعينيات كان محمد فوزي وشادية وصباح، وفي الخمسينيات برز
عبد الحليم حافظ ونجاة
الصغيرة وفايزة أحمد، وعلى مدار المراحل العمرية المختلفة، كان هناك محمد قنديل، وعبد
العزيز محمود، وعبد الغني السيد، وسعد عبد الوهاب، وهدى سلطان، وكارم محمود، وسعاد
محمد، وعادل مأمون، ومحمد عبد المطلب، وعزيز عثمان، ونَجْمَا الأغنية الشعبية محمد
رشدي، ومحمد العزبي، وفي المونولوج إسماعيل ياسين، ومحمود شكوكو، وثريا حلمي، فضلا
عن أقرانهم الذين اشتهروا في الشام، وفضلا عن كثير كانوا قبلهم ربما لم ينالوا نفس
القدر من خلود الألحان.
بقيت
أغاني هذه الأجيال، وقد قارب بعضها على بلوغ قرن من الزمن، لأسباب ذاتية تتعلق
بشخوصهم، وأسباب موضوعية تتعلق بالأصوات والكلمات والألحان، فالأشخاص عاشوا في
مقتبل حياتهم يعملون في مهن بسيطة، اختلطوا بسببها مع فئات المجتمع الفقير
والمتوسط، ومع الشهرة اختلطوا بالفئات العليا، فاستطاعوا ملامسة كل الأذواق. كذلك
تجدهم إذا تحدثوا في لقاءات إذاعية ينطقون ببساطة واضحة؛ يعترفون بماضيهم ولا
يتنكَّرون له، ولديهم قيم ومُثُل تتقاطع مع مجتمعهم غالبا، ولا يتعالون عليه
ويتهمونه بالتخلف أو الرجعية، ولديهم ذوق راقٍ في اختيار ألفاظهم ومفرداتهم التي
يتحدثون بها خلال اللقاءت المبثوثة للمشاهدين، معبِّرين عن مكنون أنفسهم أمام
الشاشات.
عرفنا
من لقاءاتهم أن فريد الأطرش -مثلا- كان ينفق على أسرته ويغني في كباريه (ملهى ليلي)
الراقصة بديعة مصابني ويأخذ أجرا يوميا، وسيد مرسي الشاعر الغنائي كان يمتهن كَيَّ
الملابس قبل امتهان الشعر، وأم كلثوم كانت تغني في الأمسيات الدينية والموالد، وشكوكو
كان نجارا ويغني في الأفراح الشعبية في الثلاثينيات "جدعنة" أي مجاملة
دون تقاضي أجر، وكل واحد له قصة تطول أو تقصر مع الفقر والاختلاط بكل الفئات
الاجتماعية، فسمعوا قصصهم، وأحبوا بحبهم، وانجرحوا بجراحهم، وفرحوا بأفراحهم،
وتأثروا بأحزانهم، فأخرجوا لنا كلمات تُرى بالعين لا مجرد سماعها بالأذن، وقصصا
يشعر بها المستمع لأنها كانت قصته يوما ما.
أما
الألحان فقد امتزجت بالكلمات تحكي قصتها، لا لتراقصها، يمكنك مثلا أن تسمع أم
كلثوم وهي تغني "ظلمنا الحب"، وتقول عن النار التي اشتعلت "وآدت
نار"، ولا يمكنك إلا أن تشعر بحرارة لهيبها، وتسمع وهي تقول "وكان الحب
بيننا كبير" فيمتد اللحن مع كلمة "كبير" لتلمس حجمه بحواسك لا
لتسمعه فقط، ثم تنتقل في لحظة وتقول "صغر، لما ابتدينا نغير"، وتأكل
كلمة "صغر" في نصف ثانية لتشعرك كيف تغير الحال من الكبر إلى الصغر، فلا
تملك إلا الآهات واجتراع اللحظات المشابهة في حياتك.
انظر
إلى نجاة وهي تغني "ساكن قصادي"، تروي قصة مصحوبة بلحن شجي، متأثر
بالمحبة ولوعة الحب، وعندما انتقلت الكلمات إلى مشهد الفرح؛ "وفي يوم صحيت
على صوت فرح.. إلخ"، تَراقَص اللحن مع الصوت والكلمات. كذلك عبقري زمانه محمد
فوزي، عندما غنى ولحَّن أغنيته "مثلا" مع صباح، ترى اللحن مترددا وهو
يريد أن يبوح بحبه، وتراه منطلقا عندما يصف حاله، ثم سريعا ينتبه إلى أنه لا يقدر
على البوح الكامل، فيعود اللحن في لحظة من أريحية إلى تردد.
هكذا
كانت كل أغانيهم؛ تتراقص مع الفرحة، وتشجي مع المحبة، وتقلق عند مدعاته، وتتردد
إذا كانت الإجابة غير مضمونة، وتقف بشموخ إذا مسَّ الحبيب الكرامة، وتنكسر مع
المحبة المكتومة أو إهانة الحبيب مع بقاء محبته، وتبتهج عند اللِّقَا، وتضطرب عند
الظَّعْن. أحوالٌ خبروها وعاشوها، فجسَّدوها في كلماتهم ونقلوا مشاعرهم لنا غناء
ولحنا.
من
هنا وجدنا المغاربة وقد انطلق لسانهم بمصرية واضحة، دون لكنة غريبة أو عُجمَة في
اللسان، كأنهم كورال مصري لا مغربي، يغني أغنية "جانا الهوى" لعبد
الحليم حافظ، وشاهدناهم أجيالا متعاقبة؛ ممن غزا الشيب رؤوسَهم، ومن شباب لا
يزالون يقتحمون الحياة، حفِظوا، على السواء، اللحن والكلمات من كثرة ما سمعوها،
وابتهجوا بقدر ما ابتهج المؤلف والملحن والمغني وهم فَرِحون بمَقْدم مَن يَهوَى كل
واحد منهم، فلكل منهم حكاية، كما لكل مستمع حكاية جعلت الكلمات تنطبع في مخيلته.
أثارت
هذه الحالة شجون الكثيرين، خاصة المولعين بالاتصال الثقافي والحضاري الواحد لأمة
تمتد من المحيط إلى الخليج، كما كشفت أثر القوة الثقافية لأي مجتمع إذا أنتج ما
يقرب إلى وجدان البشر، ولا أظن أن المشتركين في
الغناء أو غيرهم يحفظون لنفس
المطرب ما غنَّاه في تمجيد أحد، رغم أنهم في الأغلب حفظوا عن ظهر قلب أغانيه
الوطنية التي تتجاوز الحدود والأشخاص، فالناس تحفظ ما يمثِّلها ويلمس وجدانها.
نقيض
هذه الحالة نحياه بحذافيره، فتجد الكلمات إما بذيئة، أو فاحشة، وغالبا تكون ركيكة،
والألحان تمتاز بالسماجة وعدم وجود نسق طربي لها، فضلا عن تنافرها الكامل مع الأغاني؛
فمثلا تجدُ أغنيةً عن الخصام تتراقص فيها الألحان كأن الكلمات عن حياة هانئة ستبدأ
لا ستنتهي، فضلا عما تسمى بأغاني "المهرجانات" المفتقدة لتناسق اللحن مع
الحالة الشعورية لموضوع الأغنية، والمفتقدة إلى الكلمات الجميلة الأخَّاذة،
وبالطبع المفتقدة غالبا إلى الصوت الحَسَن.
ربما
يظن بعض المغنين والمؤدين أن الآلاف الذين تكتظ بهم حفلاتهم يعني مثل هذا الخلود،
لكن المقارنة قد تنجلي إذا طلبت من أحدهم أن يعيد غناء أغنية مضى على زمنها أكثر من
عِقديْن، أو عندما تجد تفاوتا في الأجيال التي تحفظ أغانيهم، مثل الذي نجده من
التفاوت في أجيال محبي هؤلاء الخالدين بفنِّهم.