في ظل الحديث عن الأزمة
السكانية نحاول أن نبحث في كيف أن هذه الجمهورية
الجديدة تحاول أن تصدّر لكافة الناس، كما المستبدون قبلها، بأن التنمية لا يمكن
أن تؤتي أُكلها في ظل هذه الزيادة السكانية، خاصة وأنهم ينظرون إلى الزيادة
السكانية على الرغم من أنها في معدلاتها الطبيعية على أنها غُرم وعبء كبير،
ويحاولون من كل طريق تغطية السياسات الفاشلة التي تقوم بها الحكومات المتوالية.
وفي حقيقة الأمر أن هذا الموضوع الذي يتعلق بالنظرة المالتوسية للسكان إنما
يشكل سدا منيعا فيما يتعلق بالتفكير في المشكلة السكانية، وهي غالبا ما تعبر عن
نظرة ضيقة من جانب هؤلاء الذين يقومون على حكم البلاد والعباد، إضافة إلى أن تلك
النظرة المالتوسية ليست وليدة اليوم وإن فاق نظام الثالث من يوليو غيره في
الاستناد إلى هذا التبرير الذي اتخذه في ذات الوقت مسلكا للتغرير والتزوير على
الحقيقة التي ترتبط بفشل سياسات النظام. نجد الخطاب السياسي حول التنمية نشأ مع
حركة يوليو 1952، ويتصاعد مضمونه وفحواه بتحميل السكان المسؤولية للشعب عن تدهور
التنمية وعوائدها.
منظومة الثالث من يوليو التي تضمر العداوة للشباب لا يمكنها استيعاب معنى الهِبة الديموغرافية، وتبدو وكأنها في مواجهة دائمة مع الشباب، سواء بمحاولة قتل معنوياتهم، أو تشويه صورتهم، أو القيام بما من شأنه تعطيل هؤلاء الشباب عن استثمار طاقتهم للقيام بأدوارهم والتعبير عن آمالهم وآلامهم، وقتل أملهم في المستقبل
هكذا تتجاهل منظومة الثالث من يوليو النظر إلى الهِبة السكانية، أو الهِبة
الديموغرافية باعتبارها طاقة وقدرة مضافة للمجتمع خاصة حينما تكون هذه الزيادة تحتوي
على نسبة عالية من
الشباب بالنسبة لمجموع السكان، فالشباب يعبرون عن طاقة إضافية
تبحث كل المجتمعات التي تنشد التقدم عن وجودها. تعرف اللجنة الاقتصادية
والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) "الهبة الديموغرافية" بطرق وأساليب
عديدة تختلف في تعابيرها ومصطلحاتها، ولكنها تتفق كلها في المضمون الذي ملخصه
"إنها المرحلة التي يبلغ فيها مجتمع ما الذروة في حجم السكان في سن العمل
مقابل أدنى نسبة للسكان المعالين من الأطفال والمسنين".
لكن منظومة الثالث من يوليو التي تضمر العداوة للشباب لا يمكنها استيعاب
معنى الهِبة الديموغرافية، وتبدو وكأنها في مواجهة دائمة مع الشباب، سواء بمحاولة
قتل معنوياتهم، أو تشويه صورتهم، أو القيام بما من شأنه تعطيل هؤلاء الشباب عن
استثمار طاقتهم للقيام بأدوارهم والتعبير عن آمالهم وآلامهم، وقتل أملهم في
المستقبل.
لدينا من المؤشرات ما يؤكد على هذه النظرة، حيث أن نسبة الشباب الذين
اعتقلوا في ظل هذه المنظومة نسبة عالية جدا، ربما تقترب من 70 في المئة، فهذه
المنظومة لا تراهم "هبة ديموغرافية"، وإنما تنظر إليهم بأنهم خطر دائم
وداهم على الدولة والمجتمع. خطاب السلطة الطاغية دائما ما يتبنى لغة النقد
والاتهام للشباب، خاصة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أسهم فيها الشباب
بسهم وافر لا يستطيع أحد إنكاره، وهي قلقة من الهِبة الشبابية الديمغرافية، وفي
حقيقة الأمر أنها لا تخاف الهبة الديموغرافية ولكنها تصاب بالذعر والفزع من الهَبّة
الشبابية والشعبية.
من المشاهد الأخرى غير السجون بما فيها من اعتقالات وقتل بالإهمال الطبي وإخفاء
واختطاف قسري، مشاهد الشباب وتهافتهم على ركوب قوارب الموت طلبا لهجرة غير شرعية،
والتي صارت تُسمى بتجارة الموت، فما الذي يمكن أن يدفع الشباب إلى هذا الحد الذي
يجعلهم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة؟! كل هذه الأمور تؤكد أن منظومة الثالث من يوليو
تدفع هؤلاء الشباب دفعا إلى اليأس والإحباط وفقدان الأمل، فأوردهم كل ذلك موارد
التهلكة، ويلقون بأنفسهم في عرض البحر من دون أدنى درجة من درجات الأمن والتأمين
والأمان. وأخبار غرق المئات في أعماق البحر جراء هذه التجارة وتلك الحالة الشبابية
الناتجة عن الاستبداد والطغيان هو أمر دائم في نشرات الأخبار، هكذا تدفعهم هذه
المنظومة دفعا إلى ممارسات يمكن أن تشكل خطرا على عموم الناس والدولة والمجتمع.
سياسات المشاجب وسياسات الفشل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مدخلا للنظر في المسألة السكانية، وإن هذا النظام لا يعاني بأي حال من الأحوال بهذه الحالة الاستبدادية والطغيانية فحسب، بل يعاني من عوار كبير في النظر إلى الإنسان ومكانته، وكونه ثروة في البلاد، وفي العملية التنموية والنموذج الكامن خلفها، حيث تمارس ضده سياسات الامتهان والمهانة والإهانة
وفي حقيقة الأمر صناعة هذا الحال إنما تعود إلى جملة من السياسات الفاشلة
التي تقوم بها هذه الأنظمة خاصة نظام الثالث من يوليو. إن سياسات المشاجب وسياسات
الفشل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مدخلا للنظر في المسألة السكانية، وإن
هذا النظام لا يعاني بأي حال من الأحوال بهذه الحالة الاستبدادية والطغيانية فحسب،
بل يعاني من عوار كبير في النظر إلى الإنسان ومكانته، وكونه ثروة في البلاد، وفي
العملية التنموية والنموذج الكامن خلفها، حيث تمارس ضده سياسات الامتهان والمهانة
والإهانة.
ومن ثم فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن التنمية في حقيقة الأمر وفي
جوهرها ليست أرقاما فحسب، ولكنها أرقام ودلالات ومغاز، فالنموذج التنموي يجب أن يطرح
السؤال بأكمله ليس فقط عن معدل التنمية ولكن إلى من تذهب هذه التنمية، وكيف يمكن
توزيعها، والأمور التي تتعلق بمسار نموذج التنمية النابع لا التابع، وغير ذلك من الأمور. ومن دون أن نسأل تلك الأسئلة ستظل هذه التنمية في عوائدها حكرا على مجموعة
مصالح معينة تحاول أن تتقاسم كعكة التنمية في بر
مصر، وهذا الأمر سيؤدي إلى مزيد
من الظلم الاجتماعي والنهب السياسي على حد سواء.
وكذلك فإن هذا النموذج التنموي سيظل وفقا لأدائه وكل ما يتعلق به يشكل جانبا
من جوانب السيطرة على مقدرات البلاد والعباد من فئة بعينها تخرج كل الأمور التي
تتعلق بإدارة التنمية ومسالكها من تحت يديها، وهذا لعمري احتكار واستئثار في
العملية التنموية بدلا من المشاركة الواسعة والفاعلة من كافة
طاقات المجتمع صغيرة
كانت أم كبيرة، وإدارة كل ما يتعلق بعمليات التنمية واستثمار الموارد. هذا الأمر
من الأمور الخطيرة في هذا السياق، وهنا يرتبط الأمر بمشكلة الفقر، ونشير هنا إلى
الكيفية التي يستأثر بها المركز على بقية البلاد وأطرافها ثم بعد ذلك نجد أن ما
ينفق على ساحات ومساحات التنمية في الريف أو في صعيد مصر وغيرها من المناطق
الجغرافية الأخرى؛ لا يعبر إلا عن أقصى درجات الظلم الاجتماعي في هذا المقام.
إن تأمّل انشغال هذه المنظومة بتدبيج الاستراتيجيات لتنتج فائض استراتيجيات
لا تغني ولا تسمن من جوع، كما فائض الكلام الذي تطلقه السلطة الطاغية بلا أي معنى
أو مغزى، يؤدي إلى مزيد من الإلهاء والإرجاء، ويكشف لنا إلى أي مدى تنشغل
بالشكليات والمظاهر دون الجوهر والمنهجيات. فمثل هذه الاستراتيجية كان يجب أن تركز
على كيفية الاستفادة من هذا المورد وتعظيمه؛ لا البحث في تقليصه واعتباره خطرا
يماثل خطر الإرهاب.
ولا يسعنا الرد على مثل هذه الترهات، ولكن نسوق رؤى فكرية لها قيمتها تحدثت
عن "مصر هبة المصريين"، كما أكد ذلك المفكر المصري محمد شفيق غربال في
كتابه "تكوين مصر"، مشير إلى أن هذا التكوين كان من صنع جماعة من الناس -وهم
المصريون- بما لديهم من صفات الشخصية والرسوخ والانفراد بالذات، إلا أن منظومة
الثالث من يوليو لا تنظر هكذا، وإنما تنظر من ثقب ضيق لا يرى إلا مصالحها وتحقيق
أحلامها وطموحاتها الشخصية دون أي اعتبار لمصر والمصريين.
المعايب التي جعلها نظام الثالث من يوليو استراتيجية له؛ تكمل حلقات السياسات الطغيانية في إطار الحرمان الاقتصادي والظلم الاجتماعي البادي في كل مكان في أرض مصر وسياسات الإفقار والتجويع المتلازمة مع سياسات التخويف والترويع. الجمهورية الجديدة لا تعرف للإنسان مقاما سواء في عمليات الإنتاج واستثمار الطاقات أو في عمليات التنمية وتوزيع العوائد اجتماعيا واقتصاديا نصيبا
ففي الوقت الذي يساوي أزمة السكان بالإرهاب يتم الكشف عن بناء 5 قصور
رئاسية جديدة خلال فترة السنوات العشر التي حكم فيها مصر، على الرغم من أن مصر
فيها 30 قصرا قبل وصوله للسلطة، أي أن عدد القصور الرئاسية أصبح 35 قصرا، وعندما سئل
قال -صارخا- "أيوا ببني وهبني، هو أنا ببني لنفسي، دا أنا بنبي لمصر".
وهنا لن نتحدث عن مساحة أو تكلفة هذه القصور، فعدد الجديد منها كاف تماما للدلالة
على المعنى الذي نؤكد عليه، وهو أن هذه المنظومة لا تنشغل بالمواطن، ولا تعمل له،
ولا تفكر فيه إلا باعتباره أزمة أو مشكلة، وتنشغل بالمظاهر والمناظر فهي لا يشغلها
إلا أن لديها أكبر قصر رئاسي، وأكبر طائرة رئاسية، بغض النظر عن الديون أو
الأزمات، كما أنه بات حريصا -بغض النظر عن المشاهد واللقطات المصنوعة بين الحين
والآخر- على أن يضع فواصل وحواجز وأسوارا بينه وبين الشعب، وبات يستوطن إمارة
العلمين، وقد كتب من قبل الحكيم البِشري عن إمارة شرم الشيخ التي كان يقطنها
الرئيس المخلوع "مبارك".
كل ذلك يجعلنا نؤكد أن هذه المعايب التي جعلها نظام الثالث من يوليو
استراتيجية له؛ تكمل حلقات السياسات الطغيانية في إطار الحرمان الاقتصادي والظلم
الاجتماعي البادي في كل مكان في أرض مصر وسياسات الإفقار والتجويع المتلازمة مع
سياسات التخويف والترويع. الجمهورية الجديدة لا تعرف للإنسان مقاما سواء في عمليات
الإنتاج واستثمار الطاقات أو في عمليات التنمية وتوزيع العوائد اجتماعيا واقتصاديا
نصيبا، بما يشكل أزمات هيكلية ليس فقط في التدبير والحركة، بل أزمات في بنية
التفكير الاستبدادي الذي لا يُنتج إلا تفكيرا للخراب وتدبيرا للظلم والاستعباد..
"الظلم مؤذن بخراب العمران".
twitter.com/Saif_abdelfatah