ليس من السهل أن تنجح دبلوماسيّة ما في إدارة مثلّث
المتناقضات، بل مثلّث العداء التاريخي، كما نجحت
قطر في إدارة شبكة علاقات ملغّمة
وتفاهمات بالغة التعقيد، كتلك التي حكمت مثلّث برمودا السياسي، ونعني واشنطن- كابل-
طهران. فالمحادثات التي قادت إلى الاتفاق الأخير بين
إيران والولايات المتّحدة، لا
تقلّ في أهميّتها وتعقيدها عن المحادثات التي دارت لحساب الجلاء الأمريكي من
أفغانستان.
شكّلت الدوحة أرضيّة دبلوماسيّة مغرية زاوجت بين
المرونة والذكاء، ومميّزات أخرى إيجابيّة، وتمكّنت من جمع رجال القائد الأعلى
لطالبان الملّا هبة الله أخوند زاده، بفريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كما
تمكّنت من الجمع بين رجال المرشد الأعلى للثورة الإسلاميّة في إيران عليّ خامنئيّ،
بفريق الرئيس الأمريكي جو بايدن.
لا تحتاج الدبلوماسيّة القطريّة إلى الغوص الأرشيفي
لاستخراج إنجازاتها، تحتاج فقط إلى ذهن منصف محصن ضد التعبئة الموجّهة ومتخفّف من
الكراهية المصنّعة؛ تلك الحصانة ستسهل على صاحبها الانتباه إلى نجاعة النسيج
الدبلوماسي القطري، الذي تجلّى كذلك في بناء علاقة سياسيّة اقتصاديّة متطوّرة مع
الجزائر، وفي الأثناء أرسل الملك المغربي محمّد السّادس برقيّة شكر وامتنان
لمجموعة البحث والإنقاذ القطريّة الدوليّة، على المجهودات التي قدّمتها للشعب
المغربي بعد الزلزال الأخير. دبلوماسيّة تجمع بين علاقتين؛ واحدة قويّة مع المغرب
وأخرى متينة مع الجزائر، ثمّ هي الدبلوماسيّة المرشّحة أكثر من غيرها لأداء الدور
الملحّ والمطلوب لإعادة الدفء للعلاقات الجزائريّة المغربيّة، دبلوماسيّة بهندسة كهذه، لا يمكن إلا الإشادة بها والوقوف برويّة عند مقارباتها.
كلّ ما سبق، هي ملفّات ضخمة ومعقّدة ومتصلّبة، نجحت
الدبلوماسيّة القطريّة في تليينها ثمّ تذويبها، لكن يبقى الملفّ الأضخم، هو ألغام
الحصار الجائر، هناك تبيّنت حرفيّة الدبلوماسيّة القطريّة في تفكيك الألغام غير التقليديّة،
هناك حذقت الدوحة أسلوب المحافظة على تماس دقيق بين الصلابة والتصلّب.
أمّا لماذا نجحت وتنجح
وساطات الدوحة؟ فملخص ذلك أنّ
الدبلوماسيّة القطريّة لا تعمل ككاسحة مهمّتها تجريف الطريق أمام المصالح
القطريّة، وما يعني ذلك من حسابات وخسائر وتجاوزات وعداوات ومحاصيل ملوّثة بدماء
الشّعوب وتاريخها ومصالحها ووحدتها ومصيرها، بل تعتمد دبلوماسيّة الدوحة على عصرنة
قطر وتجميل واجهتها وتقديمها كدولة ثريّة، كما تقتطع جانبا من ثروتها للعمل
الإغاثي عبر العالم، فهي تقتطع جانبا آخر من ثروتها لبناء السلام حول العالم،
بمعنى لا تعتمد قطر
الدبلوماسية كمكينة ابتزاز اقتصادي وجغرافي وسياسي، وإنّما
تعتمدها لأنسنة العلاقات وبناء جسور الثقة، في المقابل تعتمد على صندوقها السيادي
كحاملة اقتصاديّة واعية، صبورة، غير جشعة ومحترفة.
بالمختصر، عندما تصنع دبلوماسيّة واقعيّة ذكيّة
وموثوقة، يمكنك تجاوز الوساطة الأوروبيّة المتلعثمة المخاتلة بين واشنطن وطهران،
ومن ثمّ معالجة الملفّ المعقّد بطريقة تثير إعجاب المشاهد المتابع، والشّاهد المعني
بالتسوية.