تعتبر مدينة
يافا واحدة من أقدم وأجمل المدن
التاريخية الفلسطينية،
ويطلق عليها الفلسطينيون اسم "عروس البحر المتوسط " لجمالها وسحر
شاطئها ورماله الذهبية، أسسها الكنعانيون قبل قرابة الـ4000 سنة، وتعاقبت عليها عشرات
الحضارات التي هدمتها عدة مرات دون أن يغير ذلك شيئا في تمسكها بهويتها العربية
الإسلامية.
واشتهر شاطئ يافا أواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد بحادث النبي
يونس الذي ابتلعه الحوت وقذفه على الشاطئ شمالها في موقع ما يعرف باسم "موقع
النبي يونس" ـ أو تل يونس ـ بينها وبين مصب نهر روبين.
وتقع مدينة يافا بحسب جاد أبو أسعد، الباحث في التاريخ والدليل
السياحي "على ساحل بحر الأبيض المتوسط إلى الجنوب من مصب نهر العوجا بنحو 7 كم،
وتبعد عن مدينة القدس حوالي 60 كم".
وقال أبو أسعد لـ
"عربي21": "مدينة يافا مدينة
كنعانية لكن تعاقبت عليها عبر العصور عدة حضارات وثقافات قديمة من المصرية
والآشورية والفارسية، ثم العصور الكلاسيكية المتمثلة بالحقبات اليونانية والرومانية
والبيزنطية، ثم الحكم العربي والفرنجي".
جاد أبو أسعد، الباحث في التاريخ والدليل السياحي
وأوضح أن الكنعانيين أسس مدينة يافا في حوالي 1800 ق.م كمدينة مهمة
وميناء أساسي لفلسطين، حيث اكتسب موقعها أهمية خاصة كونها تطل على البحر المتوسط
ذي المياه الدافئة والهادئة نسبياً، فهي إحدى نوافذ فلسطين على البحر المتوسط، وهي
إحدى البوابات الرئيسة الغربية لفلسطين، وعبرها يتم اتصال فلسطين بدول حوض البحر المتوسط
والدول الأوروبية والإفريقية والأمريكية.
وأضاف: "كان ليافا منذ القديم دور كبير في ربط فلسطين بالعالم
فكانت محطة رئيسية تتلاقى فيها بضائع الشرق والغرب، وكانت جسر عبور للقوافل
التجارية بين مصر وبلاد الشام لأنها في منتصف السهل الساحلي الفلسطيني الذي يعد من
أكثر الطرق التجارية يسراً وسهولة وأمناً، وعلاوة على ذلك كان السهل الساحلي
معبراً مفضلا للغزوات الحربية والجيوش المتجهة نحو مصر جنوباً، أو نحو بلاد الشام
شمالاً وشرقاً".
وأوضح الباحث في التاريخ أن المدينة الساحلية سميت بهذا الاسم (يافا)
لجمالها وجمال موقعها الواقع على تلة خضراء مشرفة على البحر، مشيرا إلى أن الإسم
(يافا) مشتق من اللغة الكنعانية ومعناه الجميل والمؤنث (جميلة).
وشدد على أن فلسطين ومدنها جميعاً كانت منارة للحضارة والثقافة، وهي
مدن ذات واجهة حضارية وثقافية واقتصادية، وكلها كان لها أثرها في العالم العربي
والعالم أجمع؛ ولكن لتاريخ مدينة يافا تحديداً دور بارز كمركز حضاري وثقافي
واقتصادي، حيث كانت قلب فلسطين النابض من الناحية الاقتصادية، فهي عروس فلسطين
والبحر المتوسط وسيدة المدائن.
وأكد أن مدينة يافا ذكرت من أيام الفرعون تحوتمس الثالث (1440 ق.م )
في قصة الاستيلاء على المدينة، كما وذكرت في رسائل تل العمارنة التي تعود للقرن
14ق.م باسم (يابو) أو (يوبا)، وقد أصبحت
يافا مركزا إداريا مصريا مهما لوقوعها على طريق البحر التجاري المشهور via Maris.
وقال أبو أسعد: "ورد ذكر المدينة في الكتاب المقدس عدة مرات
لاسيما في قصة النبي يونس الذي ابتلعه الحوت في بحر يافا بحسب هذه القصة، كذلك
ظهرت يافا في الكتاب المقدس العهد الجديد في قصة الرسول بطرس أحد تلاميذ المسيح
الذي مكث في يافا لعدة أيام في بيت صديقه سمعان صابغ الجلود".
وأضاف: "رغم أن مدينة يافا لها أهمية مسيحية حيث ذكرت في العهد
الجديد، إلا أن يافا لم تكن من المدن المركزية في العهد البيزنطي فقد تراجعت
مكانتها بسبب وجود مدينة قيصرية عاصمة فلسطين في الفترة الرومانية والبيزنطية، فقد
كانت قيصرية من أهم مدن فلسطين في تلك الفترة وميناء قيصرية كان من أهم موانئ
فلسطين. لذلك كانت يافا في الفترة البيزنطية مدينة صغيرة وميناؤها لم يكن ميناء
مركزيا كميناء قيصرية".
وأشار إلى أن العرب المسلمين دخلوا يافا في حوالي عام 638م حيث يذكر
المؤرخ الواقدي في كتابه فتوح الشام أن عمرو بن العاص قام بفتح يافا بالتزامن مع
دخول عمر بن الخطاب مدينة القدس بشكل سلمي، وقد اكتسبت المدينة وميناؤها مكانة مهمة في العهد الإسلامي.
واستعرض الباحث والمحلل السياسي صخر العزة الحضارات التي مرت على
مدينة يافا منذ تأسيسها على يد الكنعانيين في حوالي 1800 ق.م.
صخر العزة.. باحث ومحلل سياسي فلسطيني
وأكد العزة لـ
"عربي21" على أن الموقع الجغرافي لمدينة
يافا أكسبها أهمية حربية وتجارية وزراعية بالإضافة إلى ما تثيره في الأذهان من
ذكريات دينية، وكانت على مر التاريخ معبراً للغزاة والتجار والحجاج، بل كانت باباً
لفلسطين ومدخلاً إلى القدس، فقد تطلعت إليها دول وأقوام كثيرة وحوصرت وفتحت وخربت
وأعيد بناؤها مراراً، ويصور تاريخها بشكل عام تاريخ الميلاد بكل دقائقه.
وقال: "أصبح ساحل فلسطين في بداية الألف الرابع قبل الميلاد
مأهولاً بالسكان الذين بدت لهم رابية يافا موقعاً مثالياً للاستيطان الدائم لأنها
على الطرف الجنوبي للغابات التي كانت تغطي القسم الشمالي من الساحل البحري وراء
مجرى نهر العوجا حيث تتوافر الحجارة والأخشاب والمياه المعدنية والغذاء الكافي".
وأضاف: "ومنذ منتصف الألف الثالث قبل الميلاد بدأت هجرة الموجات
السامية من الجزيرة العربية نحو غرب آسيا، حيث يعود بناء مدينة يافا إلى الموجة
الثالثة التي غطت الساحل السوري، وكانت كسائر المدن الكنعانية مملكة بحد ذاتها
تتألف من قلعة في أعلى الرابية فيها قصر الملك وأماكن العبادة، ومجموعة غير منظمة
من البيوت الحجرية الصغيرة على المنحدر باتجاه الساحل تحيط بها سور حجري قوي تدعمه
أبراج وله بوابة واحدة".
وتابع: "وإلى جانب الصيد والزراعة ظهرت بعض الصناعات المبكرة في
يافا كالغزل والنسيج وعصر الزيت والخمور وصناعة الفخار بدأت بتقدم بناء السفن
علاقات التجارة مع مصر وسواحل آسيا الصغرى وجزر بحر إيجة، فظهرت تأثيرات الفن
المصري والإيجي في يافا ومدن الساحل الفلسطيني واستبدل بالحجر النحاس والبرونز
المستوردان لصناعة السلاح، ولا يعرف ما إذا كانت الفتوحات السومرية والبابلية في
الألف قبل الميلاد قد وصلت جنوبا حتى يافا، ولكن حاكم يافا بعد ذلك بقرون كان
يستخدم اللغة البابلية والخط المسماري في رسالته إلى ملك مصر ".
وأوضح العزة أن مدينة يافا حملت عدة أسماء ومسميات في العصور
المختلفة، مؤكدا أنه جاء ذكر اسم (يافا)
بلفظ "يابو" الكنعانية أي الجميلة.
وقال: "كما عرفت المدينة باسم Yafi، و يافا تحريفا لكلمة "يافي"،
مشيرا إلى أنها تعرف باسم "Yafo" باللغة البابلية والخط المسماري، وقد
عرفها اليهود باسم "يافوYa-Pu".
وأوضح أن كلمة (يافا) جاء في بعض الكتب العربية، "Joppeالكنعاني، وبدل اليونانيون اسمها
فدعوها "جوبي، وأضاف: "خلال الحروب الصليبية كان أطلق عليها الفرنجة اسم ( Jaffa - جافا)".
وقال العزة: "احتل سيدنا داود مدينة يافا والسهل الساحلي في
القرن العاشر قبل الميلاد فتحالفت مصر مع دولته الجديدة لحماية حدودها الشمالية من
الأشوريين، وعلى الرغم من ذلك ظلت السيادة المصرية على السهل الساحلي قائمة، وعرفت
يافا إزدهاراً اقتصادياً فترة حكم سيدنا سليمان".
وأضاف: "سكان يافا كانوا من أوائل من اعتنق الديانة المسيحية،
وكانت المدينة مركزا لنشاط الرسول بطرس، وأصبح الحجاج يأتون إليها فيما بعد لزيارة
قبر طابيثا (اسم آرامي معناه غزالة، قرب مقام الشيخ أبو كبير) وبيت سمعان الدباغ
(عند جامع الطابية حاليا) وهما مكانان يرتبطان ببطرس، وفي هذه المرحلة انتشرت
مساكن يافا على مساحات واسعة خارج الأسوار".
وقال: "فتح عمرو بن العاص يافا بالتزامن مع دخول عمر بن
الخطاب مدينة القدس (15هـ/636م)، وعاد اليها اسم يافا القديم، وأكملت القبائل
العربية التي نزلت فلسطين عملية تعريب سكانها ولغتها، وقد ظلت طوال قرون الحكم
العربي من مدن فلسطين الهامة، ومركزاً تجارياً رئيساً، ومرفأ لبيت المقدس،
وموسماً للحجاج. وإليها ينسب عدد من الفقهاء ورواة الحديث".
وأوضح أن يافا كانت مركزا لتبادل الأسرى على الساحل السوري، وقد
أصابها زلزال شديد عام 425هـ/1033م فأحدث فيها خراباً كبيرا، ولكن ذلك كله لم يمنع
نزول الحجاج الأوروبيين فيها تحملهم إليها الأساطيل الإيطالية في طريقهم إلى القدس.
وقال: "حكم السلاجقة فلسطين وفيها يافا (468هـ/1075م) فهدم
القائد السلجوقي أتسز من أوق الخوارزمي سور المدينة، وفي هذه المرحلة من الصراع
السلجوقي-الفاطمي وصلت أولى حملات الفرنجة الصليبية".
وأضاف: "خلال حروب الفرنجة الصليبية (1099- 1268م) كانت يافا في
عين العاصفة حيث واصل الفرنجة في سيرهم نحو القدس الطريق الساحلي من أنطاكية حتى
يافا ليظلوا على اتصال بالمراكب التي تحمل المؤن والمدد".
وأشار إلى أن يافا كانت ولا تزال بلا سور وتابعة لباشا غزة في مطلع
القرن الثامن عشر، وقد بُدئ بإحياء بعض الصناعات فيها كصناعة الصابون وغزل القطن.
وقال العزة: "في منتصف القرن الثامن عشر شهدت حركة عمرانية ،
وزادت فيها حركة المسافرين ، وورد أول ذكر لبرتقال يافا عام 1165هـ/1751م في كتاب
عالم الطبيعة السويدي فريدريك هاسل كويست عن رحلاته إلى الشرق ، وقد بلغ عدد بيوت
يافا عام 1180هـ/1766م ما بين 400 و500 بيت، وغطت البساتين مساحات واسعة من أراضي
المستنقعات حولها وأصبح لكثير من الدول الأوروبية ممثلون فيها".
وأضاف: "ظلت يافا حتى الحرب العالمية الأولى ميناء فلسطين الأول،
وكانت السفن تنقل إليها البضائع وتحمل منها البرتقال والصابون والحبوب وغيرها،
واتصف بحاراتها بالجرأة والمهارة في الملاحة في مرفأ معرض للأنواء، وقد بُدء
بإجراء تحسينات على الميناء ومنحت الحكومة شركة فرنسية امتيازا لإقامة مينائي يافا
وحيفا، ولكن المشروع توقف بسبب الحرب".
وأفاد بأن قيمة واردات تجارة يافا بلغت عام 1332هـ/ 1913م مبلغ 1,312,600
جنيه إنجليزي، وقيمة الصادرات 745,400، وكان متوسط السفن التجارية التي رست في
الميناء بين 1329هـ/1909م 1332هـ/1913م نحو 668 باخرة سنويا، وبلغ عدد صناديق
البرتقال المصدرة منها عام 1330هـ/1911 م نحو 870,000 صندوق ثمنها 217,500 جنيه
إنجليزي، وكانت مصر أول الأقطار التي تصدر إليها يافا، تليها بريطانيا، فتركيا
فروسيا وفرنسا.
وقال: "أدى افتتاح ميناء يافا عام 1936م إلى ازدهار المدينة
ونشاطها الاقتصادي فشهدت حركة تجارية متقطعة النظير، وكانت تخدم ظهيرها القريب
الذي يقع خلفها مباشرة ويتمثل في السهل الساحلي الغني بموارده الزراعية والبشرية،
وتخدم ظهيرها البعيد المتمثل في الجزء الشرقي من فلسطين وفي بلاد شرق الأردن
والعراق ".
وأضاف: "مما ساعد على نمو يافا وازدياد نشاطها الاقتصادي كونها
عقدة مواصلات برية وبحرية ، فطريق السهل الساحلي الرئيسة المعبدة وخط سكة حديد القنطرة
ـ رفح ـ حيفا يمران بها ، وهي ترتبط بالقدس عبر مدينتي اللد والرملة بطريق رئيسة
معبدة وخط للسكة الحديدية، وتربطها طريق
معبدة رئيسة أخرى بئر السبع والخليل وخليج العقبة، وكانت ترسو في مينائها مئات
البواخر سنويا لشحن البضائع وتفريغها، ولكن الإحتلال الصهيوني ليافا عمل على اهمال
مينائها إلى أن أُغلق نهائياً في تشرين ثاني/ نوفمبر 1965م ".
وأكد أن مدينة يافا وقعت في العام 1948 تحت الاحتلال الإسرائيلي
واقامت الدولة العبرية على أراضيها مستوطنة تل أبيب لتكون عاصمة لها، في محاولة
لإلغاء يافا التاريخية لكنها فشلت.
كما فشل الاحتلال في دمج سكان يافا في دولته من أجل تهويدهم حيث ظلوا
محافظين على هويتهم وتراثهم رغم كل الضغوط عليهم، وظلت سكان يافا محافظون على
لهجتهم اليافوية الجميلة حتى من تهجر منهم إلى عدة مناطق في فلسطين وخارجها.
وظلت اللهجة اليافوية سمة الحاج شفيق ساق الله "أبي هشام"
الذي لجأ إليها وعائلته وهو في ريعان الشباب وظل حتى وافته المنية قبل سنوات يذكر
كل شيء عن يافا.
الإعلامي هشام ساق الله برفقة والده شفيق
ويقول نجله البكر الإعلامي هشام لـ
"عربي21": "أنا لم
أرى يافا إلا مرتين في حياتي وذلك حينما زرتها نهاية القرن الماضي حيث لدي خالة
تعيش هناك وأبناء خالتي".
وأضاف: "يافا مدينة جميلة رائعة لكن ما أحببني فيها هو حديث
والدي عنها، فوالدي حتى آخر يوم في حياته وهو يتحدث باللهجة اليافوية ويتحدث عن
يافا وعن شوارعها وعن جيرانها وعن عائلاتها".
وأوضح أن والده كان يعرف بيوت يافا بيتا بيتا، مشيرا إلى أنه كانت له
دراجة هوائية وهو صغير وكان دائما يقودها يتنقل بين حارتها وشوارعها للاستمتاع بها.
وقال ساق الله: "يافا بالنسبة لوالدي كانت حلم العودة لكل
فلسطيني يعود إلى مدينته وإلى قريته وإلى وطنه، وقد قام بزرع الانتماء ليافا
والانتماء للوطن فينا بشكل كبير رغم أنه لم يحصل على شهادات علمية كبيرة".
وأضاف: "كانت يافا بالنسبة لوالدي الوطن والمدينة وحلم العودة
وكل شيء".
وتابع: "أذكر أنه كان يقول دائما مهما أكلت البرتقال فلا أستطعم
إلاببرتقال يافا، فطعم برتقال يافا ما زال في فمي".
وأكد ساق الله أنه حينما تزوج قرر تسمية ابنته الكبيرة (يافا)، وذلك
"لأكثر من سبب أولا لأن يافا صارت حبيبتي ومدينتي الجميلة التي رسخها والدي
في داخلي، وثانيا تعبيرا عن رفضي لاتفاق أوسلو كونه لم يشمل يافا".
وأضاف: "فأنا لا أتخيل أن لا تكون يافا ضمن أي حل فلسطيني
بالعودة لها أو ضمن الدولة الفلسطينية، ولا يمكن أن أتخيل فلسطين بدون يافا".