يتردد في السنوات
الأخيرة قول لا يمتلك حجته العلمية وإنما يعتمد أصحابه عواطفهم وشهواتهم، وهو
القول بـ"نهاية الإسلام السياسي"، ويُبدي كثيرون سعادتهم بهذه
"النهاية" بل ويفاخر البعض بأنهم ساهموا في تحقيق هذا "الإنهاء".
وبالعودة إلى مضمون التسمية،
نجد أنها تسمية قاصرة، فأصحابها عاجزون عن فهم الإسلام بما هو فلسفة حياة وبما هو
دين، إنه ليس مجرد نظرية تتاح لأصحابها فرصة التجريب، إنه عقيدة، وليس عقيدة جماعة
أو منظمة أو حزب، إنه عقيدة مئات الملايين من البشر، وفيهم علماء وفلاسفة ورجال
قانون وعلماء شريعة ومفكرون ومهندسون وأطباء وإعلاميون ورياضيون وفلاحون ورجال
أعمال، وكل هؤلاء يعتقدون بأن الإسلام هو نظرية في الحياة، وهو جملة من الأحكام
والقواعد والقيم والمبادئ الكبرى التي تنظم حياة الناس وترسم لهم سبيل السعادة
وتنبههم إلى منزلقات الشقاء، وهؤلاء يعتقدون أن كمال الإيمان لا يكون إلا بالتزام
عملي بتلك المبادئ والأوامر والنواهي.
إن تسمية "الإسلام
السياسي" هي تسميةٌ من وضع من يستعجل إنهاء "ظاهرة" عجز عن فهمها
ويتمنى زوالها، فيعتمد أسلوب الأطفال القُصّر حين يصنعون دمية من ورق يسمونها
"غولا"، ثم يُجهزون عليها فيقدرون بسرعة فائقة على تمزيقها ويتنفسون
الصعداء ويشعرون بنشوة الانتصار، ليكتشفوا لاحقا أنهم لم يصبحوا أبطالا حقيقيين
ولم يكبروا بسرعة ولم يتحرروا من عجزهم ومن خوفهم الذي يسكنهم.
إن الإسلام بما هو
عقيدة يزداد انتشارا لا في مستواه الشعائري، بل في معانيه التي تُضفي على الحياة
معنى وعلى الوجود بهاء وعلى الإنسان قيمة إيجابية في زمن يراد له أن يكون ماديا يتم
فيه تشيئة كل "شيء" وسلعنة كل قيمة. إن فلاسفة الحياة وفلاسفة الأخلاق
ومنتجي الأفكار والمعاني يدركون جيدا أن العالم يتجه نحو الإسلام العظيم، وحدهم
التافهون يتمنون زوال القيم وهيمنة اللا معنى وفناء من يُذكرهم بكونهم أشقياء وتافهين
وبُلهاء.
من يتوهمون نهاية
الإسلام في تجارب سياسية متعثرة وعن طريق "مشاريع" طوباوية مُقعَدة،
سيتفاجأون بولادة تعبيرات للإسلام أشمل من السياسة وأعمق وأقدر، وسيجدون أنفسهم
عاجزين ليس فقط عن فهمها بل وعن مواكبتها؛ بسبب أعطابهم النفسية والذهنية وبسبب
كونهم أصبحوا غير مؤهلين لمواكبة زمن المعنى وعصر القيمة، حيث ولادة الإنسان
الجديد، وستظل حظوظ ترميم ذواتهم متاحة لكون الإسلام العظيم في حركته الداخلية وفي
مسار التاريخ باتجاه تقدمي؛ يقذف بالنفايات ويصطحب كل عناصر الحياة ومظاهر الجمال
التي لا يخلو منها كائن هو من صنع الله الذي أتقن كل شيء.
لقد تفاجأ العالم كله،
وخاصة من بشّروا بنهاية الوجود الإسلامي، بترجمة للإسلام قوية وحداثية بل
وإعجازية، إنها ترجمة "الإسلام المقاوم" الذي بدا معبرا عما هو أبعد من
"الإسلام السياسي" وعما هو أشمل وأعمق من "الإسلام المذهبي".
معركة "طوفان
الأقصى" أدخلت على العالم الإسلامي هذه الأيام شعورا بنشوة الانتصار، وأنه لم
تعد الهزيمة قدرا إسلاميا، ولم يعد الانتصار مستحيلا، لقد قدمت
المقاومة درسا
تطبيقيا في الشجاعة وفي الصبر وفي المهارات العالية، فباتت يد المقاومين هي العليا
وصار عدوهم في وضعية المهزوم المرتعب يستجدي عطف العالم ويطلب دعم حلفائه رغم ما
كدّسه من أسلحة متطورة فتاكة.
متصدرو المعركة هم
حركات إسلامية نشأت على عقيدة تجعل الإنسان مقصدا محوريا في شريعتها، الإنسان
المتحرر من العبودية ومن الاستبداد ومن الاحتلال ومن غرائزه، عقيدة لا تقبل
لمعتنقيها المذلة والاستسلام، وتدعوهم لاكتساب مصادر القوة من علم واقتصاد ومهارات
تناسب مقتضيات كل مرحلة وكل معركة.
معارك
التحرر توفر كيمياء وحدة الشعوب والأمم، وهي معارك تسمو على ما هو ذاتي
وما هو حزبي، وما هو أهواء وهويات جزئية من جهوية ومذهبية وعرقية.
بناء الإنسان المقاوم يحتاج ثورة في الأفكار والمعاني والقيم، ويحتاج إعادة
النظر في برامجنا التربوية والثقافية وفي خطابنا الديني وفي أداء وسائل الإعلام،
وفي دور المنظمات والجمعيات حتى تكون منابت وعي و"مدارس" لتخرّج أجيالا
جديدة قادرة على خوض معارك المستقبل.