مما يؤكد أننا في الحقيقة ما نزال نمثل عدو فرنسا الأول، وأن
الجزائر
تأتي في مقدمة هذه الأمم والشعوب التي لها
تاريخ معاصر يحسدها عليه جل شعوب
العالم، لأنه تاريخ صنعته بالبطولات النادرة والكفاح المرير، والنجاح في اجتياز
الامتحانات الصعبة التي لا تتأتى إلا لأولي العزم من الشعوب الحية المجاهدة..
ولذلك لم نعدم في الوقت الحاضر (ولن نعدم في المستقبل) العديد من الأفكار المضللة
والأطروحات المدمرة التي يوجهها العدو نحوها، كالقنابل (العنقودية) ذات الانفجار
المتقطع والموقوت في عالم شبيبتها الناشئة، المتعلمة، والمتألمة، الواعية، والواعدة..
نقول ذلك؛ لأننا إذا كنا بعد أقل من خمسين سنة من خروج بعض عساكر
العدو من البلاد قد رأينا من بين أولئك
الشباب الذين دخلوا الجامعات والمعاهد العليا، بعد زوال بعض مظاهر الاحتلال
المباشر، من ينادي بوضع التاريخ في المزبلة، وينوه بكرم رئيس الجمهورية الفرنسية
الخامسة، وحكمته في إهدائه الاستقلال للجزائريين.. ويطالب بالتالي الآباء
والأشقاء والأصدقاء بضرورة الاعتراف بالجميل للاحتلال بالتعامل مع مخلفاته
الثقافية في البلاد بموضوعية وروح رياضية، كأشياء حضارية، بحجة أن تلك المخلفات
إذا كانت معتبرة في الماضي رمزا سياديا للمحتل، مفروضة على الآباء والأجداد بقوة
السلاح، فهي الآن غير كذلك في نظرهم، ومن ثمة وجدناهم ينصحون غيرهم بأن يعاملوا
هذه المخلفات كغنيمة حرب كما قال كبيرهم وعراب "استحلالهم" ذات يوم!
جهاد الوصول إلى القمة، وجهاد المحافظة على البقاء في هذه القمة يتطلب كلاهما العديد من الأسلحة النوعية (الحديثة)، وفي مقدمتها الأسلحة العقائدية والثقافية (الفكرية والروحية) التي تحرّك العضلات وتوجهها، وتفجّر الطاقات وتستغلها في كل الحالات وفي جميع الاتجاهات!؟
مما يجعلنا نؤكد على ضرورة التنبيه من خلال هذه المقالات وغيرها إلى
الخطر الموقوت الناتج عن الفراغ المدمر في مجال الاهتمام باستمرارية الوصل
التاريخي الذي شارك جيل الثورة في تكريسه مع الأسف الشديد بحكم بعض الظروف العارضة
أو الغامضة، والتي نرجو أن تكون قد أخذت في الزوال والتجلي بفضل شهادات هؤلاء
الرجال الذين صنعوا هذا التاريخ وما زالوا حريصين على الدفاع عنه بكل ما يملكون..،
وذلك اعتقادا منهم بأنه لو استمر التهاون في عملية التدارك لهذا الخطر المتمثل في
تمجيد مفاخر ومجازر ذلك المحتل الحقير والجائر.. فإننا لا نستبعد أن ينعت شهداؤنا
في المستقبل بالإرهابيين والخارجين عن القانون كما كانوا يسمون في أجهزة إعلام
العدو أثناء الثورة المسلحة، وما يزالون يسمون كذلك إلى يومنا هذا، كما لاحظ
الجميع في الندوة التي عقدت في مدينة مرسيليا في آخر شهر مارس من سنة (2012) ضمّ
بعض رموز ثورتنا، وبعض رموز ووجوه ومنظري إجرامهم المادي والمعنوي في حق الشعب
الجزائري...
ولا نستغرب حينئذ أن يتهم مجاهدونا الأحياء وقادة ثورتنا (كما وقع في
هذه الندوة) بالقتلة والعنصريين الذين فرقوا بين أبناء (الأمة الواحدة)، وبالتالي
لا نعدم من يطالب بتصحيح الأخطاء السابقة، ونسيان الماضي وممارسة حُلْمِ يقظتهم في
طي الصفحة للم شمل أفراد العائلة الواحدة، بإرجاع المياه إلى مجاريها الغالية (نسبة إلى بلاد أجدادنا الغاليين Les Gaulois) الذين كنا نقرأ عن أمجادهم في برنامج
التاريخ الذي وضعه أسلاف الجنرال ديغول لتنوير عقولنا، قبل أن يتفضل "بإهدائنا"
الاستقلال (الذاتي في اعتقاده)، ويتركنا نعتمد على أنفسنا! كما يفهم ذلك من قوله
الصريح في مذكراته "الأمل" حيث يقول بكل صراحة ووقاحة: "... ستبقى
الجزائر فرنسية من عدة أوجه... وستحافظ على الطابع الذي اكتسبته مثلما احتفظت
فرنسا بالطابع الروماني ...".
وقال أيضا: "... وهل
يعني ذلك أننا إذا تركناهم يحكمون أنفسهم (يلاحظ هنا أنه لم يقل يستقلون؟) يترتب
علينا التخلي عنهم بعيدين عن أعيننا وقلوبنا!؟ (ثم يجيب بقوله) قطعا لا!"
ويضيف مبررا تلك المتابعة عن قرب لأولئك الذين يحكمون أنفسهم بقوله: "فالواجب
يقتضي منا مساعدتهم لأنهم يتكلمون لغتنا ويتقاسمون معنا ثقافتنا" ويؤكد هذا
التصميم على البقاء في الجزائر بقاء ثقافيا ووجوديا وهويّاتيا بقوله في مكان آخر
أثناء مفاوضات إيفيان حول تقرير المصير: "لو تعين عليّ أن أختار بين بترول
الصحراء وبقاء اللغة الفرنسية في الجزائر، فإنني لا أتردد في اختيار بقاء اللغة الفرنسية".
وهو محق في ذلك لأن اللغة الوطنية هي عنوان السيادة ومرآة السياسة
ورمز القيادة في أية دولة مستقلة في العالم!.
مثلما كانت ـ بحق ـ معجزة في ربانيتها، ونادرة في أصالتها، وعملاقة في نتائجها، كانت أيضا وما تزال ذات خصوصيات فريدة من نوعها، ومناعة ذاتية في الدفاع عن نفسها
وهذا ما يفسر نداء بعض هؤلاء الشباب برمي التاريخ في المزبلة وطي
صفحة الماضي الدموي والإرهابي ضد الأنوار التحضيرية الواردة من وراء البحار، كما
كانوا يقولون، ومطالبتهم بالتالي بإعادة وصل وشائج القربى بين أطراف البحر الأبيض
المتوسط (الذي قال عنه جاك سوستال: إنه بحر يعبر فرنسا) La Mer Méditerranée qui traverse la France والذي صيره
الشهداء بحيرات من الدماء بفضل تلك التضحيات عقودًا من التاريخ المجيد في سبيل هذا
الاستقلال السعيد، الذي نقرأ عن بعض أثمـانه الغالية في مثل هذه الكتب والمذكرات
التي كتبها صانعو هذا التاريخ الجديد والمجيد.
ولا شك أن مثل هذه الأطروحات التي يحتمل أن تتحول إلى متفجرات في وجه
الوطن ووحدته الترابية والشعبية، لا يمكن أن نرضى بأن تنطلي على عقول شبيبتنا
المنخدعة والمضللة، ولعله من باب (الوقاية خير من العلاج) أن يتفطن في الوقت
المناسب بعض من صنع التاريخ في بلادنا إلى أهمية التاريخ وخطر النسيان والنكران،
كمبادرة وزارة المجاهدين باتخاذها قرارا بضرورة الاهتمـام بتاريخ الثورة الجزائرية
المباركة في سنة الاحتفال بالذكرى الخمسين لإيقاف لهيبها، وبأنها مثلما كانت ـ بحق
ـ معجزة في ربانيتها، ونادرة في أصالتها، وعملاقة في نتائجها، كانت أيضا وما تزال
ذات خصوصيات فريدة من نوعها، ومناعة ذاتية في الدفاع عن نفسها، تتمثل في كونها
يؤرخ لها صانعوها ومفجروها وحراسها، بما لها وما عليها، بعيدا عن كل تزييف أو
تخمين أو حكر على مجلات العدو، وأفلامه الوثائقية المزورة للحقائق أمام أعين
صانعيها من الشهداء الأحياء، كما أن تاريخ هذه الثورة هو ملك لكل الثوار، وكتاب
مفتوح أمام شعب الثوار، لا يستطيع أن يزايد فيه حاضر على غائب، لأن المجاهدين
الحقيقيين لا يكذبون، وإذا نسي بعضهم سيجد من يذكره -حتمـا- لأن الأمس ليس ببعيد،
وآثاره ما زالت ظاهرة للعيان، وعلى الأبدان، فضلا عن رسوخها في الأذهان، كما يجدها
القارئ مفصلة بكل صدق في فصول هذا الكتاب، وفي أمثاله من عشرات الكتب الصادرة داخل
الوطن وخارجه في العقود العشرة الأخيرة...
وإننا إذ نستبشر خيرا بهذه البداية الصحيحة والفصيحة المتمثلة في
تركيز وزارة المجاهدين على وصل تاريخنا المجيد بكتابة بعض فصوله في عهد صانعيه
ومباركتهم وبأقلام بعضهم... نرجو الاستمرار والفعالية لهذه الانطلاقة القوية لسد
الفراغ وردم الهوة الفاصلة بين جيل الاستقلال السياسي وصانعي الاستقلال السياسي
الحقيقيين في ذكراه الخمسين... فعسى أن تشمل عودة الوعي كل العقول، فينتفع بالذكرى
المؤمنون من أجيال الخلف، والغافلون من أجيال السلف!
ومن باب الإدلاء بشهادتي كرجل مخضرم عايش جيل السلف بقدر سنوات العمر
التي عايش بها وفيها جيل الخلف، وفي غمرة الفرحة بما فات والتطلع إلى الغاية
الكاملة في ما هو آت لا أجد بدّا من أن أخصّص هذا الجهد لهذا الموضوع وهذه الذكرى،
فأسجل شهادتي عن أحداث عايشتها وانفعلت وتفاعلت معها وفيها جسدا وروحا، ولم أقرأ
عنها في المجلات، أو أسمع عنها في الإذاعات.
وإذا لم يكن بالإمكان أن يقول المرء كل شيء، فليس من المعقول ولا
المقبول ألا يقول أي شيء!
وطـالما أن الأمر فيـه اختيـار وتفـاضـل، ففضـلنـا الأهـم ـ في نظرنا
ـ على المهم، وخصّصنا هذا الجهد "جهاد الجزائر" الذي صدر في طبعته
الأولى سنة 1982، ويعاد طبعه في هذا الشكل الجديد شكلا ومضمونا، مذكرين الذين
يعلمون، ومؤكدين للذين يجهلون بأن الإسلام هو أغلى ثروة، وأغدق عطاء جادت به
السمـاء على هذه الأرض، ولو لم يكن قد أتانا لسعينا في طلبه، ولو لم نرثه عن
آبائنا وأجدادنا المحافظين الميامين لأوجدناه أو سعينا في طلبه وأورثناه لأبنائنا،
وطالما أنه موجود بفضل وعي الأجداد، الأقارب والأباعد، فلا أقل على الأحفاد من أن
يحافظوا عليه حفاظهم على أرواحهم وقلوبهم، لأن عطاء البترول وثروات الأرض قد تنفد،
أو يساء استغلالها في غياب الأخلاق الفاضلة، أما عطاء القلوب المفعمة بالإيمان
والعقول المتفتحة في الإسلام على الإسلام، فإنها هي الثروة الباقية المتجددة إلى
الأبد، والضامنة لحسن استغلال الثروات الأخرى..
إن الاستقلال الوطني ثمين جدا، ولكن الأثمن منه تلك الروح الجهادية والوطنية التي أوجدته، وإذا كان من الواجب علينا أن نحافظ على الاستقلال المكتسب، فإنه من باب أولى أن نحافظ على عوامل وجود هذا الاستقلال ذاته
ذلك أن التاريخ إذا لم يحدثنا عن أقوام زالوا من صفحاته بسبب فقدان البترول
في أراضيهم، فإنه حدثنا عن أقوام، قدامى ومعاصرين، زالوا من الوجود الحقيقي في
الخريطة التاريخية للحضارة البشرية، بسبب فقدان الإيمان في قلوبهم والقيم في
واقعهم رغم ما تزخر به أراضيهم من ثروات طائلة قد استغلّ مردودها في عمليات
الانتحار الحضاري، والتحلل من القيم الإنسانية إلى عالم الوحوش الضارية الكاسرة
والنباتات الهامشية العابرة، والحشرات الطفيلية الغابرة!
إن الاستقلال الوطني ثمين جدا، ولكن الأثمن منه تلك الروح الجهادية
والوطنية التي أوجدته، وإذا كان من الواجب علينا أن نحافظ على الاستقلال المكتسب،
فإنه من باب أولى أن نحافظ على عوامل وجود هذا الاستقلال ذاته، لأنه إذا كان
الصعود إلى القمة مهمّا فإنّ الأهم ـ في نظرنا ـ هو المحافظة على عوامل البقاء في
هذه القمة، حتى لا يتحوّل الجهاد إلى "عجلة احتياط" نلجأ إليه في بعض
الملمات والأقراح، وننساه أو "نسترهبه" ونحاربه في المسرات والليالي
الملاح، وكأنما الحياة الكريمة ليست كلها جهادًا وكفاحًا!؟
وأذكّر نفسي وكل سدنة القلعة النوفمبرية المحصنة بوعيهم ويقظتهم،
بأنه إذا كان كل احتلال يحمل بذور استقلال، فإن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال
أيضا، بدليل أن الجزائر كانت مستقلة قبل سنة 1830، وأطعمت فرنسا فاحتلتها، وبقيت
الجزائر 132 سنة تقاوم هذا الاحتلال بإباء وشموخ جيلا بعد جيل حتى الفاتح من
نوفمبر 1954. وإذا غفل أبناء الوطن الأصلاء (وليس العملاء) عن مواصلة الدفاع عن
هذا الإنجاز العظيم الذي حققه الرجال، فإن مصيره التبديد والتزوير والتحريف
والزوال لا سمح الله، ولا يوجد رأسمال أغلى للجزائر من الحرية والاستقلال وخاصة
العوامل التي أوجدتها، ولذلك نعتقد، بناء على هذا الواقع التاريخي القابل للتكرار
في كل عصر ومصر، كما نشهد اليوم، بأنه لا يوجد استقلال دائم ولا احتلال دائم،
وإنما يوجد جهاد قائم ودستور حاكم وعدل صارم. وهذا الجهاد القائم هو المنجم الذهبي
الذي لا ينبغي أن ينفد عطاؤه في الجزائر، التي تنفرد في العالم كله بوزارة اسمها
وزارة المجاهدين القائمين والحارسين (وليس وزارة قدماء المحاربين)، كما تسمى في كل
أقطار الدنيا ما عدا الجزائر المجاهدة، التي نريدها أن تبقى كذلك قولا وفعلا. ولا
يجادل عاقل بأن هذا الاستقلال تحقّق بالفعل الجهادي المنقطع النظير، وليس بالنفاق
والتزمير، والتزوير!!.
ولذلك فلا يعتبر من نافلة القول أن نؤكد ها هنا مذكرين بأن الجهاد
الأكبر المتواصل لا يمكن أن يؤتي ثماره المرجوة إلا بتطبيق القواعد الذهبية التي
نجح بها الجهاد الأصغر (كما سنحاول أن نبين ذلك في ما سيأتي من قول) وزيادة! لأن
جهاد الوصول إلى القمة، وجهاد المحافظة على البقاء في هذه القمة يتطلب كلاهما
العديد من الأسلحة النوعية (الحديثة)، وفي مقدمتها الأسلحة العقائدية والثقافية
(الفكرية والروحية) التي تحرّك العضلات وتوجهها، وتفجّر الطاقات وتستغلها في كل
الحالات وفي جميع الاتجاهات!؟
إقرأ أيضا: من الجزائر سابقا إلى فلسطين لاحقا.. قصة مقاومة الشعوب للاحتلال واحدة (1من2)