بالتأكيد شكلت معركة "طوفان الأقصى" تحولاً استراتيجياً
على صعيد الصراع في
فلسطين، وعلى اختلاف ردود الأفعال والتحليلات السياسية، إلا أن
كل الأطراف تجمع على أن ما قبل السابع من أكتوبر ليس كما بعده، حيث تظهر الأطراف
الدولية الداعمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي وعلى رأسها الولايات المتحدة أن
الاستجابة لهذا التحول يجب أن تكون استراتيجية، والهدف المعلن هو القضاء على حماس
في قطاع
غزة، لكن الخلاف يكمن في التفاصيل ولم تتشكل خطة أو رؤية عملية واضحة
لتحقيق ذلك.
وبالنظر إلى
موقف الأطراف الإقليمية الرئيسية، نجد أن مصر تتساوق مع
الخطة الأمريكية بشكل معلن على لسان السيسي ولكن تعارض أي خطة تتضمن تهجير الغزيين
إلى أراضيها، أما السلطة الفلسطينية، فإن فعلها على الأرض من قمع المسيرات
واستمرار التنسيق الأمني وتهدئة الشارع يشي بموقفها المؤيد للخطة الأمريكية بضرورة
إنهاء حماس في غزة ومن الواضح أن الخسائر المدنية أو تهجير أهل غزة لا يشكل أي
معضلة بالنسبة لهم.
على صعيد محور الممانعة، وإن كانت إيران تظهر موقفاً داعما لحماس من
خلال التحرك المسلح المحدود والتصعيد في جنوب لبنان، إلا أن تطور موقف محور
الممانعة أكثر من ذلك محفوف بعدة عوامل ويعتريه الشكوك، في المحصلة نجد أن
المقاومة في غزة تقف أمام تحد نوعي ومعركة مصيرية والرهان على نجاح المقاومة في
الصمود والاستمرار هو المسار المركزي في هذه المعركة.
على صعيد الأردن، يتلخص المشهد بحراك شعبي متواضع يعمل في نطاق السقف
الذي رسمه له النظام. بينما يعمل الجانب الرسمي الأردني على تسويق نفسه أنه يقوم
بجهود دبلوماسية حقيقية ومضنية لوقف الحرب ودعم الفلسطينيين، وخطاب الملك ومن بعده
مقابلة الملكة مع شبكة CNN تشي عن موقف دبلوماسي متقدم عن كل
الأطراف الإقليمية من دول عربية وإسلامية.
هل فعلا يقوم الأردن الرسمي بدور حقيقي دبلوماسي لوقف الحرب؟ وهل يملك الأدوات والقوة لذلك؟ وهل فعلا الحراك الشعبي لا يستطيع تحقيق أكثر من الإسناد والدعم وإيصال الرسائل للغرب؟
يساعد في ضبط الأمور في الشارع الأردني ضمن سقف النظام المنخفض خطاب
يتبناه ما يمكن تسميتهم "المعارضة المعتدلة" ويتم بثه وتكثيفه عبر مختلف
وسائل التواصل والمحطات الإعلامية يتبناه عدد من الإعلاميين والمعارضين يسوق إلى
أن الأردن الرسمي يقوم بدوره وأن واجب الشعب إسناد الدور الرسمي من خلال التعبير
عن دعمه لغزة في إطار سلمي مقنن ومحدود تحت عنوان "هدفنا إيصال رسالة
للمجتمع الغربي" فقط تحت ذريعة أن هذا أقصى ما يمكن تحقيقه.
لكن نظرة متعمقة للمشهد تطرح أمامنا تساؤلات أهمها؛ هل فعلا يقوم
الأردن الرسمي بدور حقيقي دبلوماسي لوقف الحرب؟ وهل يملك الأدوات والقوة لذلك؟ وهل
فعلا الحراك الشعبي لا يستطيع تحقيق أكثر من الإسناد والدعم وإيصال الرسائل للغرب؟
بلا شك أن الأردن الرسمي ممثلا بالملك تحركه مصلحة واحدة وهي الحفاظ
على النظام واستمراره. وبلا شك أن لأمريكا دورا حاسما في ذلك، ولذلك الموقف الأردني
الرسمي مرتهن للإرادة الأمريكية بشكل كامل، وبغض النظر عن الخطابات القوية فهي لا
تختلف بحال عن خطابات النواب في البرلمان الأردني عند مناقشة الموازنة التي تمتلئ
بالخطاب القوي الناقد للموازنة ولكنها تنتهي بالموافقة والإقرار لها، دائما ما
كانت الأفعال أعلى صوتا من الخطابات المنمقة الرنانة التي في الغالب هي للاستهلاك
المحلي وتسويق نظام الحكم على أنه يمارس ضغوطا على المجتمع الغربي، ولكن الأفعال
على الأرض تدل على ارتهان الموقف الأردني للإرادة الأمريكية بالكامل، فمن
الاتفاقيات العسكرية الأمريكية الأردنية لإنشاء قواعد عسكرية أمريكية في الأردن
والتي في بنودها ترتقي لمستوى الاحتلال، إلى اتفاقية الغاز مع الاحتلال، واتفاقية الماء مقابل الكهرباء، إلى قتل
مواطنين أردنيين في حرم السفارة في الرابية وتهريب الفاعلين، والقائمة تطول.
بالتأكيد لا تصب تصفية القضية الفلسطينية ـ والتي تبدأ من هزيمة حماس
في غزة ـ في مصلحة القصر ولا الأردن، لذلك من الخطأ الكبير تسويق الجهود الأردنية
الدبلوماسية على أنها جهود جادة وفاعلة مما يجعل الحراك الشعبي يتراخى ويتم تسويق
أن هذا أفضل ما يمكن تحقيقه.
الحراك الشعبي قادر على إحداث اختراق كبير وكبير جدا في اتجاه قلب
المعادلة ورسم مسار ضاغط ربما يساهم في إيقاف الحرب وإسناد حقيقي لغزة وأهلها.
فعلى الرغم من أن موقف النظام الأردني مرتهن للرؤية الأمريكية على الدوام. إلا أن
الأردن جغرافياً له ثقل كبير في القضية الفلسطينية ومحورية في المنطقة. فهو يملك
أطول حدود مع فلسطين ويمتلك أكبر مخزون من الفلسطينيين، أضف إلى ذلك أنه في خطة
اليمين الصهيوني هو جزء من الحل النهائي في تصفية القضية الفلسطينية وتهجير
الفلسطينيين، ورغم ما يبديه النظام الأردني من ممانعة لهذه الخطة إلا أنه يتساوق
معها مكرها، فرغم أن الأردن الرسمي يخاف من قلاقل داخلية من العشائر الأردنية في
حال تمرير مشروع توطين الفلسطينيين، إلا أن خوفه من أمريكا أكبر، وهي فعلاً من
يملك زمام استقرار الحكم واستمراره، أما النقطة الأهم والتي يغفل عنها الكثير، أن
الأردن اليوم هو الدولة الوحيدة الحاجزة بين وصول امتداد المشروع الإيراني من
سوريا والعراق ليصبح على تماس مباشر مع الحدود الفلسطينية وما يشمله ذلك من تهديد
وجودي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، كل هذا يعطي أهمية قصوى للأردن في السياسة
الخارجية الأمريكية ومما يعني في معادلة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
إنني أزعم أن حراكا شعبيا أردنيا قادر على إحداث اختراق حقيقي في
المعادلة إذا تم توجيهه في الاتجاه الصحيح، أن المسيرات والمظاهرات والاعتصامات
المحدودة والملتزمة بسقف النظام على فضلها ولكنها ذات أثر محدود أو ليس لها أي أثر
يذكر، وأي حراك باتجاه السفارة الإسرائيلية أو الفرنسية أو حتى الحدود فإن الدولة
الأردنية قادرة على احتوائه وربما منعه.
الحراك الشعبي الذي يملك فرصة أكبر على كسر المعادلة ويمكن تحقيق إنجاز
وازن في إسناد غزة هو حراك باتجاه السفارة الأمريكية في عبدون ومحاصرتها والاعتصام
حولها وإجبار أمريكا على إخلاء السفارة وإجلاء رعاياها منها. لأن الفكرة السياسية
هي التأثير على الموقف الأمريكي وحساباته لاستقرار المنطقة وحلفائها.
تمثل السفارات الأمريكية في الوعي الجمعي الأمريكي أهمية عالية،
وبالذات السفارة في الأردن. حيث تعتبر مركزا رئيسيا لمختلف العمليات الأمريكية في
المنطقة وليس الأردن فقط. وفي نظرة سريعة للتاريخ نجد مثلا أثر وذكرى اقتحام
السفارة الأمريكية في طهران حاضر لليوم وتناولته العديد من التحليلات والأفلام
السينمائية والوثائقية وساهم في تغيير جذري في السياسة الأمريكية الخارجية، وهناك
أمثلة أخرى كيف أن إغلاق أو اقتحام السفارات الأمريكية كان له صدى واسع وعميق في
المجتمع الأمريكي والسياسة الأمريكية.
أزعم أن حراكا شعبيا أردنيا قادر على إحداث اختراق حقيقي في المعادلة إذا تم توجيهه في الاتجاه الصحيح، أن المسيرات والمظاهرات والاعتصامات المحدودة والملتزمة بسقف النظام على فضلها ولكنها ذات أثر محدود أو ليس لها أي أثر يذكر، وأي حراك باتجاه السفارة الإسرائيلية أو الفرنسية أو حتى الحدود فإن الدولة الأردنية قادرة على احتوائه وربما منعه.
حتى نكون واضحين وعمليين، لا يستطيع أي طرف في الأردن تحمل تبعات
الدعوة لهذا الحراك، ولكن المطلوب من القوى الحية والنخب السياسية والمثقفين
والمؤثرين توجيه العقل الجمعي الأردني وغرس هذه الفكرة في عقول الأردنيين والتوعية
بها: أن إسرائيل واهنة ضعيفة لولا الدعم والإسناد الأمريكي، وأنه يجب إجبار
أمريكا على سحب دعمها لهذا الكيان أو على الأقل أن تعيد حساباتها في المنطقة لتكون أكثر توازنا وهذا لا يتم بلا ضغط شعبي يهدد المصالح والوجود الأمريكي في المنطقة
والأردن بشكل خاص.
كلنا شاهد كيف تحرك الشارع بشكل عفوي وزخم واسع نحو السفارة
الإسرائيلية ليلة قصف المستشفى المعمداني، لأن الوعي الجمعي الأردني يرى في
إسرائيل العدو المباشر على مدى عقود ماضية، وما يجب أن يحدث اليوم هو تحول نوعي
وتحويل الزخم في توعية الجماهير بخطر المشروع الأمريكي والذي تتمثل رمزيته في
الأردن بالسفارة الأمريكية. هذا التحول النوعي في الوعي والخطاب سوف يثمر على
المدى القريب حراكا شعبيا عفويا وزخما واسعا ومتواصلا يفضي إلى تحقيق هذا الهدف، وحتى من
ناحية إمكانية تحقيق ذلك فإذا ما قارناها بالوصول إلى الحدود فإن الوصول إلى
السفارة الأمريكية أسهل بكثير لتعدد الطرق ووجودها في قلب عمان، وهذا النوع من
التحرك الجماهيري العفوي لن تستطيع أن تقف في وجهه قوات مكافحة الشغب والتي
بالتأكيد لديها تعليمات بمنع أي حراك من هذا الشكل ولو بالقوة ولكن التجربة
الأردنية تؤكد على أن الأمن الأردني إن كان بين خيار الإيذاء المفضي للقتل أو
التخلية بين الجماهير وما تريد فإنه سوف يترك الجماهير وما تريد.
هنالك نقطة مهمة يجب التأكيد عليها، أن استقرار الأردن بلا شك من
استقرار النظام فيه، وبلا شك أن إغلاق السفارة الأمريكية هو مصلحة شعبية ورسمية
على حد سواء، فهو لن يساهم في إعادة رسم سياسة أمريكا نحو القضية الفلسطينية بشكل
عام وإسناد غزة ووقف الحرب بشكل خاص، وإنما يعطي الأردن قوة أكبر وانعتاقا من
التبعية للجانب الأمريكي تساهم في إفشال المخطط الأمريكي الصهيوني في توطين
اللاجئين وإنهاء القضية الفلسطينية.