في مايو الماضي، أحيا الاتراك الذكرى الـ13 للعدوان الإسرائيلي على
سفينة "ماوي مرمرة" التركيّة، وهي واحدة من سفن المساعدات الإنسانية ضمن
أسطول بحري أكبر قرّر التوجه من
تركيا إلى غزّة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض
عليها. إسرائيل اعترضت السفينة في 31 مايو/ أيار عام 2010، وشنّت قوات تابعة لسلاح
البحرية الخاص بها هجوماً أودى بحياة 10 أتراك وأدّى الى إصابة 56 آخرين. وقبلها
بحوالي عام، اشتبكت تركيا دبلوماسياً مع إسرائيل على خلفية العدوان على غزّة، وكان
للموقف التركي وقعه ليس على مستوى العلاقة بين الطرفين فحسب وإنما على العلاقة مع
الولايات المتّحدة أيضاً، وموقع ودور عدد من اللاعبين الإقليميين الرئيسيين.
لكن تركيا آنذاك تختلف عن تركيا اليوم في عدد من المعطيات، كما أنّ
توقّعات العامّة مرتفعة أكثر من اللزوم وغير واقعية في كثير من الأحيان ولعل هذا
مرّر في جزء منه إلى تصوّراتهم الخاصة عن تركيا أكثر مما هو عائد إلى
موقف الجانب
التركي أو تصوّرات تركيا عن نفسها. آنذاك، كانت علاقة تركيا مع جميع اللاعبين
الرئيسين قويّة، وكانت أنقرة تلعب دور الوسيط في أكثر من ملف حسّاس، وكان وضعها
الاقتصادي والداخلي وسياساتها الخارجية في أوجها، ممّا أمّن لها تواجداً قوياً في
الملفات الأساسية وأوراق ضغط لا يستهان بها.
اليوم، يبدو الوضع مختلفاً تماماً، تركيا لا تمتلك نفس الموقع القوي
دبلوماسيا، ووضعها الداخلي صعب، وليس لديها علاقات قوّية مع أي من طرفي النزاع،
وليس لديها نفوذ على أي منهما. وإذا ما أضفنا ذلك إلى حقيقة أنّها ليست على تماس
جغرافي مع النزاع وليس لديها ـ حتى الآن ـ ما يخوّلها أن تكون على تماس جغرافي أو
موضوعي مع القضية، فهذا يعني ببساطة من الناحية الواقعية أنّها تفتقد الى الأوراق
والأدوات التي تخوّلها أن تكون منخرطة في الملف بقوّة.
وفضلاً عن ذلك، فإن هناك جملة من المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية
التي توحي بأنّ هناك قيوداً على أي دور تركي فعّال في الملف
الفلسطيني، وأنّ ما
يمكن أن تفعله أنقرة محدود جداً. على المستوى الداخلي، فإن البلد مُتعب ومستنزف
سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. صحيح أنّ أردوغان وحزب العدالة انتصرا في
الانتخابات الأخيرة بعد معركة ضارية مع الداخل والخارج، لكّنه كان نصراً مكلفاً
جداً.
لا شك أنّ الدعم الشعبي التركي غير مسبوق ليس على المستوى المحلي فحسب، وإنما على المستوى الإسلامي والدولي أيضاً كما رأينا في التظاهرات الحاشدة، ولا شك أنّ الدبلوماسية التركية لم تدّخر جهداً في سبيل التحشيد الرسمي والإعلامي والدولي، لكن هذا لا يرتقي إلى هول العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، وهو ما يشير إلى أنّ الخيارات تبدو محدود للغاية.
ترافق ذلك مع حالة وهن وإرهاق داخلي بعد الزلزال العظيم والمدمّر
الذي ضرب البلاد، وموجة غير مسبوقة من العنصريّة المدفوعة بأجندة سياسية من
المعارضة. قوّضت هذه الموجة صورة البلاد وسمعتها وإستقرارها ونفوذها. المعارضة
المهزومة لا تزال توظّف عدداً من المواضيع في السجال الداخلي لتقويض الحكم من
بينها "ملف الإخوان المسلمين"، و"حماس" وهذا يشكّل عامل إلهاء
أو تشتيت في أفضل الأحوال.
لا شك أنّ الدعم الشعبي التركي غير مسبوق ليس على المستوى المحلي
فحسب، وإنما على المستوى الإسلامي والدولي أيضاً كما رأينا في التظاهرات الحاشدة،
ولا شك أنّ الدبلوماسية التركية لم تدّخر جهداً في سبيل التحشيد الرسمي والإعلامي
والدولي، لكن هذا لا يرتقي إلى هول العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، وهو ما
يشير إلى أنّ الخيارات تبدو محدود للغاية.
على الصعيد الإقليمي، رفع سقف الخطاب التركي أو التحرّكي التركي إزاء
القضية الفلسطينية بشكل يتجاوز موقف بعض الدول العربية من الممكن أن يُسبّب مشكلة
لجهود السنوات الثلاث الأخيرة في التطبيع مع الدول العربية، لكن لا يبدو أنّ هذه
هي المشكلة الوحيدة. قيام تركيا بدور ريادي أو قيادي في القضية الفلسطينية –إذا ما افترضنا أنّها تجاوزت القيود الداخلية- من شأنّه أن يُسبّب ردّة فعل عند عدد من
الدول العربية، وربما سيكون في طليعة المعترضين على الدور التركي كل من مصر
والسعودية. هذا يعني أنّ أنقرة ستتسبّب لنفسها وللقضية الفلسطينية بمشاكل دون أن
يكون هناك عائد حقيقي، نظراً لافتقادها الأوراق التي تخوّلها للعب دور فعّال في
القضية.
على المستوى الدولي، لا يوجد أحد يريد للأتراك أن يكونوا عنصراً
فاعلاً في المعادلة، لا الأمريكيون يريدون ذلك، ولا الأوروبيون، ولا الإسرائيليون
بطبيعة الحال. وفي هذا الوضع، ما لم تكن
موجوداً من خلال قوتك الصلبة في الملف أو على تماس مع الفاعلين الأساسيين فيه، فمن
الصعب جداً إن لم يكن مستحيلاً أن تحضر رغماً عن إرادة الراعين لأطراف النزاع أو
المنخرطين فيه، إلاّ إذا كنت مستعداً للتصعيد ضدهم، ولا أعتقد أنّ الجانب التركي
في موقف التصعيد ضد كل هؤلاء اللاعبين بقدر ما هو في موقع توضيب وضعه الداخلي
وإعادة ترتيب أوراقه.
هناك من يشير إلى أنّه إذا كان الوضع كذلك، فلماذا عادت الحكومة
التركية إلى التصعيد الكلامي ضد إسرائيل؟ ولماذا لا تترجم هذا التصعيد إلى خطوات
عملية؟ والحقيقة أنّ التصعيد ارتبط بقرار إسرائيل الدخول برّياً إلى غزّة، وربما
كان الجانب التركي يأمل في تحقيق وقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية حتى
يتسنى له لعب دور ما في مجال الوساطة، لكن قرار إسرائيل تصعيد المجازر التي
ترتكبها مصحوباً بقرار الدخول البرّي لم يترك للحكومة التركية أي مجال لاحتواء
أزمة دبلوماسية.
ماذا باستطاعة الجانب التركي أن يفعل في ظل هذه الظروف؟ اذا لم يحصل
أي تغيير جوهري على أي من المستويات الثلاثة السابقة الذكر، فسيكون من الصعب توقّع
الكثير في ما يتعلق بالموقف التركي. ومع ذلك، فإنه يبقى هناك أمل لدى البعض بأنّ يتم
التحرك خارج إطار الممكن نظراً لهول الكارثة.