يتقاسم القطبان الأمريكي والصيني العالم كلاهما حلف مركب من تابع
ومتبوع ومن ثم فكلاهما يسعى لاختراق توابع الثاني بتشكيكهم في نواياه إزاءهم. وأفضل
طريقة هي لعبة الصفقات بين المتبوعين: والأدهى في عملية التخادع بينهما هو الذي
يربح الرهان. وإذن فالهدف من هذا المقال بين دهاءين استراتيجيين: صيني أمريكي ولكن
في ضوء طوفان الأقصى.
فرضيتي هي أن الدهاء الاستراتيجي في رسم السياسات يعتمد على مبدأين:
1 ـ الأول هو العلم بطبيعة التبعية التي تحكم القطب لأن كل قطب حلف
بين عدة انظمة كل منها له طموح ليس بالضرورة مطلق التبعية لهدف رئيس القطب.
2 ـ الثاني هو الاعتماد على المفاضلة بين النتيجة القريبة والنتيجة
البعيدة وهذا المبدأ الثاني أهم من الاول لأنه هو الذي يحدد مدى صلابة الاحلاف
عامة.
ذلك أن التخادع عملية تعتمد على تحديد تقدير لقوة الخصم ولنقاط ضعفه
ولمراحل تحقيق الاستفادة منهما في التأثير البطيء الذي يقدر زمانه بالفارق بين
القطبين في القوة الفعلية.
رهان أمريكا الأساسي من حماية إسرائيل علته الاعتماد على المحافظة على استتباع الأمة، لكونه أهم شروط الغلبة على الصين بالفصل بينها وبين حليفيها أي روسيا والعالم الذي يعاني من الاستعمار الغربي وإفساد البريكس حتى لو خسرت تركيا لأن ضم روسيا إلى حلف أمريكا وإتمام محاصرة الصين بالهند وطريقها الذي يقتضي سيطرة إسرائيل على الإقليم.
وهذا التقدير يعتمد على طبيعة علاقة القطببين المتنافعين مع توابعهما
أولا وفي التوجه الذي يحكم منحنى قوتهما وضعفهما الذاتيين صعودا وهبوطا في مجال التنافس.
وما سأحاول الكلام عنه في هذا المقال عن لقاء سان فرنسيسكو الذي تم
بين الرئيس
الصيني والرئيس الأمريكي هو ما يعنينا منه عامة وخاصة بعد ما حصل ويحصل
في طوفان الأقصى ومصير إسرائيل في الإقليم.
ورغم أن هذا اللقاء قد تم الإعداد له منذ أمد طويل وخاصة منذ محاولات
أمريكا تحييد الصين في حرب أوكرانيا خلال مع محاولات محاصرتها في المحيطين الهادي
والهندي فإن طبيعة ما جرى الكلام فيه لم يقتصر على ذلك، بل إن العامل الذي غير
طبيعته ذو صلة متينة بما حصل بسبب طوفان الأقصى لأن لمنزلة إسرائيل في الأقليم دور
رئيس في خطط القطبين وحلفي كل منهما متبوعا بتوابعه.
ولهذه العلة فإني أعتبر ما تخوفت منه من خطر على الأمة قد بدأت
الدلائل عليه تتجلى لأن رهان أمريكا الأساسي من حماية إسرائيل علته الاعتماد
على المحافظة على استتباع الأمة، لكونه
أهم شروط الغلبة على الصين بالفصل بينها وبين حليفيها أي روسيا والعالم الذي يعاني
من الاستعمار الغربي وإفساد البريكس حتى لو خسرت تركيا لأن ضم روسيا إلى حلف أمريكا
وإتمام محاصرة الصين بالهند وطريقها الذي يقتضي سيطرة إسرائيل على الإقليم.
وهي بذلك تربح روسيا التي كما بينت أمنيتها الأهم هي الانضمام إلى
الغرب لأنها لا يمكن أن تقبل بأن تصبح تابعة للصين التي كانت متبوعة لها ولا تخسر
الهند المنافس الندي للصين. فترضي بذلك طموح بوتين تمكنه من شرط استعادة ما خسرته
روسيا القيصرية وترضي أنفة الهند بأن تجعله يرى البديل من روسيا والخصم اللدود
للصين.
وهذا الرهان الأمريكي يقابله الرهان الصيني: فهي تعلم أن خسرانها
لروسيا لن يفقدها القدرة على تنفيذ طريقها للغرب لأنهما يمران بمن لا يمكن لهم أن
يثقوا في الغرب أبدا أي ضحاياه في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بل وحتى أوروبا
وكل من ظنت أمريكا أنها قد جندتهم لمحاصرة الصين في المحيط الهادي والهندي .
فكل هذه الدول لن تقبل بأن يكون الدهاء الأمريكي وسيلة لجعلها توابع
وضحايا لرهان أمريكا في خداعها للصين.
وطبعا فالرهان كله شرطه المحافظة على نجاح الشرطين التاليين:
1 ـ فلا يمكن تمرير الطريق الهندية الإسرائيلية من دون ضمان التبعية
الخليجية، وهو ما يبدو لي قد أصبح في خبر كان بعد طوفان الأقصى: فقد يخضع الحكام
في الخليج لكن الشعوب لن تقبل: وتلك علة الحاجة إلى التاريخ المديد أي إلى ما
سيجعل الشعوب تحول دون ذلك.
2 ـ ولا يمكن ضم روسيا إلى أوروبا من دون شرطين مستحيلين مباشرة ومن ثم
فلا بد كذلك من التاريخ المديد المتمثل في تمكين روسيا من تركيا وتمكين أوروبا مما
يغنيها عما تتوهمه أمريكا حاصلا أي تبعية توابعها في إفريقيا وآسيا وخاصة ما تصورت
نفسها قد ضمنته في محاصرة الصين في المحيط الهادي.
ولست غافلا عن أمر لا يمكن أن تكون أمريكا غافلة عنه: الحاجة إلى
التاريخ المديد لتحقيق هذه الشروط. فيكون الرهان كله هو: هل هذه الخطة تمكن أمريكا
من تدارك نقاط ضعفها في مقاومة صعود الصين؟ وهل قبول الصين بما حصل في سان
فرنسيسكو يمكنها من إفشال الرهان الأمريكي بالمشاركة في تحرير إفريقيا وآسيا
وأمريكا اللاتينية من الضعف الحالي حتى تتحرر مما يحاصرها في المحيط الهادي وتفسد
على أمريكا حلفها معهم ومع أوروبا والهند الذي لن ينال قيادة الطريق البديل من
طريقي الصين بالحلف مع إسرائيل؟
فهذه يمكن أن تكون قد زالت أو على الأقل فقدت القوة على إنجاز الشروط
التي تمكن من تمرير الطريق البديل من طريق الحرير الصينية. فلا بد لها من تحقيق
التبعية العربية وتعجيز تركيا وباكستان وكل من يحيط بروسيا من أتراك القوقاز وبقية
الأفارقة والآسيويين وأمريكا اللاتينية.
فالدهاء البريطاني الذي يمكن أن يكون وراء هذه الخطة ويمكن أن يكون
قد تعزز بالدهاء الهندي. فالمعلوم أن خطة بريطانيا سابقة على مشروع الطريق الهندية
الإسرائيلية لعزل الصين ولعلها موجودة قبل ذلك لكنها سابقة عن الإعلان عنها. وهو
مشروع يقتضي فصل روسيا عن الصين بطعم يكون حتما على حساب تركيا.
ذلك أن بوتين لا يمكن أن يصبح قيصرا روسيا قبل أن يثبت أنه استرد
زعامة الأرتودوكسية باستعادة رمزها أي القسطنطينية وشرط ذلك إخراج تركيا من أوروبا
وهو ما يزيده وهجا لأن أوروبا ـ كما قال هيغل في فلسفة التاريخ ـ لم يبق فيها
للإسلام وجود إلا بسبب التنافس بين دولهم: قال ذلك بعد هزيمة تركيا في المحافظة
على اليونان.
وهم قد حققوا هزيمة تركيا بحيلتين أولاهما وضعها لايبنتس وحققها
نابليون: غزو مصر الذي تلاه تنصيب نظام محمد علي لإتمام إضعاف الخلافة العثمانية
والثانية وضعتها بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية وهي سايكس بيكو وإتمام
استراتيجية المستوطنات التي اقترحها سبينوزا في كلامه على شروط استرداد اليهود (كتابه الذي ترجمه المرحوم حسن
حنفي).
أعلم أن أدعياء التفلسف من الذين تسكرهم زبيبة أو من ذوي المشروعات
التي تستهدف الشهرة والنجومية بادعاء الحداثة وما بعدها وكثرة الكلام عن الأخلاق
والنقد يتصورون الفلسفة هذيان مفهومات وشطحات صوفية وليس جهاد إرادة حرة باجتهاد
حكمة راجحة: والحكمة الراجحة هي التي تكون أداة لغاية هي الإرادة الحرة.
ما يجري بين القطبين تبين أن جوهره هو معركة خراجها هو السيطرة على دار الإسلام شرطا في السيطرة على العالم. ولولا ذلك لما انشغلت بالأمر، ذلك أن ما يفصل بين القطبين تابعا ومتبوعا في الحالتين هو دار الإسلام: فهي قلب العالم الذي يتضمن كل شروط القوة الممكنة من السيطرة العالمية
ولا توجد إرادة حرة من أدوات تحميها بدارا وجهارا حتى لا يصبح الوجود
عارا كالحال في فكر يبيع "الفريب" (الجاهز الملبوس من الثياب) إشهارا
وأفكارا يتميز بهما لكونه حمارا ما دام لم يفهم سقراط ولا يبنتس وسبينوزا وخاصة
الرسول الخاتم في فهم حقيقة العلاقة بين الفكرين الفلسفي والديني: الأنفال 60.
وختاما فإن ما يجري بين القطبين تبين أن جوهره هو معركة خراجها هو
السيطرة على دار الإسلام شرطا في السيطرة على العالم. ولولا ذلك لما انشغلت بالأمر،
ذلك أن ما يفصل بين القطبين تابعا ومتبوعا في الحالتين هو دار الإسلام: فهي قلب
العالم الذي يتضمن كل شروط القوة الممكنة من السيطرة العالمية: غباب هذا المعنى هو
الذي يترتب عليه بقاء المرضين اللذين قضيا على قوة الأمة خلال عصر الانحطاط وقد يمتد ذلك إلى منع
الاستئناف:
1 ـ الأول هو تفتيت جغرافية دار الإسلام
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في مستواها الرمزي الذي كان يحمي شروط الاستئناف
بالتخلي عن وحدة الكيان الإسلامي: سايكس بيكو الذي يراد تثبيته بل والمزيد منه.
2 ـ الثاني هو ما ترتب عليه التفتيت
الجغرافي من تشتيت تاريخي: لأن كل المحميات التي نتجت عن سايكس بيكو لم تعد تؤمن بوحدة التاريخ الإسلامي وهو ما عجز
دونه الاستعمار قبل ذلك.
ولهذه العلة جعلت الغنيمة الممكنة لمن ينتصر في التنافس بين القطبين
هي دار الإسلام وهي صلة المسألة بحدث طوفان الأقصى: أمريكا والصين كلاهما تبينت
خططهما في المواقف من هذا الحدث والدور الذي يسعيان إليه.
لولا ذلك لما تصرف الغرب هذا التصرف لأن إسرائيل قادرة من دونهم على
النصر على حركة صغيرة بسبب سيطرتها على كل ما يحيط بها من الأنظمة العميلة كما
تبين الطريق البديل من طريق الصين: الهند إسرائيل
أوروبا..
تصرفه يعني أنه يريد إنقاذ سلطانه في الإقليم خوفا من أن يسيطر عليه
القطب الشرقي ممثلا بالصين وروسيا. لذلك فتركيزه سيكون محاولة الفصل بينهما وإذن
فالخطر المحدق بالأمة هو ضم روسيا إلى القطب الغربي.