لم يحدث أن شهدت أوروبا منذ عقود
انقساما حادا في المواقف السياسية تجاه القضية
الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي
مثلما حدث مع
الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع
غزة.
السبب في ذلك عملية "طوفان
الأقصى" الفريدة من نوعها من جهة والحرب الإسرائيلية على غزة ـ الفريدة من
نوعها أيضا ـ ضمن سياق الحروب على القطاع من جهة أخرى.
غير أن ما يلفت الانتباه هذه المرة حدة
المواقف الأوروبية وتعبيراتها الخطابية، سواء المؤيدة أم المناهضة لإسرائيل، ففي
حين برزت إسبانيا عرابة المناهضين للحرب الإسرائيلية إضافة إلى ايرلندا وبلجيكا
ولوكسمبورج والنرويج، برز
موقف ألماني فج ملفت للانتباه في تأييده لإسرائيل دون
مراعاة حقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما يهتم به هذا المقال.
الموقف الألماني
بعد يومين من عملية "طوفان
الأقصى" أصدرت ألمانيا مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا بيانا
مشتركا أكدت فيه تضامنها مع إسرائيل.
وبعد عشرة أيام على عملية "طوفان
الأقصى"، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز من تل أبيب أن أمن إسرائيل
مصلحة وطنية عليا لبرلين.
ترجم هذا التصريح عمليا بتصدير ألمانية
أسلحة ومعدات عسكرية إلى إسرائيل، فضلا عن السماح لإسرائيل باستخدام مسيرتين
حربيتين تصنعهما إسرائيل، كانتا تحت تصرف ألمانيا في الهجوم على قطاع غزة، في وقت
علقت ألمانيا المساعدات للأراضي الفلسطينية، وربطت استئنافها بما سماه المستشار
الألماني تحقيق السلام لـ "الدولة الإسرائيلية".
ترجم الموقف الألماني الرسمي ليس
بانحياز حاد لائتلاف الحكومة الألمانية بمختلف أحزابها ـ باستثناء أحزاب اليسار ـ
في دعم إسرائيل فحسب، بل بتشديد الخناق على أي تصريح أو خطوة عملية من شأنها دعم
الفلسطينيين، بحيث أصبحت ألمانيا مساعدة كاملة لدعم إسرائيل.
تفسير الموقف الألماني
ثمة سبعة أسباب تتفاوت في شدتها
وتأثيرها تفسر الموقف الألماني الحاد في دعم إسرائيل:
أولا، عقدة الهولوكوست: نشأت هذه
العقدة من مفهوم الفرادة، وهو مفهوم توصل إليه كثير من الباحثين الغربيين مفاده أن
الهولوكوست حدث تاريخي متفرد، لم يحدث مثله في التاريخ.
ولما كانت له هذه الصفة، فإن معاناة
الشعب اليهودي تختلف كثيرا عن معاناة أي شعب آخر، بما فيه الشعب الفلسطيني، بمعنى
أن حقوق الفلسطينيين في تقرير المصير لا ترقى أبدا إلى حقوق الشعب الإسرائيلي في
الأمن والأمان، مع ما يتطلبه ذلك من نفي لحقوق الآخرين.. إن فرادة الهولوكوست
كظاهرة تاريخية تتطلب مواقف فريدة من نوعها.
ثانيا، الارتباط العميق بين الاستعمار
والصهيونية: في سعيها إلى بناء الدولة القومية الأوروبية، عملت النازية على تصفية
القارة من اليهود عبر مسارين، الأولى التصفية الجسدية والثاني دعم الهجرة إلى
فلسطين، وهذا ما يفسر الدعم الألماني المطلق بعد الحرب العالمية الثانية للكيان
الإسرائيلي باعتباره كيانا استعماريا، وما يفسر التعاون الوثيق في مرحلة ما قبل
الحرب العالمية الثانية بين ألمانيا والمنظمات الصهيونية في دعم الهجرة
إلى فلسطين.
ثالثا، المنبت البروتستانتي للصهيونية:
نشأت الصهيونية المسيحية من المذهب البروتستانتي بداية القرن الـ 16 في ألمانيا مع
الإصلاح الديني بزعامة مارتن لوثر، خصوصا فيما يتعلق باعتقاد الكنيسة اللوثرية ـ
البروتستانتية الجديدة بأن قيام دولة إسرائيل مسألة دينية، باعتبارها تجسيدا
لنبوءات الكتاب المقدس، وتشكل المقدمة لمجيء المسيح المخلص إلى الأرض.
ومنذ ذاك التاريخ، وبخلاف الكنيسة
الكاثوليكية، أكدت الكنيسة البروتستانتية أنه لم يعد بالإمكان فهم العهد الجديد
(الإنجيل) دون العودة للعهد القديم (التوراة والكتب المقدسة الأخرى عند اليهود)،
وقد كتب مارتن لوثر كتابا بعنوان "المسيح ولد يهوديا" أكد فيه أن
المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد.
ويرى المؤرخ اليهودي وأستاذ التاريخ
بجامعة مونتيريال يعقوب رابكن أن اليهود جاؤوا إلى الصهيونية بعد المسيحيين بمدة
طويلة.
تشكل العوامل الثلاثة السابقة الأساس
الهوياتي ـ الثقافي للدعم الألماني لإسرائيل، أما العوامل الأخرى فهي عوامل مؤقتة
مساعدة.
رابعا، تزايد قوة اللوبي الصهيوني في
ألمانيا: شهد اللوبي الصهيوني خلال العقود الثلاثة الماضية توسعا في نفوذه داخل
الساحة الألمانية، خصوصا في المجتمع المدني، حيث أصبح لديه نفوذا قويا في وسائل
الإعلام والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية.
خامسا، الحكومة الألمانية الحالية: وهي
حكومة ائتلافية (الحزب الاشتراكي الديمقراطي، حزب الخضر، الديمقراطي الحر) تعلن
دعمها لإسرائيل.
سادسا، التقارب الألماني ـ الأمريكي
مؤخرا بسبب طبيعة الحكومة الألمانية الحالية، وبسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.
سابعا، الضعف العربي ـ الإسلامي على
الصعيد الدولي، ما يجعل انعدام وجود أي تكلفة اقتصادية وسياسية تترتب على دعم
إسرائيل.