الكتاب: "أثر الحروب الصّليبية على العلاقات السنية الشّيعية"
الكاتب: محمد بن مختار الشنقيطي
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 بيروت، 2016
عدد الصفحات: 290
1 ـ تشتت المسلمين وتناحرهم عند قيام
الحروب الصليبية
كانت الإمارات الإسلامية الناشئة تعيش حالة من الاقتتال فيما بينها،
عند قيام الحروب الصليبية حال دون تحالفها لصدّ التحالف المسيحي. فيؤثر عن المؤرخ
المعاصر للحروب الصليبية عز الدين بن الأثير في أثره الكامل قوله "واتفق لهم
اشتغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال بعضهم بعضا، فتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء،
واختلفت الأهواء، وتمزقت الأحوال" فيرد انتصارات الصليبيين إلى هذه الحروب.
فكتب "واختلف السلاطين على ما نذكره، فتمكن الفرنج من البلاد".
مقابل هذا التحلّل في صفوف المسلمين، أشاد المؤرخون بوحدة الصف
المسيحي. فكتب المؤرخ الصليبي فولشر الشارتري الذي رافق الحملة الصليبية الأولى عن
وحدة المقاتلين الصليبيين بافتخار: "رغم أننا كنا مختلفي الألسنة، فإننا كنا
متحدين في محبة الرّب، وكنا نفكر وكأننا عقل واحد" وهذا ما شاركه فيه ابن
القلانسي ـ المؤرخ الدمشقي عندما اعتبر صداما حدث بينهم استثناءً. فذكر "وردت
الأخبار من ناحية الإفرنج بوقوع الخلف بينهم من غير عادة جارية لهم بذلك، ونشبت
المحاربة بينهم، وقتل منهم جماعة". فكانت نبرة الأسف العميق بادية في قوله.
وكانت العبارة تتضمّن مقارنة ضمنية مع ما آل إليه أمر معاصريه من المسلمين من شقاق
وغدر والتواطؤ مع العدو. وما ورد هنا تلميحا ذكره ابن العديم تصريحا. فكتب عن عجز
القادة المسلمين عن توحيد جهودهم ضد الصليبيين: "ومن العجائب أن يخطب الملوك
لحلب، فلا يوجد من يرغب فيها. ولا يمكنه ذب الفرنج عنها، وكان السبب في ذلك أن
المقدمين (أي القادة) كانوا يريدون بقاء الفرنج، ليثبت عليهم ما هم فيه من السلطة
والثروة".
يعرض الكتاب أثر الحروب الصّليبية على العلاقات السنية الشّيعية
للباحث محمد بن مختار الشنقيطي، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه، الصدام بين السنة
والشيعة في ظل هذه الحروب، ويشير إلى وجوه أخرى من التقاتل انخرطت فيه الجماعات
المسيحية العربية. فيقصيها من بحثه، لتركيزه على وجوه التفاعل بين المذهبين
الإسلاميين الكبيرين حصرا ، أثناء هذه الحروب.
2 ـ الصدام السّني الشيعي شرخ يتعمق
باستمرار في الجسد الإسلامي
من عوامل التشتت العربي الإسلامي أثناء الحروب الصليبية أسباب غير
مباشرة يردّها الباحث إلى الشرخ المبكر حول موضوع الشرعية السياسية. فقد حدث
انشقاق سياسي داخل الجماعة المسلمة الأولى في اليوم ذاته الذي توفي فيه النبي.
ومثّل في جوهره أزمة دستورية، بدت هينة في سقيفة بني ساعدة وتعمّقت أكثر في الفتنة
الكبرى. ولكنها ستتحوّل في القرون اللاحقة إلى انشطار اعتقادي سيجعل المسلمين
عاجزين عن الخروج منه حتى اليوم. وسينزع الحجاج السني إلى اعتبار التشيع مرادفاً
للإسلام، وتقديم الشّيعي في ثوب المبتدع الخارج عن روح الإسلام الأصلي.
ومثله سيفعل الحجاج الشيعي. ويجعل الباحث من العصر العباسي بداية
لظهور هذا الشرخ في مستواه العقائدي، وهو الأخطر في تقديره. فقد كان الشيعة
والعثمانية مجرد موقفين من قضية الإمامة، لا انشطاراً شاملاً في صف المؤمنين. ثم
تحول
المسلمون بعدها من الإيمان المفتوح، الذي يمثّل اختيارا شخصيا للمرء دون
اختبار من الآخرين، إلى عقيدة مغلقة تفرض تفسيرا ضيقا للإيمان، فتعمل سلطة سياسية
واجتماعية ما على حمايته دون غيره من التفسيرات.
ضمن هذا السياق صاغ الشيعة مفهومهم للإمامة. فعبروا بها من وجهة
النظر السياسية إلى القضية الإيمانية الأصولية. فوسعوا مفهوم العصمة عن الكبائر
والصغائر الذي نسبه السّنة للرسول ليشمل الأئمة وجوبا. فجمعهم القول بوجوب التعيين
والتنصيص على الأئمة. ثم بالغ بعضهم في تصوير هذه العصمة حتى رفعهم فوق مصاف
البشر، ومنحوهم ولاية مطلقة، وجعلوهم نواب الله في أرضه، المختصين بفهم كلماته.
و"قالوا بالولاية التكوينية التفويضية التي تمنح الأئمة القدرة على التصرف في
الخلق والرزق، وما إلى ذلك من خصوصية الخالق".
3 ـ السنة والشيعة في مواجهة الحروب
الصليبية.. من الصّدام إلى التحالف
يستعرض الباحث جوانب من العلاقات السنية الشيعية أوان الخلافة
العباسية لنتمثّل السياق الذي بدأت فيه الحروب الصليبية. فقد كانت الثورة العباسية
ضد الأمويين منذ البدء حركة تلفيقية، سنية على مستوى اعتقاد قادتها، شيعية على
مستوى القاعدة الاجتماعية. ثم بعد استقرار الحكم لبني العباس اكتسح التشيع المجال
حتى وصف المستشرق الفرنسي ماسينيون القرن الرابع بالقرن الإسماعيلي ويستدرك الباحث
فيصفه بالقرن الشيعي عامّة بالنّظر إلى قيام الدولة الفاطمية الإسماعيلية بالقاهرة
والسلطنة البويهية في بغداد والإمارة الحمدانية في حلب مؤكدا أنه كان في وسع
البويهيين القضاء على مؤسسة الخلافة السنية في بغداد ولكنهم حافظوا عليها لأسباب
موضوعية منها أنها تمثل رمزاً لوحدة الأمة، ومنها أن البويهيين كانوا يخشون حدوث
فراغ سياسي يمهد للفاطميين انتزاع بغداد، من سلطتهم.
ضمن هذا السياق ظهرت الحملات الصليبية. فعمّقت الفجوة بين المذهبين
ولكن مجريات الغزوات المتلاحقة جعلتهم يدركون في النهاية، حاجتهم إلى التوحد
سياسياً وعسكرياً، و"إلى القتال في خندق واحد كأبناء أمة واحدة" يقول
الباحث.
ما يشد الانتباه في مادة هذا الكتاب التشابه الكبير بين واقع المسلمين عشية قيام الحملات الصليبية وواقعهم اليوم الذي لا يعدو أن يكون، وفق رأيي الخاص، غير امتداد للحروب الصليبية، شأن محنة القدس وقطاع هام من الشّام والتباينات القُطرية التي عوّضت العصبية القبلية وحدّة الاختلاف العقائدي السني الشيعي مقابل وحدة القوى المسيحية أولا وخوض الحرب تحت راية الدين لإخفاء استهداف مدّخرات الشرق أساسا.
يردّ محمد بن مختار الشنقيطي روح الوحدة بين الطائفتين إلى سبب
اعتقادي، ذلك أنّ رواد الإحياء السني، من أمثال الوزير نظام الملك والعلامة أبي
حامد الغزالي كانوا يرون في الإمامية صيغة من التشيع يمكن التعايش معها، اعتقادياً
وسياسيا، وإلى سبب آخر موضوعي. فقد كان من الأجدى لإمامية بلاد الشام أن يطلبوا
دعم الدولة السلجوقية السنية الصاعدة، من أن يطلبوه من الدولة الفاطمية الآفلة.
أضف إلى ذلك أنّ المراكز الحضرية التي يحكمها السنة كانت أقرب إليهم
جغرافياً. ورغم أنّ أمراء بني عمار الإماميين في طرابلس قد حاولوا أن يحافظوا على
شيء من التوازن يحفظ لهم الاستقرار في ظل التنافس بين فاطميي مصر وسلاجقة الشام والعراق، فإن حصار
الصليبيين لعاصمتهم طرابلس أثناء هذه الحروب رغم تواطؤ أميرها ابن عمّار معهم في
البداية، حسم الأمر لفائدة طلب حماية القادة السنيين. فاستنجد بالأمير التركي
سقمان القطبي، صاحب قلعة كيفا الذي أزاحه الفاطميون من إمارته. ولكنه توفي وهو في
طريقه لنجدة طرابلس فحمل جنده جثمانه، وعادوا به إلى القلعة.
أمّا الشيعة الإسماعيلية فقد كان تعاونهم مع السنة "قبولا بما
ليس منه بدّ". فعلى خلاف التشيع الإمامي في بلاد الشام الذي لم يطرح نفسه
منافساً سياسياً جدياً للخلافة العباسية، أو للأمراء الأتراك السنة في بلاد الشام،
كانوا يطرحون أنفسهم البديل الشرعي للخلافة السنية المغتصبة لحق ليس لها.
ولتفصيل الأمر بنى فصلا بأسره على التوسع في وصف المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه للفاطميين بأنهم بيزنطيو الإسلام.
فقد كان الفاطميون الشيعة يرفضون الخضوع للخلافة العباسية السنية، ويرون أنفسهم
الورثة الشرعيين لرسالة الإسلام ولسلطة النبي محمد كما كان البيزنطيون الأورثوذوكس
يرفضون الخضوع لسلطة بابا روما، ويرون أنفسهم الورثة الشرعيين للإمبراطورية
الرومانية وللعقيدة المسيحية. ولكن المد الإسماعيلي انتهى إلى الانحسار السياسي
والفكري، بعد أن هيمن على العالم الإسلامي خلال القرن الرابع الهجري والعاشر
الميلادي، فغدت الدولة الفاطمية تحتضر، وباتت الجاذبية الأيديولوجية للمذهب
الإسماعيلي تتلاشى.
فأثر هذا التراجع العام للفكرة الإسماعيلية في الموقف الإسماعيلي من
أهل السنة ومن الصليبيين. فتحوّل تنافسهم مع أهل السنة على حكم العالم الإسلامي،
إلى قبول بالخضوع للقوى السنية الصاعدة. وكان الفاطميون كالبيزنطيين تماما،
"عاجزين عن الدفاع عن عقيدتهم وحدود إمبراطوريتهم، ومضطرين إلى الاعتماد على
خصومهم من أهل ملتهم السنة بالنسبة للفاطميين والفرنجة الكاثوليك بالنسبة
للبيزنطيين الأورثوذوكس لأداء هذه المهمة الحيوية، التي لا بقاء للدولة من دونها.
بيد أن هذا الوهن العسكري كان مصحوباً بحس التفوق الثقافي لدى كل من الفاطميين
والبيزنطيين على خصومهم من أهل ملتهم".
ينتهي الباحث إلى أنّ الحروب الصليبية التي عمّقت الشقاق السني
الشيعي في البداية قد وحّدهم على المدى البعيد ودفعتهم إلى تشكيل جبهة قوية تمكّنت
من صدّ العدوان الصليبي. ويردّ ذلك إلى أسباب موضوعية آنية أكثر مما يرجعه إلى وعي
عميق للعقل الإسلامي بضرورة الاتحاد في مواجهة التحالف المسيحي. فقد أصبح الشيعة
على حال من الضعف وكان لا بدّ لهم أن يعوّلوا على السنة لإيقاف الخطر الصليبي.
ومقابل هذا الانحسار في الغرب الإسلامي
سيتجه المدّ الشيعي لاحقا شرقا نحو بلاد فارس، رغم أن بوادره ظهرت مع ميلاد الدولة
الصفوية في عام 1051م أي قبل نهاية الحروب الصليبية في العام 1291م.
4 ـ أثر الحروب الصليبية على العلاقات
السنية الشيعية وبعد؟
لقد كلّفت هذه الانشقاقات القادة المسلمين الكبار العاملين على توحيد
صفوف المسلمين بذل الوقت والجهد والمال لقتال مسلمين آخرين، كانوا يحولون دون بناء
جبهة قوية قادرة على رد العدوان الخارجي، فظل عماد الدين زنكي لثماني سنين يقاتل
الأمراء الذين اقتسموا بلاد الشام و بذل صلاح الدين الأيوبي اثنتي عشرة سنة في
محاربة أمراء الشام وغرب العراق، قبل أن يوجّها جهودهما إلى قتال الصليبيين. ويرد
الباحث الانقسام الذي كان عليه المسلمون عندئذ إلى السياق الاجتماعي والثقافي
محاولا أن يقرأ بنية العقل العربي الإسلامي على نحو ما.
الدرس الصليبي يعلّمنا أن الحضارة العربية والإسلامية جميعا كانت مستهدفة من ذلك الغزو وأنّ حماية الأقطار لن يتاح إلا عبر بناء جبهة داخلية قوية ومتضامنة.
فقد كانت العصبيات القبلية، وفق تصوّره، تحول دون فرض البعد الكوني
للأخوة الإيمانية التي هي جوهر رسالة الإسلام. فتبنى في موقفه هذا رأي محمد إقبال القائل بأنّ فتوحات المسلمين الأولى
وانتصاراتهم مثلت خسارة في العمق أدت "إلى تجميد نمو أجنة التنظيم الاقتصادي
والديمقراطي للمجتمع التي أجدها مبثوثة في صفحات القرآن والسنة النبوية"
فالمسلمون وهم ينجحون في بناء إمبراطورية عظيمة، "أعادوا الروح الوثنية إلى
قيمهم السياسية، وأضاعوا بعض الإمكانات العظيمة الكامنة في دينهم". وللبرهنة
على ذلك يستعرض الفتن العسكرية والسياسية التي سبقت جمع السلطة الأموية لشتات
الأمة. وقد ساعدها في ذلك عدم وجود سنة وشيعة بالمعنى الاعتقادي عندئذ، وأكثر من
ذلك، عدم وجود عقيدة إسلامية أصلاً. "فقد كان الإيمان مفتوحا، قائماً على
البساطة وحسن الظّن".
وما يشد الانتباه في مادة هذا الكتاب التشابه الكبير بين واقع
المسلمين عشية قيام الحملات الصليبية وواقعهم اليوم الذي لا يعدو أن يكون، وفق
رأيي الخاص، غير امتداد للحروب الصليبية، شأن محنة القدس وقطاع هام من الشّام
والتباينات القُطرية التي عوّضت العصبية القبلية وحدّة الاختلاف العقائدي السني
الشيعي مقابل وحدة القوى المسيحية أولا وخوض الحرب تحت راية الدين لإخفاء استهداف
مدّخرات الشرق أساسا.
ولا شكّ أن فائدة
التاريخ مزدوجة. فهي تعرفنا بالوقائع التي دارت في
الماضي وفي الآن نفسه تدعونا إلى استخلاص الدروس والعبر عبر هذه المعرفة. والدرس
الصليبي يعلّمنا أن الحضارة العربية والإسلامية جميعا كانت مستهدفة من ذلك الغزو
وأنّ حماية الأقطار لن يتاح إلا عبر بناء جبهة داخلية قوية ومتضامنة. ورغم أنّ
العقبات نحو هذا الهدف الأسمى تبقى كبيرة جدا في وقتنا الراهن لشدة التشتت العربي
مقابل التحالف المسيحي اليهودي الصلب، فلا مناص للعرب من الخلاص الجماعي، إن
عسكريا أو اقتصاديا.