"صديقُه الذي هاجر إلى هناك واشتغل سوّاقًا وعاد بأكياسٍ من النقود قال إنه لا توجد هناك أية شجرة. الأشجار موجودةٌ في رأسك يا أبا قيس. في رأسك العجوز التعِب يا أبا قيس. عَشر أشجارٍ ذاتِ جذوعٍ معقَّدةٍ كانت تسّاقَط زيتونًا وخيرًا كلَّ ربيع".
بهذه الجُمَل المتتابعة التي ساقها غسّان كنفاني في الفصل الأول "أبو قيس" من روايته القصيرة المهمّة "رجال في الشمس" – والتي انتقل فيها من لسان الراوي العليم متحدثًا عن (سعدٍ) صديق (أبي قيسٍ)، إلى لسان عقل أبي قيسٍ وهو يحدِّث نفسَه، أو لعلّه لسانُ سعدٍ محدِّثًا صديقَه ولاطمًا إيّاه بالحقيقة العارية من ظلال الأشجار – يلخِّص الأديب الفلسطينيُّ الخالدُ ذكرياتِ الوطنِ الفلسطينيِّ المستقرِّ قبل حُلول نكبة عام 1948.
لقد ظلَّ أبو قيسٍ يحلم بغَرس عِرق زيتونٍ أو عِرقَين إذا ما وُفِّق في الذهاب إلى الكويت والعودة منها بما يكفي من المال. هذا الكهلُ المُنهَك قد خلَّف امرأتَه وطفلَه في مخيَّم اللاجئين مضطرًّا، تحت ضغط الفقر المُدقِع وإلحاح صديقه سعدٍ الذي سبقه إلى الكويت وعاد منها وقد تحسَّنَت أحوالُه المالية. وقد ظلّت صورةُ عُروق الزيتون تداعبُ خيالَه مع الغرفة التي يحلم ببنائها لتُظِلَّ أُسرته، طوالَ الرحلة الرهيبة التي خاضَها مُرغمًا إلى الحدود العراقية الكويتية مُهرَّبًا مع فلسطينيَّين آخَرَين من جيلَين مختلفَين هما (أسعد) و(مروان).
وفي حين مثَّلَت هذه الصورةُ المستقرّةُ الهنيئةُ المُعادِل الموضوعيَّ للوطن لدى الكهل أبي قيسٍ، جاء هذا المُعادلُ الموضوعيُّ في صورةٍ أقلَّ هناءةً لدى الشابّ أسعَد، فهو يحلم بالعودة بالمال، علَّه يرُدُّ دَين الدنانير الخمسين لعمِّه ويتزوّجُ ابنةَ عمِّه التي لا يحبُّها وإن كانت فاتحتُهما قد قُرِئت في اليوم الذي وُلِدا فيه معًا بالصُّدفة! فإذا استطلعنا صورة الوطن لدى مروان ذي الأعوام الستة عشر، فلن نجد إلا أمًّا وأربعة أطفالٍ هجرهم أبوهم ليتزوّج (شفيقة) التي بُتِرَت رِجلُها من الفخذ جرّاء إصابةٍ في غارةٍ للصهاينة، ليُعفيَ الأبُ نفسَه من تحمُّل مسؤوليّة هذه الأُسرة، خاصةً بعد أن قطع ابنُه الأكبر (زكريا) إثرَ زواجِه – وهو الأخُ الأكبرُ لمروان – المبلغ الماليَّ الذي كان يُرسِلُه بانتظامٍ من الكويت ليَعولَ هذه الأسرة. إنّ مروان لم يخُض رحلة الذهاب إلى الكويت إلا ليعوِّض هذه الأسرة التي أناخ عليها الدهرُ عن فقدان الأب والأخ، ومِن ثَمَّ فهو ذاهبٌ ليعمل ويعمل ويُرسِل المالَ مِن حيثُ يَعمل، بلا صورةٍ واضحةٍ لوطنٍ قد يسعى إلى العودة إليه. أي أننا هنا باختصارٍ أمام نفسٍ تفتقدُ أيّة صورةٍ متماسكةٍ للوطن، فهي لا ترى إلا المُضِيَّ في شقاء الحياة لأنه ليس منه بُدّ.
هكذا دسّ كنفاني هذا الخيط البالغَ اللُّطف في نسيج روايتِه، ليَلفتَنا إلى عُمق مأساة الفلسطينيّ، فصورةُ الوطنِ تتآكلُ تدريجيًّا وعلى نحوٍ متزايدٍ من جيلٍ إلى جيلٍ، أو هكذا تمثَّل الأمرُ لكاتبنا في مَطلع ستّينات القرن المنصرِم على الأقلّ.
الاستعمار وأذنابُه – كلُّ بَلِيّةٍ من صُنعِه:
الشخصية الأساسية الرابعة هي (أبو الخيزران) سائق عرَبة الماء
الفلسطيني الذي يعمل مع الثريّ الكويتي (الحاجّ رضا) في التهريب حسب ما توحي به أحداث الرواية وحِوارُها. ورغم أنّ هذا الرجُل يَظهر فجأةً في الفصل الثالث "مروان" بصِفته منقِذًا يقرِّر أن يهرِّب مروان ومعه أسعد وأبو قيسٍ، آخذًا إيّاهم في عربتِه من البصرة مرورًا بقرية صفوان على الحدود العراقية الكويتية إلى أن يوصلَهم إلى الكويت، إلّا أننا أمام شخصيّةٍ تآمرَت على إفساد مقاصدها وحظوظها عواملُ عِدّةٌ، لعلّ أوضحَها فُقدانُه رجولتَه في غارةٍ صهيونيةٍ أيامَ كان يجاهد لتحرير فلسطين، ما أورثه مرارةً تتخلّل كيانَه ولا تدَع له بصيصًا من أملٍ في الحياةِ إلّا أن يعيش ليجمع المزيد من المال، فهو قد كفرَ بالوطن أصلًا، وحين يخاطبُ اللهَ متوسِّلًا إليه أن يكون معه في صعوده الهضبة بالعربة بعد اجتيازه نقطة التفتيش العراقية، نرى بوضوحٍ سُخطَه على خالقِه إذ يقول: "يا إلهي العليّ الذي لم تكن معي أبدًا، الذي لم تنظر إليَّ أبدًا، الذي لا أؤمن بك أبدًا، أيمكن أن تكون هنا هذه المرّة؟ هذه المرّة فقط؟" فكأنّه يختبر وجودَ الله وهو يخاطبُه، ما يذكِّرني شخصيًّا بختام رواية هِمنغوِاي "وداعٌ للسلاح"، تحديدًا حين كان البطل يتوسّل إلى الله أن يُنجّي امرأته الممرّضة الإنـجـليزية من الموت، ثمّ ماتت رغم ذلك، في إيحاءٍ بالعدَميّة وضَياع الدعاء سُدَى.
وَلْنُضِف إلى ذلك أنّ أبا الخيزران رغم انتوائه تهريبَ الرجال الثلاثة، إلا أنّه يُبتَلى في نقطة التفتيش الكويتية بالموظَّف اللاهي "أبي باقر" الذي يعطِّلُه ويُصِرُّ على المُزاح معه والحديث عن مغامرته المكذوبة مع الراقصة العراقية المدعُوّة (كوكب)، وهي المغامرةُ التي قصَّها على هذا الموظَّف هاتفيًّا الحاجُّ رضا ليبرِّر تأخُّر سائقِه في البصرة أيّاما. هكذا يتأخّر أبو الخيزران على مُواطِنيه الثلاثة المساكين الذين يخبِّؤهم في خزّان الماء الفارغ بالعرَبة، حيث يعانون القيظَ الرهيب وانعدامَ الهواء، وحين يَفتح لهم بعد تجاوُز نقطة التفتيش بمسافةٍ آمنةٍ، يجدُهم قد ماتوا.
هل نشطح قليلًا ونتصوّر الأمرَ في غياب تلك النُّقَط الحدودية التي فرضَها الرسمُ البريطانيُّ للأرض العربية؟ ربما لو لم تكن ثَمّ حدودٌ مُصطنَعةٌ على هذا النَّحو، لَما اضطُرّ أبو الخيزران إلى الغياب عن الأبطال المساكين حتى تتسرّب منهم آخِر أنفاس الحياة. ربما لم يكن لِيُضطَرَّ إلى إخفاء هؤلاء المساكين في خزّان العرَبة من الأساس. بل ربّما لم يكُن هؤلاء الثلاثةُ يجدون أنفُسَهم مدفوعين إلى هذه الرحلة القاتلة في قيظ الصحراء، فالأرضُ كلُّها عربيةٌ والخير عامٌّ حيثما وُجِد العربيّ!
ثمّ إنّ كاتبَنا يعرِّف أبا الخيزران فيقول إنه قد أصبح سوّاقًا ماهرًا لأنه قد عمِل سوّاقًا لدى الجيش البريطاني في فلسطين خمسة أعوامٍ قبل عام 1948. ولنا أن نرى في هذه المعلومة العابرة إيحاءً بأنّه حتى الفائدةُ الواضحة التي جَناها هذا الرجُل من قوّات الاستعمار قد انقلبَت نِقمةً على مُواطِنيه المساكين دون قصدٍ منه، أي أنّنا إزاء إرثٍ استعماريٍّ من النُّحوس المتراكمة المتشابكة، أودَى بحياة ثلاثة فلسطينيِّين من أجيالٍ مختلِفةٍ، فالذي يَحضُر الوطنُ بزيتونه وأمانه في قلبِه طِيلةَ الوقت، والذي اختُزِل الوطنُ أمام عينَي خيالِه إلى فرصةٍ لحياةٍ أفضلَ من عدَمِها (ممثَّلةً في سَداد دَينِه وزواجِه ممّن لا يحبُّها)، والأخير الذي لم يعُد يرَى الوطنَ أصلًا وإنما هَمُّه أن يواصل الحياةَ ويُعين أُسرتَه على أن تُواصلَها، هؤلاء الثلاثةُ استوَت مصائرُهم، ووحّدَت خيبةُ المسعى بينهم، فانتهَوا إلى جُثثٍ لم يجِد أبو الخيزُران بُدًّا من إلقائها في مَقلَب القُمامة المُنتِن الرائحة.
والواقعُ أننا ينبغي ألّا نقسُو في الحُكم على أبي الخيزُران، فثَمّ قراءةٌ شائعةٌ تتّهمُه بالتخاذُل والسعي على مصلحته الشخصية على حساب أهلِه، ولعلّ أوضحَ دليلٍ يُساق لإثبات هذا الحُكم هو أنه حين يتذكّر ما مع الجثث الثلاث من مالٍ بعد إلقائها في القُمامة، يعود إليها ليأخُذ المال، غيرَ آبِهٍ بما بين يديه من المأساة. لكنّ الموقِف على قسوتِه قد ذكَّرَني – على غرابة هذه الذكرى - إجراءَ الفرز الطبِّي في حالات الكوارث الإنسانية، حيثُ تُقيَّم حالاتُ المُصابين، تمهيدًا لبذل الجهد الأكبر مع مَن تبدو حالاتُهم واعدةً بالتحسُّن صحّيًّا أكثر من غيرِها. فالموقِف الطبّي ينطوي على قسوةٍ نسبيّةٍ، لكن يبدو أنّه ليس ثَمّ طريقةٌ أفضل للتعامُل مع الكوارث. وكذلك موقِف أبي الخيزران، قد نرى فيه شكلًا من أشكال الخِسّة، إلا أنّه مُضطرٌّ في عينَي نفسِه إلى أن يتزوّد بالمال، وقد رأى أنّ مَن باتوا جثثًا لم تعُد بهم حاجةٌ إلى ذلك المال، فلِمَ لا؟!
لقد ترك لنا كنفاني عملًا سرديًّا رهيبًا بالغ الكآبة على قِصَرِه، أشبَعَه صُوَرًا يغمرُنا من خِلالِها حَرُّ الصحراء اللافحُ وقَيظُ الوجود العربيِّ المحكوم بالمأساة، وأرى أنّه يمثّل مرحلةً مهمّةً في رؤية أدبنا العربيّ لحجم الكارثة التي نزلَت بوجودِنا من قَبل قِيام دولة الاحتلال، واستمرَّت وامتدَّت وتضاعفَت بقيامِها. ومِثلُ هذه الرواية جديرٌ بأن يُقرأ وتُعاد قراءتُه، حتى لا ننسى مَن نحنُ، ولا يَسقُط من أذهاننا ثأرُنا القديم المتجدِّد.