قبل أسبوعين، قدّرنا في ضوء الدلائل المتوفرة آنذاك أن جيش الاحتلال سوف يوقف القصف الكثيف في مستهل هذا العام الجديد، وينتقل إلى خوض «حرب متدنية الشدة» تكون الغاية منها إحكام السيطرة على معظم أراضي القطاع التي وقعت تحت هيمنته واستئصال من بقي فيها من مقاومين وتدمير ما لا يزال تحت سطح الأرض فيها من شبكة أنفاق (أنظر «في سبر آفاق العدوان على
غزة» «القدس العربي» 19/12/2023).وها أن الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال أعلن يوم الإثنين، أول أيام العام الجديد، سحب خمسة ألوية من غزة، مؤلفة بمعظمها من جنود احتياط، فيما جرى تفسيره من قِبَل المراقبين بأنه خطوة أولى نحو الانتقال إلى «
الحرب متدنية الشدة» التي يعد بها حكامُ إسرائيل داعميهم الخارجيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
والحقيقة أن الدولة الصهيونية لا تستطيع أن تستمر طويلاً في خوض حرب بمثل كثافة تلك التي خاضتها منذ «طوفان الأقصى» لأسباب بشرية واقتصادية. ذلك أنها دولة صغيرة نسبياً، لا يزيد عدد سكانها اليهود سوى قليل عن سبعة ملايين، منهم مليون ونصف من الرجال في سن الخدمة العسكرية (ينضاف إليهم مليون ونصف من النساء اللواتي لم يُزجّ بهنّ في الحرب حتى الآن). فلا تستطيع أن تستمر في تعبئة ما يناهز نصف المليون من الاحتياطيين لمدة طويلة، إذ يشكّل ذلك عبئاً بشرياً ثقيلاً على المجتمع الإسرائيلي وعبئاً اقتصادياً أثقل بعد.
فقد كلّفت الحرب حتى نهاية العام المنصرم، أي خلال أقل من ثلاثة أشهر، ما يناهز عشرين ملياراً من الدولارات حسبما نقلته صحيفة «واشنطن بوست» عن نائب سابق لمحافظ المصرف المركزي الإسرائيلي، أي بمعدّل يقترب من ربع مليار دولار باليوم، وهي كلفة باهظة بالنسبة لاقتصاد البلاد.
هذا ويقدّر الحكم الصهيوني أن الحرب بمجملها، التي أكّد رئيس وزرائه بنيامين
نتنياهو يوم السبت الماضي أنها سوف تدوم سنة على الأقل، سوف تكلفه حوالي خمسين ملياراً من الدولارات (أي ما يناهز عِشر الناتج المحلّي الإجمالي الإسرائيلي).
ما يزيد من عزم نتنياهو وحلفائه في أقصى اليمين الصهيوني على مواصلة الحرب بكثافة منخفضة طيلة العام الجديد، إنما هو مراهنتهم على فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية
في الخريف القادم، بحيث يصبح أمامهم ضوء أخضر لاستكمال «النكبة الثانية» بالاستيلاء النهائي على قطاع غزة وضمه إلى دولتهم. وإذ يتكّلون على التمويل الأمريكي للتخفيف من وطأة الحرب على اقتصادهم، لا بدّ لهم من تخفيف تكاليفها كي يستطيعوا الاستمرار بها خلال الأشهر القادمة كما ينوون.
بيد أن الحكم الصهيوني يخطط في الوقت ذاته لحملة قصف كثيفة ثانية تبدأ بعد تخفيض كثافة حملته على غزة. والحال أن تقارير ذكرت خلال أيام العدوان الجديد الأولى أن وزير «الدفاع» الصهيوني، الفريق أول السابق يوآف غالانت، عضو حزب الليكود ومنافس نتنياهو، كان قد أراد لإسرائيل أن تهاجم «حزب الله» في
لبنان بالتزامن مع هجومها على «حماس» في غزة. ومعروف عن غالانت أنه من دعاة «استراتيجية الضاحية» التي جرى تطبيقها للمرة الأولى خلال العدوان على لبنان في عام 2006 والتي تقوم على الردّ على كل من يهدّد أمن إسرائيل ردّاً كاسحاً مدمّراً بما يشكّل ردعاً له. وقد أشرف غالانت بصفته رئيساً للقيادة الجنوبية بين عامي 2005 و2010 على تطبيق تلك العقيدة في العدوان الفتّاك على غزة الذي دام ثلاثة أسابيع بين نهاية عام 2008 والشهر الأول من عام 2009.
هذا وقد سبق لوزير «الدفاع» الصهيوني في الصيف الماضي أن هدّد بإرجاع لبنان إلى «العصر الحجري». كان ذلك إثر تفقده لمنطقة مزارع شبعا على الحدود اللبنانية ورؤيته لخيمة أقامها «حزب الله» هناك، وقد قال آنذاك: «أحذّر حزب الله ونصر الله ألا يخطئا. لقد ارتكبتم أخطاءً في الماضي ودفعتم ثمناً باهظاً للغاية. إذا ما حصل هنا، لا قدر الله، تصعيد أو مواجهة، سنعيد لبنان إلى العصر الحجري». ثم تابع مكرّراً: «أحذر حزب الله وزعيمه: لا تخطئوا. لن نتردّد في استخدام كل قوتنا، وتدمير كل متر يخص حزب الله ولبنان إذا اضطررنا لذلك». وأضاف أنه «عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل، نحن جميعاً متحدون». وقد جاء هذا الكلام الأخير ردّاً على تأكيد أمين عام «حزب الله» على أن إسرائيل ضعُفت بسبب أزمتها السياسية.
هكذا بات احتمال شنّ الدولة الصهيونية عدواناً كثيفاً جديداً على لبنان احتمالاً مرتفعاً للغاية، وهي تُحرج «حزب الله» بمطالبته بالانسحاب إلى شمالي نهر الليطاني، إذ إن من شأن انصياعه أن يُفقده ماء الوجه بينما رفضه الانصياع من شأنه أن يحمّله مسؤولية التسبّب بعدوان مدمّر جديد على لبنان ومناطق انتشار الحزب على الأخص. فهكذا يكون تدخّل الحزب المحدود إثر «طوفان الأقصى» قد ارتدّ عليه، إذ يكون قد فوّت فرصة إجبار إسرائيل على خوض حرب كثيفة على جبهتين، فإذا بها تهدّده اليوم بالانتقال إلى قصف كثيف للساحة اللبنانية مستفردة إياها بعد الانتهاء من قصفها الكثيف لغزة.