يدرس علماء أنثروبولوجيا الطعام، وصفات الطعام ليس بصفتها غذاء فقط، بل باعتبارها تمثل مظهرا من مظاهر هوية الجماعات الاجتماعية القومية والدينية والطائفية، وقد تنتقل وصفة أكلة ما من مجتمع إلى آخر لأسباب مختلفة، لكن الشائع هو اكتساب الوصفة المنتقلة بعض الإضافات أو الاختلافات التي تجعلها تتلاءم مع طبيعة المجتمع الجديد الذي انتقلت إليه.
إن التنافس وادعاء صناعة أصل الأطباق بات ملمحا متكررا في دراسات أنثروبولوجيا الطعام، وإن
الصراع على حق ملكية أصل الطبخات عرفته الكثير من المجتمعات في مختلف دول العالم. وبما أن الشرق الأوسط منطقة احتكاك ثقافي وتنافس إثنيات وثقافات، فلا بد أن نجد الكثير من ادعاءات امتلاك أصل الأطباق والوصفات في المنطقة، يصاحبها اتهام المنافس بأنه سرق أو ادعى ملكية أصل الطبق.
وربما كانت
الفلافل أحد أبرز النماذج لهذا الصراع، فهي أكلة بسيطة، قد تؤكل في ساندويش كوجبة خفيفة بعد إضافة السلطة والمخلل وصلصة طحينة السمسم للفلافل الملفوفة بخبز الراب أو البيتا.
كما تقدم الفلافل كمزات أو مقبلات مع الطعام، وهي طبق منخفض التكلفة وغني بالمواد الغذائية كالبروتينات والألياف والفيتامينات. وتتم صناعة الفلافل على شكل عجينة من البقول المهروسة والمخلوطة مع الخضراوات المختلفة والمتبلة بالثوم والبهارات، ومن ثم يتم عمل أقراص صغيرة من العجينة وتقلى بكمية كبيرة من الزيت المغلي.
أما الحديث عن أصل الفلافل، فيقودنا في البداية إلى أصل الاسم، ومنه يمكننا أن نستشف معلومات عن أصل هذه الأكلة، إذ يشير مؤنس البخاري الباحث في إنثروبولوجيا الطعام، إلى أن كلمة (فلفل) في الأصل هي كلمة آرامية، ومعناها كرات صغيرة. مفردها پلپل وتفصيحها فِلْفِل.
ويضيف أن تسمية الفول نفسها هي في الأصل آسيوية هندوأوروپية وليست عربية، ومن المصدر نفسه الذي قدّم كلمة پلپل الآرامية. إذ إن الكلمة الهندوأوروپية پُل بمعنى كرة صغيرة تحوّرت في الآرامية البابلية كذلك، فصارت پولا بمعنى حبّة بقول، وعنها اشتق العرب كلمة فول، أمّا تسمية الفول العربية في الأصل فهي باقلاء.
أما أصل الطبق، فإن الادعاءات متناثرة هنا وهناك، أبرزها أن أصل الفلافل مصري، ويدعي أصحاب هذا الرأي أن أصل الطبق يضرب عميقا في جذور الثقافة المصرية القديمة، حيث يشيرون إلى وجوده في المطبخ المصري الفرعوني، بينما يشير الشوام، وبينهم
الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون أن أصل الفلافل شامي، ومن بلاد الشام انتقلت إلى مختلف دول العالم، بينما أعلنت بطاقة بريدية أصدرتها إسرائيل عام 2004 أن الفلافل هي «الوجبة الخفيفة الوطنية لإسرائيل».
أما عن الأصل الفرعوني لقرص الفلافل، فقد نفاه عدد من الباحثين مثل بول بالتا وفاروق مردم بك؛ إذ أشارا إلى معلومة مفادها أنه «لم تظهر الفلافل في الأدب المصري إلا بعد الاحتلال البريطاني لمصر بعد الثورة العرابية عام 1882»، وقد توقع بالتا ومردم بك أن «الضباط البريطانيين، بعد أن ذاقوا طعم كروكيت الخضار المقلية في الهند أو كما تسمى الباكورة الهندية، طلبوا من الطهاة المصريين إعداد نسخة مصرية من الباكورة باستخدام المكونات المحلية»، طبعا لا يوجد دليل على ذلك؛ ولكن هذا الأمر يبدو منطقيا، إذ إن هناك الكثير من الأطباق الهندية التي تم إعدادها بطريقة مماثلة (مثل فادا وبوندا)، التي كان من الممكن أن توفر الإلهام اللازم لصناعة الفلافل. وتشير بعض الأبحاث إلى انتشار الفلافل المصرية المصنوعة من الفول، التي انتقلت عبر مدينة الاسكندرية، شمالا إلى بلاد الشام وغربا إلى ليبيا، وجنوبا عبر البحر الأحمر إلى اليمن.
ثقافة الطعام الإسرائيلية، تدين بالكثير من أسسها للعالم العربي وبضمنه فلسطين.
وهنالك اختلافات في المواد الداخلة في وصفة قرص الفلافل، وشكله وطبيعته، وهذه الأمور كما أشرنا تعود لاختلاف المجتمعات في تقديم أطباقها، فالفلافل المصرية التي تعرف بـ (الطعمية) تصنع من الفول ذي الحبة الصغيرة الذي ينقع ثم يهرس ويخلط مع البقدونس والكراث وغيرها من الخضروات، وتتبل بالثوم والبهارات، وتؤخذ قطع صغيرة باليد وتقلى في إناء عميق فيه زيت مغلي، وقد تطورت الطعمية بعدة اتجاهات عندما اجترح البعض الطعمية المحشية بأنواع الحشوات كالجبنة أو البيض المسلوق، التي باتت تعرف بعين الكتكوت، كما أن البعض اجترح طبقا آخر من عجينة الطعمية، وذلك بخلطها بالبيض ثم قليها كقرص كبير يسمى (عجة الطعمية).
وتجدر الإشارةإالى أن قرص الطعمية المصرية في كل الحالات يصنع باليد المجردة دون الاستعانة بقالب، ونتيجة المكونات الداخلة في صنع عجينة الطعمية يكون قرصها الساخن هشّا، ومقرمشا، وذهبي اللون من الخارج، وأخضر زاهيا من الداخل.
لكن الفلافل الشامية اكتسبت خصوصيتها، حيث استبدل الشوام الفول المصري صغير الحبة بالحمص الذي كانت تكثر زراعته في بلاد الشام، وأصبحت حبة الفلافل الفلسطينية واللبنانية تصنع من عجينة الحمص المهروس والمخلوط ببعض الخضروات والمتبل بالبهارات، إذ يصار إلى صنع حبة الفلافل بقالب صغير لتكون الحبات متساوية الحجم، بينما الفلافل السورية تصنع بقالب مفتوح من المركز، فتكون على شكل حلقات مفتوحة الوسط وأشبه بالدونات.
ويشار إلى أن أول محل لبيع الفلافل في لبنان افتتح في شارع دمشق قرب وسط البلد في العاصمة بيروت عام 1933 على يد مصطفى صهيون، وهو من عائلة فلسطينية سكنت بيروت، وبقي المحل عاملا حتى الحرب اللبنانية، إذ أغلق عام 1978 لأنه كان عند خط التماس بين بيروت الشرقية والغربية. وأعيد افتتاحه مرة أخرى عام 1992، بعد نهاية الحرب الأهلية، لكن ولدي مصطفى صهيون اختلفا فتقاسما المحل ليصبح محلين متجاورين عام 2006؛ إذ انفصل فؤاد صهيون بمتجره الخاص عن أخيه زهير صهيون. وبقيا أشهر محلين للفلافل في قلب بيروت.
بينما يشير الباحث مؤنس البخاري، إلى مسار آخر لانتقال الفلافل التي يعد أن أصلها حديث في مطابخ الشرق الأوسط، ولا يذهب بعيدا عن العصر الصناعي في القرن التاسع عشر، التي ظهرت نتيجة ظهور الحاجة إلى توفير أكلات عمّال منخفضة الكلفة وذات قيمة غذائية عالية؛ لأنه لم يعثر على أي ذكر لها في كتب الطبيخ العباسي أو الأندلسي، وحتى الفترات المتأخرة من العهد المملوكي. ويرى أن أصل الفلافل كانت تُصنع بداية من البرغل بصورة كرات كبّة غير محشية، ثم لمّا انتشرت زراعة الحمص في الشام استبدل الناس البرغل بالحمص، ثم هبطت وصفة الفلافل مع أهل فلسطين إلى مصر، واستُبدل الحمص الشامي بالفول المصري، وخرجت وصفة الطعمية التي لم تعرفها مصر في العهد القبطي القديم.
أما فيما يخص مصطلح «المطبخ الإسرائيلي»، فيرى الباحثون أنه مصطلح مثير للجدل؛ لأن الكثير من الطعام المقدم على أنه «إسرائيلي»، يمكن إرجاع أصوله إلى وصفات حملها اليهود الشرقيون الذين جلبوها من أطباق الشرق الأوسط إلى إسرائيل، وأن ثقافة الطعام الإسرائيلية تدين بالكثير من أسسها للعالم العربي، وبضمنه فلسطين.
وفيما يخص الفلافل، فبإمكاننا القول؛ إنه ليس طبقا يهوديا بالقطع، ولا يوجد ضمن وصفات الطعام التقليدية لدى اليهود الشرقيين أو الغربيين، ولم يكن اليهود الذين قدموا إلى فلسطين من أوروبا الشرقية، وخاصة فيما يعرف بالموجة العالية الخامسة (1929-1939)، عدوانيين ومرتابين من أي شيء يعدّونه «عربيا»، فالتزموا بإصرار بمطبخهم الخاص، وتجنبوا الفلافل باعتبارها طبقا «غريبا» وحتى «غير نظيف». مع إعلان قيام إسرائيل عام 1948، كانت الفلافل لا تزال بعيدة عن أن تكون مقبولة كطعام يهودي، ناهيك عن كونها طعاما «وطنيا». على الرغم من أن الوصفات التي تمجد صفاتها المغذية، ظهرت بشكل متكرر في الصحف الإسرائيلية مثل هآرتس، إلا أن شعبيتها كانت غير مكتملة.
بعد حرب عام 1948، عانت إسرائيل من شح المواد التموينية، ومع تدفق للمهاجرين الجدد من يهود الشرق الأوسط، أدخلت الحكومة الإسرائيلية برنامجا صارما للتقشف عام 1949. وتم تقنين الأطعمة الأساسية مثل السمن والسكر؛ بينما كان استهلاك اللحوم محدودا. وهذا ما عزز شعبية الفلافل، التي لم تكن مصدرا جيدا للبروتين فحسب، بل كانت مكوناتها متاحة بسهولة حتى لأفقر الأسر.
وعلى الرغم من أن البعض استمر في التعامل معها على أنها أكلة «أجنبية» إلى حد ما، إلا أن عددا متزايدا من كتب الطبخ بدأ يعرض وصفاتها. كما أن وصول أعداد متزايدة من اليهود الشرقيين من اليمن وتركيا وشمال أفريقيا، ساعد في نقل الفلافل من بلدانهم الأصلية إلى إسرائيل، دون أن يرى القادمون الجدد في الأمر أي شيء غريب.
وكان لسلوك وتقاليد اليهود الشرقيين في إسرائيل تأثير فوري، لم يساعد فقط في إقناع اليهود الغربيين الذين ما زالوا متشككين بأن الفلافل كانت حقا طعاما مناسبا لليهود، ولكنه سمح أيضا للفلافل بالتخلص من ارتباطاتها بالشعوب العربية. وهذا أمر كان من دواعي سرور الحكومة الإسرائيلية أن تشجعه؛ ففي أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية 1948-1949، كانت هناك جهود متضافرة لتعزيز الشعور المميز بالهوية الوطنية الإسرائيلية، وفصل ثقافتها ومطبخها عن ثقافة جيرانها؛ حيث قام العديد من اليمنيين بفتح أكشاك الفلافل. وقد روّجت الحكومة الإسرائيلية بشدة فكرة أن الفلافل لم يتم استيرادها من مصر، بل من يهود اليمن. وقد كان ذلك
كذبة واضحة، لكنها خدمت غرضها.