قال الكاتب الهندي بانكاج ميشرا، إن الطبقة
السياسية والإعلامية في الغرب، تعمل بلا توقف، على تلطيف الحقائق للاحتلال العسكري
الإسرائيلي، والمحرقة الجارية في
غزة، باعتبار أن إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن
نفسها، وهي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
وأوضح في مقال له بموقع "
ذي لندن ريفيو
بوكس"، ترجمته "عربي21"، أن المليارات من البشر، شهدوا ذبحا فوق
العادة تبث مشاهد ضحايا على الهواء مباشرة، لكن العالم لايحرك ساكنا، بل إن الغرب
في فعل أسوأ من التصفية، يقومون بالتشويش إن لم يكن الإنكار مثل بايدن الذي زعم أن
الفلسطينيين كاذبون في عدد ضحاياهم.
ولفت إلى أن القسوة
والاستحياء والرقابة تمنع، بل وتسخر من، صدمتنا ومن حزننا. كثيرون منا، ممن رأوا
بعض الصور والمقاطع المرئية القادمة من غزة تلك المناظر من جهنم بما فيها من جثث
ملوية بعضها فوق بعض يتم دفنها في قبور جماعية، وجثث أصغر يحملها الآباء والأمهات
المكلومون، أو التي توارى الثرى في صفوف مرتبة أصيبوا بالجنون في صمت على مدى الشهور
القليلة الماضية، فما من يوم تطلع عليه الشمس إلا ويسممه إدراكنا بأننا بينما
نتدبر شؤون حياتنا فإن المئات من الناس العاديين الذين هم مثلنا يتم قتلهم أو يتم
إجبارهم على أن يشهدوا قتل أطفالهم.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
في عام 1977، وقبل عام
من انتحاره، وقعت يد الكاتب النمساوي جان أميري على تقارير حول التعذيب الممنهج
الذي يتعرض له السجناء العرب في المعتقلات الإسرائيلية. حينما اعتقل في بلجيكا
عام 1943 لتوزيعه منشورات ضد النازيين، كان أميري نفسه قد تعرض للتعذاب على أيدي
الغيستابو، ثم ما لبث أن رحل إلى أوشفيتز. تمكن من النجاة، ولكنه لم يتمكن
إطلاقاً من نسيان جلاديه واعتبارهم شيئاً من الماضي.
كان يصر على أن الذين يتعرضون للتعذيب يبقون معذبين، وعلى أن معاناتهم لا تنقضي.
مثله مثل الكثيرين ممن نجوا من معسكرات الإبادة النازية، طور أميري في ستينيات
القرن العشرين إحساساً "بالارتباط الوجودي" بإسرائيل. وغدا مسكوناً
بالهجوم على المنتقدين اليساريين للدولة اليهودية معتبراً إياهم "نزقين وبلا
ضمير." ولعله كان من أوائل من نسجوا الادعاء، الذي بات الآن سلوكاً معتاداً
من قبل زعماء وأنصار إسرائيل، بأن المعادين للسامية بشدة يتنكرون في ثياب
الصالحين المعادين للإمبريالية والمعادين للصهيونية. ومع ذلك، حفزت التقارير،
ولئن بدت غامضة وسطحية، حول التعذيب الذي يتم داخل المعتقلات الإسرائيلية أميري
على النظر في حدود تضامنه مع الدولة اليهودية. وفي واحدة من آخر مقالاته، كتب يقول: "أدعو بشكل عاجل جميع اليهود
الذين يرغبون في أن يكونوا بشراً الانضمام إلي في التنديد الجذري بالتعذيب الممنهج.
فحيثما تبدأ الهمجية، يجب أن تنتهي حتى الالتزامات الوجودية."
مما أزعج أميري بشكل
خاص ذلك التمجيد الذي حظي به في عام 1977 مناحيم بيغن، الذي كان حينها رئيساً
للوزراء في إسرائيل. وذلك أن بيغن، الذي نظم عملية تفجير فندق الملك داود في
القدس في عام 1946، والذي قتل فيه 91 شخصاً، كان الأب المؤسس لدعاة التفوق
العنصري اليهودي، الذين مازالوا يحكمون إسرائيل حتى اليوم. وكان كذلك هو أول من
استدعى بشكل روتيني هتلر والمحرقة والتوراة بينما كان منهمكاً في العدوان على
العرب وفي بناء المستوطنات داخل الأراضي المحتلة. خلال سنواتها الأولى، كانت
لدولة إسرائيل علاقة متضاربة مع
المحرقة وضحاياها. فقد كان أول رئيس وزراء
إسرائيلي، ديفيد بن غوريون، في البداية ينظر إلى ضحايا المحرقة باعتبارهم
"أنقاضاً بشرية"، زاعماً بأنهم إنما نجوا لأنهم كانوا "سيئين
وقساة وأنانيين." أما منافس بن غوريون، مناحيم بيغن – الشعبي القادم من
بولندا، فقد كان أول من حول جريمة قتل ستة ملايين يهودي إلى هاجس وطني، وهو الذي
جعل من ذلك أساساً جديداً للهوية الإسرائيلية. بدأت المؤسسة الحاكمة في إسرائيل
تنتج وتبث نسخة خاصة من رواية المحرقة، والتي بات بالإمكان استخدامها لإضفاء
مشروعية على
الصهيونية المحاربة ذات الطموحات التوسعية.
لاحظ أميري اللهجة
الجديدة، فجزم بأن تداعياتها سوف تكون مدمرة بالنسبة لليهود الذين يعيشون خارج
إسرائيل. وكتب عن ذلك يقول إن بيغن الذي يمسك "التوراة في يده، ويحتج
بالوعود التوراتية"، حينما يتحدث علانية عن سرقة الأرض الفلسطينية "فإن
ذلك وحده يعتبر سبباً كاف من أجل أن يعيد يهود الشتات النظر في علاقتهم
بإسرائيل." وناشا أميري زعماء إسرائيل بأن عليهم "الإقرار بأن حريتكم
يمكن أن تتحقق فقط مع الفلسطيني ابن عمكم، وليس ضده."
بعد ذلك بخمس سنين، شن
بيغن، الذي كان يصر على أن النازيين الجدد هم العرب وأن ياسر عرفات هو هتلر
الجديد، عدواناً على لبنان. وحينما اتهمه دونالد ريغان بأنه يرتكب محرقة، وأمره
بأن يتوقف عن ذلك، كان الجيش الإسرائيلي قد قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين
واللبنانيين ومسح أجزاء كبيرة من بيروت. في روايته "كابو" التي صدرت في
عام 1993، يصور الكاتب الصربي اليهودي أليكسندر تيشما، الاشمئزاز الذي شعر به
كثير من الناجين من الحرقة إزاء الصور القادمة من لبنان، فكتب يقول: "يهود،
ذوو قربى، أبناء وأحفاد معاصريه، نزلاء سابقون في مخيمات الإبادة، وقفوا في أبراج
الدبابات، مضوا يقودونها، ملوحين بالأعلام، عبر أحياء بلا حماية، بين أشلاء اللحم
البشري، التي مزقوها إرباً برصاص مدافعهم الرشاشة، ثم راحوا يحشدون الناجين في
معسكرات مسيجة بالأسلاك الشائكة."
برايمو ليفي، الذي عرف
فظائع أوشفيتز في نفس الوقت الذي عرفها أميري، والذي شعر بنفس الارتباط العاطفي
مع الدولة اليهودية الجديدة، سارع إلى تنظيم خطاب احتجاجي مفتوح، وأعطي مقابلة
قال فيها إن "إسرائيل تسقط سريعاً في العزلة التامة .... يجب علينا خنق
نبضات التضامن العاطفي تجاه إسرائيل من أجل أن نستوعب ببرود الأخطاء التي ترتكبها
الطبقة الحاكمة حالياً في إسرائيل. تخلصوا من تلك الطبقة الحاكمة." في عدد من
الأعمال الروائية الخيالية وغير الخيالية، تدبر ليفي ليس فقط في الوقت الذي قضاه
داخل معسكر الإبادة وما خلفه ذلك من معاناة وإرث لا ينحل، ولكن أيضاً في المخاطر
الحالية التي تتهدد الفضيلة والكرامة الإنسانية. الأمر الذي أغضبه بالذات كان
استغلال بيغن للمحرقة. بعد عامين من ذلك كتب يقول إن "مركز الثقل في العالم
اليهودي يجب أن يعود إلى الوراء، فيخرج من إسرائيل ويعود ثانية إلى الشتات."
يتم اليوم التنديد
بمثل تلك الهواجس التي عبر عنها أميري وليفي باعتبارها معادية بشكل فج للسامية.
من الجدير بالتذكر أن كثيراً من مثل هذه المبادرات لإعادة النظر في الصهيونية،
والقلق إزاء الانطباعات التي تتشكل عن اليهود في العالم، إنما نشأت بين الناجين
من المحرقة والشهود عليها بسبب احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية واستخدامها
للأساطير في تبرير ذلك. ولعل هذا ما دفع ييشاياهو لايبوفيتز، رجل الدين الذي فاز
بجائزة إسرائيل في عام 1993، نحو التحذير في عام 1969 من مغبة "صهينة"
إسرائيل. وفي عام 1980، وصف الكاتب الصحفي الإسرائيلي بوعاز إيفرون بعناية مراحل
هذا التآكل الأخلاقي، معرباً عن خشيته من آن أسلوب الخلط ما بين الفلسطينيين
والنازيين، والعويل بأن محرقة أخرى باتت وشيكة، يحرر الإسرائيليين العاديين من
"أي قيود أخلاقية" نظراً لأنه يشعر المرء منهم بأنه مهدد بالفناء،
وبذلك يرى نفسه في حل من أي اعتبارات أخلاقية قد تقيد مساعيه لإنقاذ ذاته. وكتب
إيفرون يقول إن اليهود قد ينتهي بهم المطاف وهم يعاملون غير اليهود كمخلوقات دون
البشر، مكررين بذلك نفس السلوك النازي العنصري.
كما حث إيفرون على
الحذر أيضاً من أنصار إسرائيل بين السكان اليهود في الولايات المتحدة (والذين
كانوا حينها حديثي عهد ولكن يتقدون حماساً). وقال إن تبني قضية إسرائيل بالنسبة
لهم بات أمراً ضرورياً بسبب فقدهم لأي نقطة ارتكاز أخرى لهويتهم اليهودية –
وبالفعل كم كان عظيماً النقص الوجودي لديهم، كما قال إيفرون، لدرجة أنهم لم
يتمنوا لإسرائيل أن تتحرر من اعتمادها المتنامي على الدعم اليهودي الأمريكي.
إنهم يحتاجون للإحساس
بأن ثمة حاجة إليهم. كما أنهم يحتاجون إلى صورة "البطل الإسرائيلي"
كمعوض اجتماعي وعاطفي في مجتمع لا يرى فيه اليهودي مجسداً لسمات المقاتل الشهم
والصلب. وبذلك يوفر الإسرائيلي لليهودي الأمريكي صورة متناقضة مزدوجة – الرجل
الفحل الخارق وضحية المحرقة المحتمل – كلا مكونيها أبعد ما يكونان عن الواقع.
وهناك أيضاً زيغمونت
بومان، الفيلسوف اليهودي الذي ولد في بولندا واللاجئ الفار من الصهيونية بعد أن
قضى في إسرائيل ثلاث سينين خلال سبعينيات القرن الماضي قبل أن يستفزه من الأرض
مزاج العفة العدوانية فيها، والذي أصيب باليأس بسبب ما رأى أنه
"خصخصة" المحرقة من قبل إسرائيل وأنصارها. لقد كتب في عام 1988 يقول:
"لقد آل أمر المحرقة إلى أن تتكرس في الذاكرة كتجربة خاصة باليهود، كمسألة
بين اليهود وكارهيهم"، وذلك على الرغم من أن الظروف التي أوجدتها عادت لتظهر
من جديد حول العالم. مثل هؤلاء الناجين من المحرقة، الذين انحطوا من اعتقاد رائق
بالفلسفة الإنسانية العلمانية إلى جنون جمعي، حدسوا بأن العنف الذي نجوا منه –
والذي لم يكن مسبوقاً في حجمه – لم يكن مروقاً في حضارة عصرية شاملة. كما لا يمكن
نسبته بشكل كامل إلى تحامل عتيق ضد اليهود. بل لقد تمكن الناس العاديون بفضل
التكنولوجيا وتقاسم الأدوار العقلاني من المساهمة في أعمال الإبادة جماعية بضمير
مرتاح، وحتى برعشات من الفضيلة. كانت الجهود الوقائية ضد مثل تلك الأنماط المجردة
والمتاحة من القتل تحتاج إلى أكثر من اليقظة ضد معاداة السامية.
عندما عدت مؤخراً إلى
كتبي لأعد هذا المقال، وجدت أنني كنت قد حددت العديد من الفقرات التي أقتبسها
ههنا. تشتمل مفكرتي على سطور نسختها من جورج ستاينر ("إن الدولة القومية
المدججة بالسلاح أثر مرير، حماقة في قرن مزدحم بالرجال") ومن أبا إيبان
("آن لنا أن نقف على أقدامنا نحن وليس على أقدام ستة ملايين من
الموتى"). معظم هذه العبارات تعود إلى أول زيارة قمت بها لإسرائيل والمناطق
التي تحتلها، عندما كنت أبحث عن إجابات، في زمن براءتي، على سؤالين اثنين: كيف
تسنى لإسرائيل ممارسة مثل هذا النفوذ المريع للموت والحياة على جمع من اللاجئين،
وكيف يمكن للتيار السائد من السياسيين والصحفيين الغربيين تجاهل، بل وحتى تبرير،
فظائعها وانتهاكاتها التي من الواضح أنها تمارس بشكل ممنهج؟
لقد نشأت وأنا أتشرب
بعضاً من الصهيونية المبجلة لدى عائلتي التي تنتسب إلى الطبقة العليا من القوميين
الهندوس في الهند. كلا الصهيونية والقومية الهندوسية خرجتا في أواخر القرن التاسع
عشر من رحم الإحساس بالمهانة. كثير من مفكريهم العقائديين كانوا يتوقون إلى
التغلب على ما انطبع في أذهانهم من انعدام الرجولة المخزي بين اليهود والهندوس.
بالنسبة للقوميين الهندوس في سبعينيات القرن العشرين، والذين كانوا بمثابة
المنتقدين العقيمين لحزب المؤتمر الحاكم المناصر لفلسطين، بدا كما لو أن الصهاينة
المتشددين من مثل بيغن وآرييل شارون وإسحق شامير هم الذين فازوا في السباق نحو
السيادة القومية القوية. (فلا عجب أن يشكل المتصيدون عبر الإنترنيت من الهندوس
الآن أضخم ناد للمعجبين ببنيامين نتنياهو في العالم.) أتذكر أنني كانت لدي صورة
معلقة على جدار غرفتي لموشيه دايان، الذي شغل منصب رئيس هيئة الأركان ووزير
الدفاع في إسرائيل أثناء حرب الأيام الستة. وحتى بعد وقت طويل من تبدد افتتاني
الطفولي بالقوة السافرة، لم أتوقف عن رؤية إسرائيل كما بدأ زعماؤها منذ الستينيات
يقدمونها للعالم، كتعويض لضحايا المحرقة، وكضمانة غير قابلة للكسر ضد تكرارها.
كنت أعلم مدى ضآلة
الشعور بالتعاطف من قبل الزعماء في أوروبا الغربية والولايات المتحدة مع معاناة
اليهود الذين باتوا أكباش فداء لما كانت تمر به ألمانيا من تدهور اجتماعي
واقتصادي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، لدرجة أن ضحايا المحرقة أنفسهم
كانوا يقابلون بفتور هناك، بينما كانوا في أوروبا الشرقية يتعرضون لمقتلات جديدة.
ورغم قناعتي بعدالة القضية الفلسطينية إلا أنني وجدت من العسير مقاومة المنطق
الصهيوني القائل بأن اليهود لن يتمكنوا من النجاة في الأراضي غير اليهودية وأنه
لابد لهم من دولة خاصة بهم. بل كنت أعتقد بأنه من غير الإنصاف أن تكون إسرائيل
وحدها من دون كل البلدان الأخرى في العالم بحاجة إلى تبرير حقها في الوجود.
لم أكن ساذجاً بما
يكفي للاعتقاد بأن المعاناة تعظم من مكانة ضحايا جريمة كبرى، أو تمدهم بأسباب
القوة، حتى يتصرفوا بأسلوب راق من الناحية الأخلاقية، وبأن من المحتمل جداً أن
يتحول ضحايا الأمس إلى جلادي اليوم، كما يثبت العنف المنظم الذي رأيناه يرتكب في
يوغسلافيا السابقة وفي السودان والكونغو ورواندا وسريلانكا وأفغانستان، وفي أماكن
أخرى كثيرة حول العالم. كنت لم أزل مصدوماً بالمعنى الأسود الذي استنبطته الدولة
الإسرائيلية من المحرقة، فمضت تنظم شؤونها ومؤسساتها عبر آلة من القمع. استهداف
الفلسطينيين بالقتل، ونقاط التفتيش، وهدم البيوت، وسرقة الأراضي، والاعتقالات
التعسفية لفترات غير محدودة، وتفشي التعذيب داخل السجون، كل ذلك بدا تعبيراً عن
سلوك قومي لا يعرف الشفقة، مفاده أن البشر ينقسمون إلى أولئك الذين هم أقوياء وإلى
أولئك الذين هم ضعفاء، وبناء عليه فإن من كانوا ضحايا، أو من يتوقعون أن يصبحوا
ضحايا، عليهم أن يسارعوا كإجراء احترازي إلى سحق من يعتبرونهم أعداء لهم.
على الرغم من أنني
قرأت كتابات إدوارد سعيد، إلا أنني مع ذلك صدمت حين اكتشفت مدى الخداع الذي
يمارسه أنصار إسرائيل المتنفذين في الغرب من أجل إخفاء الأيديولوجيا العدمية
القائمة على بقاء الأقوى، والتي أعادت إنتاجها جميع أنظمة الحكم الإسرائيلية منذ
حكومة بيغن. إن من مصلحتهم أن ينشغل الناس بجرائم المحتلين، إن لم يكن بمعاناة
الضحايا الذين جردوا من أملاكهم وشردوا من أوطانهم وانتزعت منهم الصفة البشرية.
كلا الأمرين مضيا بدون كثير من التدقيق في أوساط الصحافة المحترمة داخل العالم
الغربي. كل من أثار الانتباه إلى مشهد الالتزام الأعمى من قبل واشنطن تجاه
إسرائيل يتهم بمعاداة السامية وبتجاهل الدروس المستوحاة من المحرقة. كما أن الوعي
المشوه بالمحرقة يضمن أنه كلما انتفض ضحايا إسرائيل، بعد أن لم يعد بإمكانهم
المزيد من البؤس والشقاء، وهبوا في وجه من يظلمهم، لاجئين في سبيل ذلك إلى
استخدام عنف متوقع، تتم إدانتهم بكونهم نازيين عازمين على ارتكاب محرقة أخرى.
من خلال قراءة وتذييل
كتابات أميري وليفي وغيرهما، كنت أحاول بطريقة ما التخفيف من الإحساس الطاغي
بالخطيئة التي شعرت بها بعد أن انكشف أمامي التأويل البائس للمحرقة، والشهادات
بأعلى الدرجات الأخلاقية التي يوزعها على البلد حلفاؤه الغربيون. كنت أبحث عن
تطمينات من أناس عرفوا، بشهادة أبدانهم الهزيلة، الرعب الوحشي الذي مارسته ضد
ملايين البشر الدولة القومية الأوروبية التي يفترض فيها أنها متحضرة، علماً بأن
من أبحث عن التطمينات لديهم حزموا أمرهم وخرجوا يحذرون بشكل دائم من التشويه الذي
يتعرض له معنى المحرقة ومن الإساءة إلى ذكراها.
اظهار أخبار متعلقة
على الرغم من تحفظاتها
المتزايدة بشأن إسرائيل، لم تلبث الطبقة السياسية والإعلامية في الغرب تعمل بلا
توقف على تلطيف الحقائق السافرة للاحتلال العسكري والضم غير القانوني للأراضي من
قبل جماعات الغوغائية المنبثقة عن التعصب العرقي والقومي. لسان حال هذه الجوقة أن
إسرائيل لديها الحق، بكونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، في الدفاع عن
نفسها، وخاصة ضد الوحوش التي تسعى إلى استئصالها. ونتيجة لذلك، لا يتمكن ضحايا
التوحش الإسرائيلي في غزة اليوم حتى من ضمان اعتراف بسيط ومباشر من قبل النخب
الغربية بمعاناتهم، ناهيك عن أن تسعى تلك النخب إليهم بالإغاثة. لقد شهد مليارات
الناس حول العالم خلال الشهور الأخيرة ذبحاً فوق العادة يبث ضحاياه "مشاهد
ما يتعرضون له من تدمير وإبادة على الهواء مباشرة رجاء أن يبادر العالم إلى عمل
شيء"، كما عبرت عن ذلك المحامية الإيرلندية بلين ني غاراليه أثناء تقديمها
لمرافعة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
إلا أن العالم، وبشكل
أكثر تحديداً الغرب، لا يحرك ساكناً. والأسوأ من ذلك أن تصفية غزة، رغم ما يقوم
به مرتكبوها من استعراض لها وبث لمشاهدها، تتعرض يومياً للتشويش إن لم يكن
للإنكار، من قبل أدوات الهيمنة العسكرية والثقافية في الغرب: من قبل الرئيس
الأمريكي الذي زعم بأن الفلسطينيين كاذبون، ومن قبل السياسيين الأوروبيين الذين
لا يملون الحديث عن أن إسرائيل لديها الحق في أن تدافع عن نفسها، ومن قبل منصات
الأخبار المرموقة التي تستخدم المبنى للمجهول عندما تنقل أخبار المذابح التي
ترتكب في غزة. نجد أنفسنا في وضع غير مسبوق. لم يحدث من قبل أن شاهد مثل هذا
العدد من الناس هذا الحجم من الذبح على الهواء مباشرة. إلا أن القسوة والاستحياء
والرقابة تمنع، بل وتسخر من، صدمتنا ومن حزننا. كثيرون منا، ممن رأوا بعض الصور
والمقاطع المرئية القادمة من غزة – تلك المناظر من جهنم بما فيها من جثث ملوية
بعضها فوق بعض يتم دفنها في قبور جماعية، وجثث أصغر يحملها الآباء والأمهات
المكلومون، أو التي توارى الثرى في صفوف مرتبة – أصيبوا بالجنون في صمت على مدى الشهور
القليلة الماضية. ما من يوم تطلع عليه الشمس إلا ويسممه إدراكنا بأننا بينما
نتدبر شؤون حياتنا فإن المئات من الناس العاديين الذين هم مثلنا يتم قتلهم أو يتم
إجبارهم على أن يشهدوا قتل أطفالهم.
أولئك الذين يتأملون
بدقة في وجه بايدن بحثاً عن مؤشر على الرحمة، عن مؤشر على قرب انتهاء سفك الدماء،
يجدون تصلباً ناعماً يبعث على الرعب لا يكسره سوى ابتسامة متكلفة، ضئيلة ومرتبكة،
ترتسم على شفتيه عندما يندفع متلفظاً بالأكاذيب الإسرائيلية حول الرضع الذين جزت
رؤوسهم. إن هذا الحقد العنيد والتوحش الذي يبديه بايدن تجاه الفلسطينيين ما هو
إلا واحد من العديد من الألغاز الشنيعة التي يخرج بها علينا السياسيون والصحفيون
الغربيون. لقد حفرت المحرقة أخاديد من المعاناة فيما لا يقل عن جيلين من اليهود،
ثم جاءت المذابح التي ارتكبت يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) وأخذ الرهائن في
إسرائيل من قبل حماس وغيرها من المجموعات الفلسطينية لتجدد المخاوف بين كثير من
اليهود من وقوع إبادة جماعية. ولكن كان واضحاً من البداية أن أكثر القيادات
الإسرائيلية تطرفاً في التاريخ ما كانت لتفوت فرصة استغلال ذلك الإحساس العارم
بالانتهاك، والفقد والرعب. لربما كان من الأيسر على الزعماء الغربيين ضبط أنفسهم
وعدم الاندفاع باتجاه تضامن غير مشروط مع نظام متطرف، ولكن في نفس الوقت التأكيد
على ضرورة ملاحقة ومحاكمة أولئك الذين ارتكبوا جرائم الحرب يوم السابع من أكتوبر.
لماذا إذن يذهب كير ستارمر، المحامي السابق المتخصص في حقوق الإنسان، نحو التأكيد
على أن لإسرائيل الحق في حرمان الفلسطينيين من الكهرباء والماء؟ لماذا بدأت
ألمانيا بكل حماسة بيع المزيد من السلاح لإسرائيل (بينما إعلامها الكاذب وقمعها
الرسمي بلا هوادة، وخاصة ما مورس منه ضد الفنانين والمفكرين اليهود، يقدم درساً
جديداً للعالم حول التصاعد السريع للتعصب العرقي والقومي الإجرامي هناك)؟ ما الذي
يفسر العناوين الرئيسية لدى البي بي سي ونيويورك تايمز مثل "هند رجب، ذات
الستة أعوام، وجدت ميتة في غزة بعد أيام من مكالماتها الهاتفية التي طلبت فيها
المساعدة"، ومثل "دموع أب من غزة فقد 103 من أقاربه" ومثل
"رجل يموت بعد أن أشعل في نفسه النار خارج السفارة الإسرائيلية في واشنطن،
حسبما تقول الشرطة"؟ لماذا يستمر السياسيون والإعلاميون الغربيون في التعامل
مع عشرات الآلاف من الموتى والجرحى الفلسطينيين كما لو كانوا أضراراً غير مقصودة،
في حرب للدفاع عن النفس تم فرضها على أكثر جيوش العالم التزاماً بالأخلاق، كما
يزعم الجيش الإسرائيلي لنفسه؟
لا يمكن للأجوبة
بالنسبة لكثير من الناس حول العالم إلا أن تشوبها مرارة عنصرية لم تلبث تغلي على
نار هادئة منذ زمن طويل. ومن ذلك ما أشار إليه جورج أوريل في عام 1945 عندما قال
إن فلسطين "قضية لون"، وهكذا رآها غاندي لا محالة، وهو الذي ناشد
الزعماء الصهاينة بألا يلجأوا إلى ممارسة الإرهاب ضد الفلسطينيين مستخدمين في ذلك
الأسلحة الغربية، وهكذا أيضاً رأتها الدول التي نشأت بعد حقبة الاستعمار، والتي
رفضت جميعها تقريباً الاعتراف بدولة إسرائيل. ما أطلقه دبليو إي بي دو بوا على
المشكلة المركزية في السياسة الدولية – "خط اللون" – هو الذي حفز
نيلسون مانديلا على الإعلان إن حرية جنوب أفريقيا من الفصل العنصري (الأبارتيد)
"لن تكتمل حتى تتحقق حرية الفلسطينيين." لقد سعى جيمز بولدين إلى
استباحة ما أطلق عليه عبارة "الصمت التقي" بشأن سلوك إسرائيل حينما زعم
أن الدولة اليهودية، التي كانت تبيع السلاح لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا،
تجسدت بالفوقية لا بالديمقراطية. أما محمد علي فرأى في فلسطين لحظة ظلم عنصري سافر.
وهذا ما يراه فيها اليوم زعماء أقدم وأشهر الطوائف المسيحية السوداء في الولايات
المتحدة، الذين اتهموا إسرائيل بالإبادة الجماعية وطالبوا بايدن بوقف جميع
المساعدات المالية والعسكرية لها.
في عام 1967، لربما
كان اللياقة تعوز بولدوين حين قال إن معاناة الشعب اليهودي "ينظر إليها
باعتبارها جزءاً من التاريخ الأخلاقي للعالم" ولكن "هذا ما لا يصح في
حالة السود." في عام 2024، بات بإمكان المزيد من الناس أن يروا ذلك بوضوح،
فمقابل ضحايا النازية من اليهود، هناك ما لا يحصى عدده من الملايين الذين كانوا
ضحية الرق، وضحية المحارق العديدة التي ارتكبت في نهايات العهد الفكتوري في آسيا
وأفريقيا، وضحايا الهجمات النووية على كل من هيروشيما وناغازاكي، ولكن كل ذلك لا
يكاد يتذكره الكثيرون. ثم هناك المليارات من غير الغربيين الذين سيستهم وشحنتهم
سخطاً الحرب الغربية الكارثية على الإرهاب خلال الأعوام الأخيرة، كما سيسهم
وشحنهم "أبارتيد المطاعيم" أثناء الجائحة، وفعل ذلك بهم النفاق المكشوف
في التعامل مع معاناة الأوكرانيين مقارنة بالتعامل مع معاناة الفلسطينيين. لا
يعجز هؤلاء ملاحظة النسخة العدوانية لإنكار المحرقة في أوساط النخب داخل البلدان
الاستعمارية السابقة، والذين يرفضون فتح ملف تاريخ بلدانهم المليء بجرائم الإبادة
الجماعية وسرقة الشعوب، وتراهم يسعون جاهدين إلى نزع الشرعية عن أي نقاش لهذا
الموضوع باعتباره استيقاظاً متأخراً معتوهاً. تستمر الروايات التي تعتمد الشعار
الرائج، ومفاده أن "الغرب هو الأفضل"، في تجاهل التوصيفات الحادة
للصهيونية (من قبل جواهرلال نهرو وإيمي سيزاري، من بين آخرين من رعايا الحقبة
الاستعمارية) باعتبارها التوأم المتطرف للاستعمار الغربي، وينأون بأنفسهم عن
استكشاف الصلة الواضحة بين ما ارتكب من مذابح على يد المستعمرين ضد السكان
الأصليين في المستعمرات وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت ضد اليهود في
أوروبا.
من الأخطار العظيمة
المحدقة بنا اليوم تصلب خط اللون ليصبح خط ماجينو جديد. بالنسبة لمعظم الناس خارج
العالم الغربي، والذين تمثلت تجربتهم الأساسية مع الحضارة الغربية في وقوعهم
ضحايا للاستعمار الوحشي لمن يمثلونها، لا تبدو المحرقة فظاعة غير مسبوقة في
التاريخ. فهم إذ يتعافون من الآثار المدمرة للاستعمار في بلدانهم، لن تجد هؤلاء
الناس من غير الغربيين في وضع يمكنهم من تقدير هول الفاجعة التي تسبب بها لليهود
في أوروبا ذلك التوأم المتطرف للاستعمار. ولذلك حينما يشبه زعماء إسرائيل حماس
بالنازيين، وعندما يرتدي الدبلوماسيون الإسرائيليون النجوم الصفراء في الأمم
المتحدة، فإن جمهورهم يقتصر على الغربيين ولا يتجاوزهم. وذلك أن معظم العالم لا
يحمل على كاهله عبء الذنب الأوروبي المسيحي إزاء المحرقة، ولا يعتبر إقامة
إسرائيل ضرورة أخلاقية للتكفير عن خطايا الأوروبيين في القرن العشرين. والآن،
ولما يزيد عن سبعة عقود، لم تزل الحجة بين "الشعوب الداكنة" على ما هي
عليه: لماذا ينبغي أن يشرد الفلسطينيون من ديارهم ويعاقبوا تكفيراً عن جرائم
ارتكبها الأوروبيون وحدهم لا غير؟ بل تجد أن هذه الشعوب تتلوى اشمئزازاً من
الادعاء الضمني بأن إسرائيل لديها الحق في ذبح ثلاثة عشر ألف طفل ليس فقط من باب
الدفاع عن النفس وإنما لأنها دولة ولدت من رحم المحرقة.
بحلول عام 2006، كان
طوني جوت قد حذر من أن "المحرقة ما عاد بالإمكان استخدامها لتبرير سلوك
إسرائيل" لأن أعداداً متزايدة من الناس "ببساطة لا يمكنهم استيعاب كيف
يمكن للفظائع التي ارتكبت في الحرب الأوروبية الأخيرة أن تمنح رخصة لأحد، أو تقر
سلوكاً غير مقبول، في حقبة أخرى وفي مكان آخر." وحذر من أن هوس إسرائيل
بقضية التنكيل الذي تعرض له اليهود، وهو هوس يلازمها منذ فترة طويلة من الزمن –
ومفاده "الكل يطاردنا ويريد أن يقضي علينا" – لم يعد يستدر العواطف،
كما أن النبوءات بحدوث معاداة عالمية للسامية توشك أن تتحول إلى أمر يتحقق
ذاتياً، وذلك أن: "سلوك إسرائيل الأرعن والإصرار على اعتبار أي نقد يوجه
إليها مظهراً من مظاهر معاداة السامية، بات الآن هو المصدر الأول لمشاعر العداء
لليهود في أوروبا الغربية وفي أجزاء كثيرة من آسيا." يساهم في الزيادة من
سعار هذه الحالة اليوم بعض أكثر أصدقاء إسرائيل موالاة لها والتزاماً بها. وكما
عبر عن ذلك الصحفي ومنتج الوثائقيات الإسرائيلي يوفال أبراهام، إن "سوء
الاستخدام المريع" للاتهام بمعاداة السامية من قبل الألمان يفرغ تلك التهمة
من معناها الحقيقي، وهو بذلك يصبح "مهدداً بالأخطار كل اليهود في جميع أنحاء
العالم." لم يزل بايدن يصر على استخدام الحجة الخطيرة التي تقول إن سلامة
اليهود في كل أنحاء العالم تتوقف على إسرائيل. وهذا ما دفع مؤخراً عزرا كلاين،
الكاتب في صحفية نيويورك تايمز، إلى القول: "أنا شخص يهودي. هل أشعر بأنني
أكثر أمناً؟ هل أشعر كما لو أن هناك معاداة أقل للسامية في العالم في هذا الوقت
بالذات بسبب ما يحدث هناك، أم أنه يبدو لي أن هناك تصاعد هائل في معاداة السامية،
وأنه حتى اليهود في أماكن بعيدة عن إسرائيل باتوا عرضة للأخطار بسبب ما يحدث داخل
إسرائيل؟"
لقد توقع الناجون من
المحرقة هذا السيناريو المدمر، كما اقتبست من أقوالهم آنفاً، إذ حذروا من الضرر
الذي يمكن أن يلحق بذكرى المحرقة بسبب تحويلها إلى أداة. فعلى سبيل المثال، حذر
بومان مراراً وتكراراً بعد حقبة الثمانينيات من أن مثل هذه الأساليب التي يمارسها
سياسيون لا ضمير لهم من مثل بيغن ونتنياهو إنما تضمن "نصراً لهتلر بعد موته،
وهو الذي لم يزل يحلم بتفجير صراع بين اليهود وبقية العالم." وأما أميري،
الذي أصبح يائساً في أعوامه الأخيرة بسبب "معاداة السامية المزدهرة"،
فناشد الإسرائيليين بأن يعاملوا بإنسانية حتى الإرهابيين الفلسطينيين، من أجل
التأكد من أن التضامن ما بين صهاينة الشتات مثله وإسرائيل "لا يصبح قاعدة
للتشارك بين طرفين محكوم عليهما بالهلاك في مواجهة النكبة."
لا يوجد الكثير مما
يُرجى في هذا الصدد من زعماء إسرائيل الحاليين. كان ينبغي أن يؤدي اكتشافهم لمدى
انكشافهم أمام حزب الله وكذلك حماس إلى أن يصبحوا أكثر استعداداً للمجازفة
بالدخول في تسوية سلمية تقوم على التنازل. إلا أنهم، وبفضل القنابل التي تزن 2000
رطلاً، والتي يغدقها عليهم بايدن، يسعون بجنون إلى مزيد من العسكرة لاحتلالهم لكل
من الضفة الغربية وقطاع غزة. مثل هذا الضرر الذين يلحقونه بأنفسهم هو الأثر بعيد
المدى الذي كان يخشى منه بوعاز إيفرون حينما حذر من مغبة "الاستمرار في ذكر
المحرقة ومعاداة السامية وكراهية اليهود في كل الأجيال." لقد كتب يقول:
"لا يمكن فصل القيادة عن الدعاية التي تروج لها بنفسها." وأضاف أن
الطبقة الحاكمة في إسرائيل تتصرف كما لو كانوا شيوخ "طائفة" تعمل في
"عالم من الأساطير والوحوش صنعته بأيديها"، وأنها "لم يعد بإمكانها
فهم ما الذي يجري في عالم الواقع" ولا فهم "العمليات التاريخية التي
تجد الدولة نفسها محشورة فيها."
بعد مرور أربعة
وأربعين سنة على كتابة إيفرون لهذا الكلام، بات أكثر وضوحاً أن رعاة إسرائيل
الغربيين ثبت كذلك أنهم أسوأ أعداء البلد، إذ ينشرون أجنحتهم في درجات أعمق من
الهلوسة. وكما قال إيفرون، تتصرف القوى الغربية ضد مصالحها، إذ تمنح إسرائيل
علاقة الأفضلية الخاصة، دون أن تعتبر إسرائيل نفسها مضطرة لأن تعاملهم بالمثل.
وبالتالي فإن "المعاملة الخاصة التي تمنح لإسرائيل، والتي يعبر عنها بالدعم
الاقتصادي والسياسي غير المشروط، أوجدت دفيئة اقتصادية وسياسية حول إسرائيل،
الأمر الذي عزلها عن الوقائع الاقتصادية والسياسية العالمية."
يهدد نتنياهو وعصبته
الأساس الذي يقوم عليه النظام العالمي، والذي أعيد بناؤه بعد الكشف عن الجرائم
النازية. حتى قبل غزة، كانت المحرقة تفقد موقعها المركزي في تصورنا للماضي
وللمستقبل. صحيح أن ما من جريمة تاريخية أخرى حظيت بنفس الاحتفاء، على مثل هذا
النطاق الواسع وبهذا الشكل الشامل. ولكن ثقافة التذكر المحيطة بالمحرقة راكمت
الآن تاريخها الطويل، وهو تاريخ يثبت أن ذكرى المحرقة لا تنبع ببساطة بشكل عضوي
من الأحداث التي وقعت في الفترة ما بين عام 1939 وعام 1945، بل كانت قد أنشئت،
أحياناً كثيرة بشكل متعمد، ولغايات سياسية محددة. والحقيقة أن إجماعاً ضرورياً
حول الأهمية العالمية للمحرقة بات عرضة للتهديد بسبب الضغوط الأيديولوجية التي
تمارس على ذكراها، والتي غدت مرئية بشكل متزايد.
بات معلوماً على نطاق
واسع بعد عام 1945 أن النظام النازي الألماني وعملاءه الأوروبيين قتلوا ستة
ملايين يهودي. ولكن ظلت هذه المعلومة المذهلة لسنوات عديدة لا تجد لها صدى
سياسياً أو فكرياً. طوال الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين لم يكن ينظر
إلى المحرقة باعتبارها جريمة منفصلة عن غيرها من الفظائع التي ارتكبت أثناء
الحرب: مثل محاولات إبادة السكان السلاف، والغجر، وأصحاب الإعاقات، والمثليين.
بالطبع، معظم الشعوب الأوروبية كان لكل منها أسبابها لعدم الوقوف ملياً عند قضية
قتل اليهود. فعلى سبيل المثال، كان الألمان مسكونين بمعاناتهم الخاصة بسبب ما
تعرضوا له من قصف واحتلال على يد قوات الحلفاء، ثم ما تعرضوا له من طرد جماعي من
أوروبا الشرقية. أما فرنسا وبولندا والنمسا وهولندا، التي تعاونت بحماسة مع
النازيين، فأرادت أن تقدم نفسها في صورة من قاوم ببسالة ضد الهتلرية. كانت هناك
العديد من الأمور الذي ظلت ولسنوات عديدة بعد انتهاء الحرب في عام 1945 تذكر بما
كان قائماً من تواطؤ فاضح. لقد حكم ألمانيا مستشارون ورؤساء جمهورية ممن كانوا
نازيين سابقين، بينما كان الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران عضواً في نظام فيشي.
وحتى عام 1992، كان يترأس النمسا كورت فالدهايم، وذلك على الرغم من الأدلة التي
تثبت ضلوعه في الفظائع النازية.
وحتى في الولايات
المتحدة كان هناك "صمت شعبي بل ونوع من الإنكار بخصوص المحرقة"، بحسب
ما روته إيديت زيرتال في كتابها "محرقة إسرائيل وسياسة الدولة" الصادر
عام 2005. لم يبدأ تذكر المحرقة إلا بعد مرور وقت طويل على انتهاء الحرب في عام
1945. وحتى في إسرائيل نفسها، ظل الوعي بالمحرقة محدوداً لسنوات بمن نجوا منها.
بل كان هؤلاء الناجون ينظر إليهم حينذاك بازدراء بالغ من قبل زعماء الحركة
الصهيونية، الأمر الذي يدهش الكثيرين حينما يتم ذكره اليوم. في البداية كان بن
غوريون يرى في صعود هتلر إلى السلطة "دعماً سياسياً واقتصادياً هائلاً
للمشروع الصهيوني"، ولكنه لم يكن يرى أن الرفات البشري الناجم عن معسكرات
الموت الهتلرية مادة تصلح لبناء دولة يهودية جديدة وقوية. قال بن غوريون:
"كل شيء عانوه طهر أرواحهم من كل خير" كما يوثق شاؤول فريدلاندر في
كتاب مذكراته "إلى أين تقود الذكرى"، والذي نشر في عام 2016. يذكر أن
شاؤول فريدلاندر واحد من أهم مؤرخي المحرقة، وقد غادر إسرائيل جزئياً لأنه لم
يتحمل رؤية المحرقة تستخدم ذريعة للإجراءات القاسية التي يعامل بها الفلسطينيون.
يذكر أن هذا الموضوع عومل بشيء من الازدراء بادئ ذي بدء من قبل العلماء المختصين،
ثم تُرك لمركز الذكرى والتوثيق المعروف باسم ياد فاشيم.
بدأت السلوكيات تتغير
مع انطلاق محاكمة أدولف آيكمان في عام 1961. في كتابه الصادر في عام 1993 بعنوان
"المليون السابع"، يروي المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف أن بن غوريون،
الذي اتهم من قبل بيغن وغيره من المنافسين السياسيين بانعدام الإحساس حين يتعلق
الأمر بالناجين من المحرقة، قرر الترتيب لعملية تنفيس وطني من خلال إجراء محاكمة
لمجرم حرب نازي. كان يأمل في تثقيف اليهود القادمين من البلدان العربية حول
المحرقة وحول العداء الأوروبي للسامية (حيث أن أياً منهما لم يكن مألوفاً لديهم)
والبدء بربطهم باليهود المنحدرين من أصول أوروبية فيما بدا بكل وضوح مجتمعاً
متخيلاً بشكل يعتريه النقصان. يمضي سيغيف في وصف كيف بنى بيغن على هذه العملية
وانطلق بها قدماً من خلال إيجاد وعي بالمحرقة بين أصحاب البشرة الداكنة من
اليهود، والذين طالما كانوا عرضة للامتهان العنصري من قبل مؤسسة الحكم التي يهيمن
عليها البيض. لقد داوى بيغن ما كانوا يعانونه من جراح الطبقة والعرق من خلال
وعدهم بالحصول على الأراضي التي سلبت من الفلسطينيين ومنحهم وضعاً اجتماعياً
واقتصادياً يرقى على وضع العرب الذين شردوا وأفقروا.
تصادف هذا التوزيع
للرواتب المرتبطة بالهوية الإسرائيلية مع تفجر سياسات الهوية في أوساط الأقلية
الثرية في الولايات المتحدة. وكما يشرح بيتر نوفيك بتفصيل مذهل في كتابه
"المحرقة في الحياة الأمريكية" والصادر عام 1999، لم تحتل المحرقة
مكانة مزدهرة في حياة يهود أمريكا حتى أواخر الستينيات، حتى أن عدداً قليلاً من
الكتب والأفلام تناولت الموضوع حتى ذلك الحين. بل إن فيلم "الحكم في
نورمبيرغ"، والذي صدر في 1961، تعامل مع القتل الجماعي لليهودي باعتباره
مشمولاً في الفئة الأكبر من الجرائم النازية. كما أن نورمان بودوريتز، الأب
الروحي للمحافظين الجدد من الصهاينة في الثمانينيات، لم يذكر شيئاً على الإطلاق
عن المحرقة في مقال له بعنوان "المفكر ومصير اليهود" نشر في المجلة
اليهودية "كومنتري" في عام 1957.
يذكر أن المنظمات
اليهودية التي أصبحت معروفة بتعقب ومراقبة ما يصدر من آراء حول الصهيونية، كانت
في البداية لا تشجع تخليد ذكرى الضحايا اليهود في أوروبا. كانت تسعى تلك المنظمات
جاهدة لتعلم القواعد الجديدة للعبة الجيوسياسية. وضمن تحولات الحرب الباردة،
والتي كانت أشبه بتحولات لون جلد الحرباء، انتقل الاتحاد السوفياتي من حليف قوي
ضد ألمانيا النازية ليصبح شراً شمولياً، وانتقلت ألمانيا من كونها شراً شمولياً
لتصبح حليفاً ديمقراطياً قوياً في مواجهة الشر الشمولي. وبناء عليه، حث محرر مجلة
"كومنتري" اليهود الأمريكان على تنمية سلوك واقعي بدلاً من السلوك
العقابي والانتقامي تجاه ألمانيا، التي غدت الآن ركناً من أركان "الحضارة
الديمقراطية الغربية."
هذا الإرباك الشديد من
قبل قادة السياسة والفكر في العالم الحر صدم عدداً كبيراً من الناجين من المحرقة
وأشعرهم بالمرارة. إلا أنهم لم يكونوا ممن يُنظر إليهم حينذاك باعتبارهم شهوداً
متميزين لا مثيل لهم على العالم المعاصر. أميري، الذي كان يكره "الحب السافر
للسامية " الذي تفشى في ألمانيا في حقبة ما بعد الحرب، لم يجد سبيلاً
للتعبير عن شعوره بالامتعاض إلا عبر مقالات كانت الغاية منها وخز الضمير البائس
للقراء الألمان. تجده يصف في واحدة من هذه المقالات التنقل عبر ألمانيا في منتصف
الستينيات. بينما كان يناقش الرواية الأخيرة لشاؤول بيلو مع الطبقة
"المهذبة" من مفكري البلد، لم يملك نسيان "الوجوه المتحجرة"
للألمان العاديين أمام أكوام من الجثث، وإذا به يكتشف أنه كان يضمر تحاملاً ضد
الألمان وموقعهم المرموق في "قاعات الأبهة في الغرب." ما مر به أميري
من تجربة "الوحدة المطلقة" أمام معذبيه من جلادي الغستابو دمر ثقته
بالعالم. ثم فقط بعد تحرره بدأ يتعلم "التعايش المشترك" مع بقية البشر
لأن "أولئك الذين عذبوني وحولوني إلى حشرة" بدوا كما لو أنهم يحرضون
على الازدراء. ولكن سرعان ما تحطم إيمانه العلاجي في "توازن أخلاقيات
العالم" جراء احتضان الغرب بعد ذلك لألمانيا، وما مارسه العالم الحر من
تجنيد شغوف للنازيين السابقين حتى ينخرطوا في "لعبة النفوذ" التي
يمارسها.
لربما أحس أمير بخيانة
أكبر لو أنه رأى مذكرة العاملين في اللجنة اليهودية الأمريكية في عام 1951،
والتي أعربت عن أسفها نظراً لأن "رؤية معظم اليهود إلى ألمانيا والألمان
مازالت محجوبة داخل سحب العاطفة القوية." يبين نوفيك أن اليهود الأمريكيين،
مثلهم في ذلك مثل المجموعات العرقية الأخرى، كانوا يحرصون على تجنب الاتهام بأنهم
مزدوجو الولاء، وكذلك الاستفادة من الفرص السانحة على نطاق واسع، والتي تتيحها
لهم أمريكا ما بعد الحرب. إلا أنهم غدوا أكثر انتباهاً لحضور إسرائيل أثناء
محاكمة آيكمان التي حظيت بالترويج المكثف على نطاق واسع، وكانت مسكونة بكثير من
الجدل. فلقد سلطت المحاكمة الضوء على حقيقة أن اليهود كانوا الهدف الأول لهتلر
وضحيته الأولى. ولكن فقط بعد حرب الأيام السبعة في عام 1967 ثم في حرب يوم
الغفران عام 1973، عندما بدت إسرائيل مهددة في وجودها من قبل أعدائها العرب، أصبحت
المحرقة، داخل إسرائيل وفي الولايات المتحدة، رمزاً للاستضعاف اليهودي في عالم
معاد، ويبدو أن عداءه أبدي. بدأت المنظمات اليهودية بعد ذلك في رفع شعار "لن
يتكرر أبداً" كوسيلة للضغط على صناع السياسة الأمريكيين من أجل خدمة المصالح
الإسرائيلية. تصادف ذلك مع الهزيمة المخزية التي منيت بها الولايات المتحدة في
شرق آسيا، فبدأت ترى في إسرائيل، التي بدت كما لو أنها لا تهزم، وكيلاً قيماً في
الشرق الأوسط، فراحت تغدق المساعدات على الدولة اليهودية. في المقابل، بدأت
السردية التي روج لها قادة إسرائيل والجماعات الصهيونية في أمريكا، ومفادها أن
المحرقة خطر محدق باليهود، حاضراً ووشيكاً، تشكل قاعدة للهوية الذاتية الجمعية
لكثير من الأمريكيين اليهود خلال حقبة السبعينيات.
بحلول ذلك الوقت أصبح
الأمريكيون اليهود هم الأقلية الأرقى تعليماً والأكثر ثراء في أمريكا، وفي نفس الوقت
غدوا وبشكل متزايد الأقل تديناً. ولكن في المجتمع الأمريكي شديد الاستقطاب طوال
ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حيث غدا الفصل العرقي بين الناس شائعاً في خضم
الإحساس العام بالخلل وبانعدام الأمن، وإذ تحولت الفاجعة التاريخية إلى بطاقة
هوية وعفة أخلاقية، ربط عدد متزايد من الأميركيين اليهود الأكثر ذواباً في المجتمع
أنفسهم بذكرى المحرقة وأبرموا علاقة شخصية بدولة إسرائيل، التي رأوا أنها مهددة
بالإبادة الجماعية من قبل المعادين للسامية. سرعان ما تحول التقليد السياسي
اليهودي المشغول بانعدام المساواة والفقر، وبالحقوق المدنية وبالبيئة، وبالدعوة
إلى نزع السلاح النووي، وبمناهضة الإمبريالية، إلى تقليد يتسم بالاهتمام الشديد
بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. في المدونات التي احتفظ بها منذ الستينيات
فصاعداً، يتقلب الناقد الأدبي ألفريد كازين ما بين التعجب والتهكم وهو يرسم
الملامح النفسية للهوية الشخصية التي ساعدت على إيجاد أكثر الدوائر ولاء لإسرائيل
في الخارج:
لسوف يتذكر الناس
الفترة الحالية من "النجاح" اليهودي باعتبارها واحدة من أعظم المفارقات
.... اليهود الذين وقعوا في المصيدة، اليهود الذين قتلوا. من تحت الرماد، كل هذه
الحسرة التي لا مهرب منها والاستغلال لقضية المحرقة .... إسرائيل باعتبارها صمام
الأمان لليهود، والمحرقة كتابنا المقدس الجديد، أكثر من مجرد كتاب للرثاء والندب.
كان كازين يتحسس من
الطائفة الأمريكية التابعة لإيلي ويزيل، الذي راح يؤكد على أن المحرقة غير قابلة
للفهم، غير قابلة للمقارنة، وغير قابلة للشرح، وأن الفلسطينيين لا حق لهم في
القدس. من وجهة نظر كازين، عثرت الطبقة المتوسطة للأمريكيين اليهود في شخص ويزيل "يسوع
المحرقة"، كبديل يملأ ما لديهم من فراغ ديني. لم يغفل عن قوة الهوية
السياسية المتشكلة لدى الأقلية الأمريكية بريمو ليفي أثناء زيارته الوحيدة إلى
البلد في عام 1985، قبل عامين من انتحاره. لقد أزعجه بشدة ما كان سائداً من
ثقافة استهلاك المحرقة في محيط ويزيل (الذي زعم أنه كان من أعز أصدقاء ليفي في
أوشفيتز: إلا أن ليفي لا يذكر أنه التقى به على الإطلاق)، وحيره ما كان يبديه
مضيفه الأمريكي من اهتمام بالغ بيهوديته، لدرجة أنه كتب إلى صديق له في تورين
يشتكي من أن الأمريكيين "علقوا نجمة داود" عليه. خلال محاضرة له في
بروكلين، سئل ليفي عن رأيه في السياسة الشرق أوسطية، فبدأ بالقول إن
"إسرائيل كانت خطأ من الناحية التاريخية." ضجت القاعة، وسادت الفوضى،
فاضطر مدير الجلسة إلى تعليق الاجتماع. في وقت متأخر من تلك السنة، قامت مجلة
كومنتري، التي باتت مناصرة بشكل فظ لإسرائيل، باستكتاب شاب يبلغ من العمر 24
عاماً، وكان هذا الشاب يطمح في الانتساب إلى المحافظين الجدد، حتى يشن هجوماً
شنيعاً ضد ليفي. باعترافه الشخصي، قال ليفي إن هذه البلطجة الفكرية (والتي أسف
عليها بمرارة كاتبها الذي غدا الآن من المعادين للصهيونية) ساعدت في إطفاء جذوة
"الرغبة لديه في الحياة".
تتجلى بوضوح في
الأدبيات الأمريكية الحديثة المفارقة في أنه كلما تباعدت المحرقة زمنياً كلما
تجسدت ذكراها بقوة أكبر في الأجيال الجديدة من الأمريكيين اليهود. ولكم صدمني
الاستخفاف وانعدام الوقار الذي عامل به إسحق باشيفيز الناجين من المحرقة في
روايته، التي سخر فيها بشدة بدولة إسرائيل وبمن يبالغون في التعبير عن حبهم
للساميين من الأمريكيين الأغيار. يذكر أن إسحق باشيفيز، الذي ولد في بولندا عام
1904، كان مثال الكاتب اليهودي. يبدو أن رواية "ظلال على نهر هادسون"
إنما صممت لإثبات أن القهر لا يحسن من السمة الأخلاقية. إلا أن الكتاب اليهود
الأصغر سناً والأكثر علمنة من سنغر بدوا غارقين فيما وصفته جيليان روز في مقالها
الكاسح حول "قائمة شندلار" بتقوى المحرقة". في مقال نشر في مجلة
لندن ريفيو أوف بوكس حول كتاب صدر في عام 2005 بعنوان "تاريخ الحب"،
وهو عبارة عن رواية من تأليف نيكول كراوس تدور أحداثها في إسرائيل وأوروبا
والولايات المتحدة، أشار جيمز وود إلى أن المؤلفة، التي ولدت في عام 1974، تمضي
كما لو أن المحرقة وقعت بالأمس فقط. وعن ذلك كتب وود يقول: "لقد غلفت يهودية
الرواية في خداع وتصنع مستمدان من ارتباط كراوس بقوة بأحداثها." مثل هذه
الحماسة اليهودية التي تكاد تشبه الأشعار الشعبية، تتناقض بشكل حاد مع كتابات
بيلو ونورمان ميلر وفيليب روث، الذين لم يبدوا اهتماماً عظيماً بظلال المحرقة.
كما أن التشبث القوي
بالانتماء للمحرقة صبغ، بل وقوض، كثيراً من الأعمال الصحفية الأمريكية حول
إسرائيل. ثم بالنتيجة، أدى دين المحرقة العلماني السياسي، وكذلك المبالغة في
الارتباط بإسرائيل منذ السبعينيات، إلى تشويه قاتل بحق السياسة الخارجية للراعي
الرئيسي لإسرائيل، أي الولايات المتحدة. في عام 1982، بعد وقت قصير من إصدار
الرئيس ريغن أمره لبيغن بالتوقف عن الهولوكوست في لبنان، التقى عضو شاب في مجلس
الشيوخ الأمريكي كان يعتبر إيلي ويزيل أستاذه ومرشده الكبير برئيس الوزراء
الإسرائيلي. بحسب ما دونه بيغن بنفسه عن اللقاء، وهو في حالة من الذهول، أشاد عضو
مجلس الشيوخ بالمجهود الحربي الإسرائيلي وتفاخر بأنه لو كان مكانهم لمضى إلى أكثر
مما وصلوا إليه، حتى لو كان ذلك يعني قتل النساء والأطفال. تفاجأ بيغن بكلمات جو
بايدن، الذي أصبح فيما بعد رئيساً للولايات المتحدة، فأجابه قائلاً: "لا يا
سيدي، حسب قيمنا، يحرم علينا إيذاء النساء والأطفال، حتى في الحرب .... إن معيار
الحضارة الإنسانية ألا نلحق الأذى بالمدنيين."
كان من شأن فترة طويلة
من السلام النسبي أن جعلت معظمنا يغفل عن المآسي التي سبقتها. عدد قليل من الناس
ممن هم على قيد الحياة اليوم يذكرون تجربة الحرب الشاملة التي اتسم بها النصف
الأول من القرن العشرين، والصراع بين القوى الوطنية والقوى الإمبريالية داخل
وخارج أوروبا، والاستنفار الأيديولوجي الهائل، وانطلاق الفاشية والعسكرة. ما يقرب
من نصف قرن من الصراعات الشرسة وأكبر الانهيارات الأخلاقية في التاريخ كشفت عن
الأخطار التي يشكلها عالم لم يعد فيه وجود لقيود دينية أو أخلاقية على ما يمكن
للبشر أن يفعلوه أو ما يجرؤون على فعله. المنطق العلماني والعلم الحديث اللذان
حلا محل الدين التقليدي لم يكشفا فقط عن عجزهما على تشريع السلوك البشري، بل
تورطا في أنماط جديدة وفعالة من القتل كما ثبت من أوشفيتز ومن هيروشيما.
في عقود إعادة الإعمار
التي أعقبت عام 1945، أصبح ممكناً ببطء الإيمان تارة أخرى بمفهوم المجتمع الحديث،
بمؤسساته كقوى تدفع نحو المدنية بشكل لا غموض فيه، بقوانينه كخط دفاع في مواجهة
النزعات الضارة. كان هذا الاعتقاد المبدئي مقدساً ومؤكداً من قبل تكنولوجيا
علمانية سلبية مستوحاة من التعرض للجرائم النازية، ومن هنا جاء شعار "لا، لن
يتكرر أبداً." ما لبثت الحاجة الملحة ما بعد الحرب أن اكتسبت شكلاً
مؤسساتياً مع قيام منظمات مثل محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية،
وإنشاء منظمات يقظة تدافع عن حقوق الإنسان مثل العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش.
ثم جاءت الوثيقة الكبيرة التي تم الإجماع عليها في سنوات ما بعد الحرب لتشكل
ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، تعبيراً عن المخاوف من
العودة إلى ماضي أوروبا بما فيه من صراعات عرقية. في العقود الأخيرة، وبينما
تبددت التصورات الطوباوية حول نظام اجتماعي واقتصادي أفضل، اكتسبت فكرة حقوق
الإنسان مزيداً من القوة والنفوذ من ذكريات الشر العظيم الذي ارتكب أثناء
المحرقة.
من الإسبان الذين
قاتلوا في سبيل عدالة تعويضية بعد سنوات طويلة من الدكتاتورية البشعة، إلى نضال
شعوب أمريكا اللاتينية، إلى أهل البوسنة الذين ناشدوا العالم حمايتهم من عمليات
التطهير العرقي التي شنها الصرب عليهم، إلى مطالبات كوريا بتعويض ضحايا
"نساء الراحة" الذين استرقهم اليابانيون أثناء الحرب العالمية الثانية،
تصبح ذكريات المعاناة اليهودية على أيدي النازيين هي القاعدة التي تقوم عليها
معظم توصيفات الأيديولوجيا المتطرفة والانتهاكات البشعة، ومعظم المطالبات
بالاعتراف بما ارتكب من جرائم بحق الإنسانية وتعويض ضحايا تلك الجرائم.
تساعد هذه الذكريات
على تحديد معنى المسؤولية، والذنب الجماعي، والجرائم ضد الإنسانية. صحيح أن
الانتهاكات مستمرة على أيدي من يتصدرون لفكرة استخدام السلاح وسيلة من أجل التدخل
لأغراض إنسانية، الذين اختزلوا حقوق الإنسان إلى الحق بألا يتعرض الإنسان للقتل
بشكل وحشي. إلا أن الريبة تصبح سيدة الموقف عندما تغدو الأنماط الصيغية للاحتفاء
بالمحرقة – مثل الرحلات التي تنظم إلى أوشفيتز متبوعة بلقاءات مودة وألفة مع
نتنياهو في القدس – ثمناً زهيداً للحصول على تذكرة الوقار من قبل السياسيين
المعادين للسامية والمحرضين على الإسلاموفوبيا، ولشخصيات من مثل إيلون ماسك. أو
حينما يمنح نتنياهو صفحاً أخلاقياً مقابل الحصول على الدعم لسياسيين معادين
للسامية بشكل سافر في أوروبا الشرقية، والذين يسعون باستمرار لإعادة تأهيل
الجلادين الذين أجرموا بحق اليهود في المحرقة. ومع ذلك، وفي غياب أي شيء أكثر
فعالية، تبقى المحرقة حدثاً لا يُستغنى عنه كمعيار لتقييم الحالة الصحية
للمجتمعات، سياسياً وأخلاقياً. يمكن لذكراها، رغم ما تتعرض له من سوء استخدام، أن
تظل وسيلة للكشف عن المزيد من أوجه الجور المخادع. عندما أنظر في كتاباتي الشخصية
حول المعجبين بهتلر من المعادين للمسلمين وتأثيرهم الخبيث على الهند اليوم،
يذهلني عدد المرات التي أشرت فيها إلى تجربة المعاناة اليهودية بسبب التحيز
والتحامل، بغرض التحذير من الهمجية التي تصبح واقعاً عندما تنتهك محرمات بعينها.
جميع هذه النقاط ذات
المرجعية العالمية – المحرقة كمقياس لكل الجرائم، ومعاداة السامية كأشد أشكال
التعصب فتكاً – تواجه خطر الاختفاء بينما يقوم الجيش الإسرائيلي بارتكاب المذابح
بحق الفلسطينيين ويجوعهم، ويمسح عن وجه الأرض ديارهم ومدارسهم ومستشفياتهم
ومساجدهم وكنائسهم، ويقصفهم ليجبرهم على التدافع نحو محتشدات أصغر، وأثناء ذلك لا
يتورع عن أن يندد متهماً بمعاداة السامية أو بمناصرة حماس جميع من يطالبونه
بالتوقف عما يرتكبه من جرائم، بدءاً بالأمم المتحدة ومروراً بمنظمة العفو الدولية
ومنظمة هيومان رايتس ووتش، وانتهاء بحكومات إسبانيا وإيرلندا والبرازيل وجنوب
أفريقيا والفاتيكان. تقوم إسرائيل اليوم بزرع الألغام في كيان الأعراف العالمية
التي أنشئت بعد عام 1945، والتي لم تزل تترنح منذ الحرب الكارثية على الإرهاب،
التي لم يعاقب من قاموا بشنها، مروراً بحرب فلاديمير بوتين في أوكرانيا. إن
القطيعة العميقة التي نشعر بها اليوم بين الماضي والحاضر إنما هي قطيعة في
التاريخ الأخلاقي للعالم منذ عام 1945 – وهو تاريخ لم تزل المحرقة منذ سنين عديدة
تشكل الحدث المركزي والمرجعية العالمية فيه.
مازال أمامنا المزيد
من الزلازل. لقد قرر السياسيون الإسرائيليون منع قيام دولة فلسطينية. وبحسب
استطلاع أخير للرأي فإن الأغلبية المطلقة (88 بالمائة) من اليهود الإسرائيليين
يعتقدون بأن حجم الضحايا الفلسطينيين مبرر. تمنع الحكومة الإسرائيلية وصول
المساعدات الإنسانية إلى غزة. وها هو بايدن يعترف الآن بأن عياله الإسرائيليين
مذنبون بارتكاب "قصف عشوائي"، ولكنه مستمر رغم ذلك في تزويدهم بالمزيد
ثم المزيد من المعدات العسكرية. في العشرين من فبراير (شباط)، سخرت الولايات
المتحدة للمرة الثالثة من الأمم المتحدة ومن رغبة معظم دول العالم في وضع حد
لحمام الدم في غزة. وفي السادس والعشرين من فبراير، وبينما هو يلعق مخروطاً من
المثلجات (البوظة)، تحدث بايدن عن حلمه في إنجاز وقف مؤقت لإطلاق النار، ولكن
سرعان ما أسقطت حلمه إسرائيل وحماس معاً. وفي بريطانيا، يبحث سياسيو حزب العمال
وكذلك سياسيو حزب المحافظين عن صيغ لفظية يمكن أن ترضي الرأي العام بينما توفر
غطاء للمذابح المستمرة في غزة. يبدو أمراً يستعصي على التصديق، ولكن الأدلة باتت
طامة: إننا نشهد نوعاً من الانهيار في العالم الحر.
في نفس الوقت، باتت
غزة، بما لا يحصى عدده من الناس الذين لا حول لهم ولا قوة، شرطاً أساسياً للصحوة
السياسية والأخلاقية في القرن العشرين – تماماً كما أن الحرب العالمية الأولى
كانت شرطاً أساسياً للصحوة في الغرب. ويبدو بشكل متزايد أن أولئك الذين اهتزت
ضمائرهم وأفاقوا من سباتهم بسبب مأساة غزة هم وحدهم القادرون على إنقاذ المحرقة
من نتنياهو وبايدن وشولتز وسوناك، وهم وحدهم القادرون على إعادة عولمة وتعميم
مغزاها الأخلاقي. هم وحدهم يمكن أن يوثق بهم لكي يستعيدوا ما أطلق عليه أميري
توازن الأخلاق العالمية. كثير من المحتجين الذين تغص بهم الشوارع في مدنهم
الأسبوع تلو الأسبوع ليس لديهم علاقة مباشرة مع ماضي أوروبا مع المحرقة. إنهم
يحكمون على إسرائيل بناء على أفعالها في غزة بدلاً من طلبها المقدس باسم المحرقة
ضمان الأمن الدائم. وهؤلاء سواء علموا عن المحرقة أو لم يعلموا، فإنهم يرفضون
الدرس الدارويني الاجتماعي الفظ الذي تستخرجه إسرائيل منها – ألا هو بقاء مجموعة
من الناس على حساب مجموعة أخرى. إن الذي يحفزهم في ذلك هو الرغبة البسيطة في
الحفاظ على المثل التي بدا أنها مرغوبة عالمياً ما بعد عام 1945: احترام الحرية،
والتسامح مع الآخرين مهما اختلفت معتقداتهم وأنماط حياتهم، والتضامن مع المعاناة
الإنسانية، والإحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الضعيف والمضطهد. يعلم هؤلاء
الرجال والنساء أنه إذا كان هناك درس يمكن أن يستفاد من المحرقة، فهو أنها
"لا ينبغي أن تتكرر بحق أحد": إنه شعار النشطاء الشجعان من الشباب
الذين ينتمون إلى مجموعة "صوت يهودي من أجل السلام".
من الوارد أنهم سوف
يخسرون. لربما لم تكن إسرائيل، بما تعانيه من اضطراب عقلي بسبب هوسها بمسألة
البقاء، "الرفات المر" الذي وصفه جورج ستاينر – وإنما النذير بمستقبل
العالم الذي يعاني من الإفلاس والإنهاك. إن الدعم الذي تحظى به إسرائيل من شخصيات
يمينية متطرفة مثل خافيير ميلي في الأرجنتين ويائير بولسونارو في البرازيل، ورعايتها
من قبل بلدان أفسد الحياة فيها القوميون البيض – الولايات المتحدة وبريطانيا
وفرنسا وألمانيا وإيطاليا – يمكن أن يفيد بأن عالم الحقوق الفردية، والحدود
المفتوحة، والقانون الدولي، آخذ في الانحسار. من الممكن أن تنجح إسرائيل في تطهير
غزة عرقياً، بل وحتى الضفة الغربية كذلك. هناك الكثير جداً من الأدلة على أن قوس
العالم الأخلاقي لا ينحني باتجاه العدالة، لأن باستطاعة الرجال الأقوياء جعل ما
يرتكبونه من مذابح يبدو ضرورياً وعملاً صالحاً. ليس صعباً على الإطلاق تصور خاتمة
ينتصر فيها العدوان الإسرائيلي.
يهيمن الخوف من الهزيمة
الكارثية على أذهان المحتجين الذين يقاطعون خطابات بايدن في حملته الانتخابية
والذين يتعرضون للطرد من حضرته ليخلو المجال أمام جوقة ترفع عقيرتها بهتاف
"أربع سنوات أخرى". عدم القدرة على تصديق ما يرونه كل يوم في مقاطع
الفيديو الواردة من غزة، والخوف من مزيد من التوحش الذي لا قبل لأحد بكبح جماحه،
يطارد أولئك المنشقين الذين يقومون يومياً بسلخ أعمدة السلطة الرابعة في الغرب
علهم يقتربون من السلطة الغاشمة. ويبدو أنهم من خلال اتهامهم لإسرائيل بارتكاب
إبادة جماعية يتعمدون تقويض الرأي "المعتدل والمعقول" الذي يضع البلد
وكذلك المحرقة خارج التاريخ الحديث للتوسع العنصري. وقد لا ينجحون في إقناع أحد
داخل التيار السياسي السائد والمتصلب في الغرب.
ولكن حتى أميري نفسه،
عندما عبر عن امتعاضه أمام الضمير البائس في زمنه، لم يكن إطلاقاً يتحدث بهدف
الإقناع. بل كما قال "إنما ألقي بكلمتي عشوائياً في الميزان، أياً كان
وزنها." أما وقد أحس بالغدر والخذلان من العالم الحر، فقد راح يبث إحساسه
بالامتعاض "من أجل أن تصبح الجريمة واقعاً أخلاقياً لدى المجرم، من أجل أن
ينجرف نحو حقيقة ما يرتكبه من فظائع." لكن يبدو أن من ينتقدون إسرائيل بصخب
اليوم يرجون تحقيق ما هو أكثر من ذلك بقليل. فمقابل الأعمال الهمجية، والدعاية
التي تحذف وتضلل، هناك ما لا يحصى عدده من الملايين ممن يعلنون الآن، في الساحات
العامة وعبر وسائل الإعلام الرقمي، عن امتعاضهم وسخطهم. ما من شك في أنهم بذلك
يجازفون بتحويل حياتهم إلى جحيم. ولكن لعل غضبهم وحده يخفف، الآن على الأقل، من
شعور الفلسطينيين بالوحدة المطلقة، ولعلهم يقطعون مسافة ما باتجاه استعادة ذكرى
المحرقة.