فظاعة جرائم مليشيا
الدعم السريع في
السودان، جعلت الناس يستعجلون الجيش لحسم هذه المليشيا، فالجرائم التي ارتكبتها لا يكاد المرء يحصيها ولا يعدها، ولا يتخيلها حتى منتجو أفلام الرعب. وربما الجيش كان أكثر استعجالا لحسم المعركة، لكن المعطيات على الأرض كانت تشير إلى أن المعركة ستطول، طالما كان الهدف الأسمى الحفاظ على أرواح المواطنين والجنود والبنى التحتية.
وبالضرورة، يتطلب ذلك خطة عسكرية احترافية ثمنها كثير من الوقت. ولعل حديث قادة الجيش كان منذ بداية المعركة التي اندلعت في 15 أبريل الماضي، بأن المعركة ستطول وأن الاستراتيجية التي اعتمدوها تختلف عن النهج والطريقة التي تقاتل بها مليشيا الدعم السريع؛ فالأخيرة قوات قليلة التدريب ولا تهتم قيادتها بحياة وسلامة عناصرها، فهم عندهم مجرد كم، مثله مثل أي عتاد عسكري. وقد مرت المعركة بالنسبة للجيش بثلاث مراحل؛ الأولى: مرحلة امتصاص الصدمة، حيث المليشيا فاجأت الجميع بمغامرتها غير المحسوبة النتائج. المرحلة الثانية: التمركز وأخذ وضعية الدفاع، أما المرحلة الأخيرة: هي مرحلة الهجوم، وهي المرحلة التي بدأ الجيش يحقق فيها انتصاراته.
وفي كل هذه المراحل، كان هدف الحفاظ على أرواح المواطنين والجنود والبنيات الأساسية مقدما على هدف تحقيق أي نصر محدود. وخلال هذه المراحل قصد الجيش كذلك استنزاف قوة وعتاد المليشيا، وربما الدعم الخارجي قد أسهم في طول أمد الاستنزاف. بيد أن ما ساعد الجيش كثيرا، قرار المليشيا الهجوم على ولاية الجزيرة، وسحب جزء كبير من قواتها من الخرطوم لدعم ذلك الهجوم. وولاية الجزيرة منطقة سهلية مترامية الأطراف، وليس فيها أهداف عسكرية كثيرة، ولذا تورطت المليشيا فيها واستنفدت قوتها العسكرية، دون أن يكون في مقابل ذلك تحقيق أهداف عسكرية ملموسة.
ومع مرور الوقت وطول أمد
الحرب التي اعتقدتها المليشيا وداعموها أنها ستكون خاطفة، واجه الدعم الخارجي مشاكل لوجستية. ومع تحسن أداء الجيش كمّا ونوعا في استخدام الطيران التقليدي والمسيّر، تمكن الجيش من استهداف مخازن وقوافل الدعم الخارجي، فضلا عن انشغال دولة ممر الدعم بأزمة سياسية داخلية مسلحة. كما أن تورط المليشيا في جرائم الحرب وتصاعد الإدانات الدولية لها، جعل منها تنظيما بلا مشروعية أخلاقية، وغير ذي جدوى ليتبنى أي مشروع سياسي لحكم البلاد، وكل ذلك قلل من تدفق الدعم الخارجي.
على صعيد آخر، ظل الجدل في صالونات السياسيين يدور حول الحرب والسلام، تدفع به الأجندات الخارجية قبل الداخلية. ولأن عادة السياسيين الجدل، والجدل عندهم مطلوب في ذاته لإخفاء الحقائق والقفز فوقها، أحيانا بمهارة وكثيرا من الأحيان بسذاجة، وصولا إلى تعكير المياه للصيد فيها صيدا آثما. ولذلك فإن موضوع الحرب والسلام ظلوا يشعلون فيه عمدا جدلا يفوق جدل (البيضة أولا أم الدجاجة)، حتى يظن الظّان أن منشأ جدل الحرب والسلام هو عوالم غارقة في الميتافيزيقيا. ولا يعلم السياسيون أنه حتى معضلة جدل (البيضة أم الدجاجة أولا)، قد وصل فيها العلماء إلى حقائق قد تحبط هذا الجدل الفلسفي، غير أنهم لا يزالون في غيهم سادرين.
فلو أن بعض السياسيين في السودان يجادلون لشيء في نفس يعقوب بأن السلام يسبق الحرب، بمعنى أنه لو قامت حرب ما فعلى المُعتدى عليه أن يوقفها، ويلقي سلاحه ليأتي السلام!. هذه هي الدعوى المرتبكة التي يرفعها بعضهم من خارج الحدود تحت شعار (لا للحرب). وفي هذا قلب للمنطق ورغائبية عاصفة متوثبة. فالحرب التي تُفرض على شعب آمن مطمئن وهو الطرف المُعتَدى عليه، لا يعقبها سلام إلا برد المعتدي وتدمير قدرته على الإيذاء وارتكاب الجرائم. إذن في هذه الحالة، فإن كان بيض الدجاج سبق الدجاج، فإن ذلك يتوقف على طبيعة البيض، وسنقول إنها بيضة دجاجة إن كانت تحتوي على دجاجة بداخلها، فإذا ما وضعت الحمامة بيضة وفقست معطية خفاشا، فإنها ستكون بالتأكيد بيضة خفاش، لا بيضة حمامة. (والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء!) كما قال الشاعر محمد الفيتوري في قصيدته (ياقوت العرش).
لقد وضعت المواثيق الدولية قانونا للحرب وحق الحرب؛ حيث إن قانون اللجوء إلى الحرب هو القواعد القانونية الدولية التي تنظم اللجوء إلى القوة، أما قانون الحرب، فهو القواعد القانونية التي تحكم العلاقة بين المتحاربين، في أثناء الحرب وما بعدها. السلام هو أكثر من مجرد غياب العنف. ففي حين أن الفترة التي تلي توقف القتال والعودة إلى الحياة الطبيعية أمر مرحب به، فإن الاستقرار غالبا ما يخفي حقيقة أن المظالم أو الأسباب الأخرى للنزاع لم تتم معالجتها، وقد تطفو إلى السطح مجددا.
ولذلك، لا بد أن يرتكز بناء السلام على التعامل مع الأسباب الكامنة وراء اقتتال الناس فيما بينهم في المقام الأول، إلى جانب دعم المجتمعات لإدارة خلافاتها ونزاعاتها دون اللجوء إلى العنف. فاﻟﺴﻼم ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻘﺮار واﻻﻃﻤﺌﻨﺎن اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺸﻪ المجتمع واﻷﻓﺮاد وﻳﺘﻤﺘﻊ اﻟﻔﺮد ﻓﻴﻪ ﺑﺣﻘﻮﻗﻪ كافة، ويمارس واﺟﺒﺎﺗﻪ واﻟﺘﺰاﻣﺎﺗﻪ دون ﺿﻐﻂ أو إﻛﺮاه. ويتحول السلام لاحقا لفعل إيجابي حين يعيش جميع أفراد المجتمع في أمن وسكينة، دون خوف أو تهديد بالعنف، وليس ذلك طوعا أو بالتمني، إنما بحماية القانون الصارم وبأنظمة عدالة موثوقة. وهنا يتحقق السلام المجتمعي الذي هو خلاصة سلام سياسي واقتصادي وفكري وعقائدي، فهو الاتفاق على خطوط عريضة تشكل مبادئ، وتتعمق فتصبح قيما تقبلها مختلف الشرائح والطبقات. ويتمحور السلام المجتمعي حول تطوير العلاقات الشخصية والجماعية والسياسية البناءة، عبر الحدود العرقية والدينية والطبقية والقومية والعنصرية. وهو كذلك التفاهم الجوهري على القضايا التي تكتسب أهمية قصوى، والاعتراف بها وتطبيقها، وجعلها أشبه بالسلوك اليومي.
(الشرق القطرية)