نشرت مجلة "red pepper" ملخصا لكلمة ألقتها الكاتبة الصحفية الكندية
ناعومي كلاين، تحدثت فيها عن اصطفاف الطبقات السياسية العالمية خلف الدفاع عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع
غزة.
وقالت كلاين إن الرؤية المشتركة في دفاع الطبقات السياسية العالمية عن جرائم الاحتلال، تنطلق من الإيمان بالتفوق العرقي.
وتاليا الترجمة الكاملة لملخص كلمة ناعومي كلاين في مهرجان "ما زلنا ننهض" الذي أقيم بالرابع والعشرين من شباط/ فبراير الماضي.
عندما طلب مني صديقي أسد رحمن المساعدة في اختتام هذا اللقاء، كانت تعليماته تقضي بأن أتحدث عن الوضع السياسي اليوم، وأن أفعل ذلك بطريقة "ملؤها الأمل". إنه لطلب صعب، ولست متأكدة تماماً من أنني سوف أتمكن من تلبيته. دعونا نرى ماذا يمكننا أن نفعل بدلاً من ذلك.
المرة الأخيرة التي زرت فيها بيروت، كان ذلك في أواخر شهر سبتمبر (أيلول)، فقط قبل خمسة شهور، ولكنها خمسة شهور تبدو كما لو كانت مئة سنة.
مئة سنة والآباء والأمهات
الفلسطينيون يبكون على أطفالهم الذين قتلوا أو جرحوا. مئة سنة من المدارس المقصوفة والمستشفيات المداهمة والمساجد المنتهكة. مئة سنة من الجنود الإسرائيليين الذين يوثقون جرائمهم عبر تيك توك. مئة سنة من الفتيان الذين نُشئوا ودُربوا على الفاشية، يعترضون طريق الشاحنات المحملة بالطعام.
مئة سنة من الدعوات العلنية لإبادة أكثر من مليوني شخص يرزحون في الأسر وتحت نير الاحتلال ويحاصرون داخل ما يشبه الغيتو. مئة سنة من الخطط التي يعبر عنها بابتهاج تارة لتحويل غزة إلى موقف للسيارات، وتارة إلى بلدة إسرائيلية شاطئية، وتارة إلى متحف، وتارة إلى مسلخ، وتارة إلى منطقة محايدة. مئة سنة من الأشخاص الذين يطردون من وظائفهم لمجرد قولهم الحق، ومئة سنة من البلداء أدعياء الخبرة والاختصاص، ومئة سنة من منظمات غير حكومية لا تجرؤ على التلفظ بعبارة إبادة جماعية. مئة سنة من القرارات الدولية المطالبة بوقف إطلاق النار، ولكنها أفشلت أو نقضت.
إن لم يكن الأمل فليكن الالتزام
كل هذا يجعل من العسير على المرء إلقاء خطاب مملوء بالأمل. ما أنا قادرة عليه، وما أشعر بالحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى، هو العزم والالتزام. الالتزام تجاه الحركات التي يمثلها هذا المؤتمر. حركات تطالب حقاً بالمساواة والعدالة – العدالة الاجتماعية والعرقية والجندرية والاقتصادية والبيئية. حركات توجد في كل بلد. حركات نمت بسرعة هائلة على مدى الشهور المريعة الأخيرة. نمت ليس فقط من حيث حجم المسيرات والاعتصامات، ولكن أيضاً من حيث العمق في تحليلها. نمت من حيث رغبتها في مد الجسور عبر الحركات وعبر القضايا، وفي رغبتها في تسمية الأنظمة الكامنة.
إذا كانت هذه الشهور قد علمتنا أي شيء، فهو أن هذه الحركات هي كل ما نملك. في بلدكم كما في بلدي، لا يوجد قيادة أخلاقية سوى القيادة التي تنبثق عن القواعد. كل ما لدينا هو بعضنا البعض.
علينا أن نتوقف إزاء ذلك، لأنه جزء من الرعب والدوار الذي نُبتلى به في لحظتنا التاريخية هذه. حملة إسرائيل للإبادة في غزة ليست أول إبادة جماعية في التاريخ المعاصر، ليست هذه هي المرة الأولى التي تتبنى فيها القوات الفاشية علانية أيديولوجيا عنيفة تقوم على الاعتقاد بالتفوق العرقي، مع ما يبدو أنه التزام بلا حدود للقضاء على شعب بأكمله ترى فيه تهديداً سكانياً.
الوحدة المميزة للنخب السياسية عالمياً
ما هو استثنائي، على الأقل منذ حقبة الاستعمار المفتوح وما ارتكبه من إبادات جماعية، هو الوحدة التي يحفزها مثل هذا الذبح في أوساط النخب السياسية في شمال المعمورة، وإلى حد ما فيما يليه. وذلك أنه بعد صعود الفاشية في أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي، حظيت بدعم داخل طبقاتنا السياسية، ولكنها حظيت كذلك بمعارضين شديدين.
إلا أن ذلك بات أقل بكثير اليوم. في كل أنحاء ما يمكن أن يعتبر طيفاً سياسياً، من اليمين المتطرف المسعور إلى يسار الوسط معسول الكلام، شهدنا عناصر قوية تضع جانباً خلافاتها الحزبية وتوحد صفوفها لكي تدعم هذه الجرائم ضد الإنسانية. بدلاً من أن يفتت طبقتنا السياسية، لقد وحد تكرار الفاشية هذا بين مكوناتها: دونالد ترامب يتفق مع جو بايدن، ريشي سوناك يتوافق مع كير ستارمر، إمانويل ماكرون مع مارين لوبان، جاستين ترودو مع جورجيا ميلوني، فيكتور أوربان مع نارندرا مودي.
إذا كانت جدران وسياجات إسرائيل المسلحة وطائراتها المسيرة لم تصمد ولم تجد نفعاً، فماذا يخبرنا ذلك عن أوهام بلداننا حول السلامة والتحكم؟
وبناء عليه يجب علينا أن نسأل: ما هو بالضبط ذلك الذي يتفقون جميعهم عليه؟ ما الذي يتحدون من خلفه؟ ما الذي يدافعون عنه عندما يتحدثون عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؟
أخشى أن القول إنهم يتحدون دفاعاً عن دولة واحدة كلام أبسط من اللازم. هم يفعلون ذلك بالطبع، ولكنهم أيضاً يتوحدون دفاعاً عن منظومة عقدية مشتركة. في خضم واقع الأبارتيد الاقتصادي العالمي وتسارع الانهيار المناخي، إنهم يتوحدون على رؤية تقوم على التفوق العرقي تستهدف تحقيق السلامة والأمن للقلة. هذه الرؤية هي الجانب الآخر لرفضهم المستمر بأي شكل من الأشكال للتعامل مع الأسباب الحقيقية من وراء هذه الأزمات: الرأسمالية، النمو الذي لا نهاية له، الاستعمار، العسكرة، التفوق العرقي للبيض، والأبوية.
كما تعبر عن ذلك شيرين سيكالي، "نحن في عصر النكبة وفلسطين هي النموذج."
اظهار أخبار متعلقة
القبة الحديدية الإسرائيلية – نموذج أمني عالمي
وإسرائيل نوعاً ما رائدة. فعلى مدى عقود الآن، ومنذ التخلي عن أي ذريعة للمضي في عملية سلام، تسعى إسرائيل إلى تحقيق أمنها وتصورها للأرض من خلال منظومة معقدة من السياجات والجدران ذات التقنيات العالية ومن خلال درعها المسمى القبة الحديدية. يفاخر مصممو هذا الدرع بقدرته على اعتراض الصواريخ والقذائف والتصدي لكل التهديدات. غدت منظومة الرقابة والإحاطة ذات التقنيات العالية حقيقة مادية فوق جغرافيا معينة – إنها نمط حياة بالنسبة للإسرائيليين كما هي نمط موت بالنسبة للفلسطينيين منذ فترة طويلة سبقت السابع من أكتوبر.
ولكن بالإضافة إلى كونها كل هذه الأشياء، تعتبر القبة الحديدية كذلك نموذجاً – نسخة شديدة التكثف ومحكمة الخناق من نفس النموذج الأمني الذي تتبناه حكومات شمال المعمورة، نفس الحكومات التي وقفت خلف إسرائيل دعماً لها في حملة الإبادة الجماعية التي تشنها. إنه نموذج تنعم فيه حدود الدول الثرية – والتي أثرت من خلال حملات الإبادة الجماعية الاستعمارية التي ارتكبتها – بالحماية من خلال نسخها الخاصة بها من القبة الحديدية.
وذلك، في واقع الأمر، لأن القبة الحديدية عالمية الطابع. فهي تمتد على طول حدودنا المحمية بالقلاع، بما هي مزودة به من سياجات وجدران فتاكة ومراكز اعتقال، بل وتمتد لتشمل كذلك معسكرات أوفشور لاحتجاز المهاجرين، بما في ذلك السفن الموبوءة بالأمراض وحرس الحدود الذي يكلف بمراقبة المراكب وهي تغرق في البحر المتوسط.
وتخترق القبة الحديدية أعماق بلداننا ومدننا التي تعاني من انعدام المساواة والغلاء الفاحش. ثم هناك الميزانيات الضخمة التي تخصص لأجهزة الشرطة التي تناط بها مهام إخلاء الحدائق العامة من خيام المشردين الذين تركوا بلا مأوى، وكذلك قمع المشاركين في الاعتصامات ضد مشاريع الوقود الأحفوري المدسوسة بلا إذن. ونفس هذه القوات تجدها على أهبة الاستعداد لقمع الموجة التالية من الثائرين المطالبين بالعدالة الاجتماعية، وهي موجة يعلمون أنها قادمة لا محالة. كما أن القبة الحديدية تتكون من شبكات المراقبة التي تتعقب الوشاة وتشن الحرب على الصحفيين الذين تسول لهم أنفسهم قول الحقيقة حول حروبنا وحول تجسسنا، والذين غدا جوليان أسانج أبرز رموزهم.
القوة تقرر ما هو الحق
كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل، تتعلق هذه القبة الحديدية العالمية بالاعتقاد بحق الدول في استخدام عنف الدولة الوحشي من أجل تحقيق المطالب البشرية في حقوق الإنسان وتوفير احتياجات الحياة الأساسية. إنه الالتزام بإخفاء الناس الذين يقعون خارج دوائر الدولة المراقبة عن كثب والمصنفة عنصرياً – وذلك باعتقالهم وحبسهم، وبدفعهم بعيداً جداً، وبإغراقهم في اليم. وتتعلق كذلك بالحق في اللجوء إلى القوة الفتاكة رداً على من يقاومون الظلم.
إلا أن القبة الحديدية الإسرائيلية متطرفة نظراً لصراحة أيديولوجيتها القائمة على القومية العرقية وعلى نظرية التفوق العرقي. ومع ذلك علينا أن نعرف أن إسرائيل إنما شكلت نفسها على نمط ما كان متبعاً من قوانين استعمارية عنصرية، وانطلاقاً من منطق وممارسات مستعارة من عهود مبكرة من الاستعمار الذي أقيم في بلداننا ومن قبلها. إن إسرائيل نفسها نموذج: فمنذ البداية، شيدت القبة الحديدية حتى تصدر.
نحتاج لأن نفهم ذلك، لأنه في يوم السابع من أكتوبر، ذلك النموذج وتلك القبة انهارا أمام أعين العالم. لقد بدد هجوم حماس – الوحشي والمريع – بشكل كامل وهم الأمن والسلامة للقلة الذي يجسده هذا النموذج. وذلك أرعب ليس فقط الإسرائيليين، ليس فقط حكومة نتنياهو – بل لقد هز حكوماتنا نفسها حتى النخاع.
نظراً لأن جدران وسياجات إسرائيل المسلحة بكثافة وقبتها الحديدية لم تصمد ولم تجد نفعاً فماذا يقول ذلك عن أوهام بلداننا حول السلامة والتحكم؟ يطرح ذلك السؤال التالي: إذا كانت القبة الحديدية الإسرائيلية قد فشلت، فماذا عن غيرها من القبب الحديدية؟ هل سوف تفشل هي الأخرى في مواجهة التهجير الجماعي للناس، والذي يتمخض عن الحروب التي لا تنتهي وجرائم إشعال الحرائق المدمرة للبيئة، والسياسات الاقتصادية المتوحشة؟
أعتقد أن هذا الخوف هو الذي جعل حكوماتنا تتوحد بهذا الشكل غير المسبوق من أجل التأكيد على منظومتها العقدية المركزية: إن القوة تقرر ما هو الحق، وإن من يملك أحدث الأسلحة وأعلى الجدران سوف ينجح في احتواء المليارات من البشر المشردين والبائسين وفي التحكم بهم. هذه المنظومة العقدية، أكثر من أي شيء آخر، هي التي تساعد في تفسير لماذا انضمت حكومات العالم الثري إلى إسرائيل في سعار انتقامي بمثل هذه الحماسة التي لا تهتز، ولماذا رفض كثيرون، على مدى شهور من هذا الذبح المستمر، حتى الدعوة إلى أقل القليل: وقف دائم لإطلاق النار.
اظهار أخبار متعلقة
أمن فقاعات الترف المذهبة
إنهم يعون أن حملة إسرائيل المستمرة بلا هوادة هي أيضاً شكل من أشكال التواصل الجماعي – أنها رسالة. والرسالة يتم إرسالها ليس من قبل حكومة إسرائيل وإنما من قبل كل حكومة تبارك هذا الهجوم – بالكلمات، بالأصوات، وباستخدام حق النقض في الأمم المتحدة، بالصور التذكارية، بالأسلحة، بالمال، وبالاعتداءات المحلية على حركة التضامن مع فلسطين. والرسالة التي يتم نشرها في غاية البساطة: إن فقاعات السلامة والترف النسبي المذهبة، والمنتشرة في أرجاء عالمنا، المقسم بقسوة والذين يسخن بسرعة، لسوف تتم حمايتها بأي تكاليف، بما في ذلك العنف الذي يصل إلى حد الإبادة الجماعية.
في كثير من الأجزاء المنهوبة من كوكبنا، تم فهم هذه الرسالة البغيضة بكل وضوح. فهذا غوستافو بيترو، الرئيس الشجاع لدولة كولومبيا، يفكك شيفرتها مباشرة. فقد صرح في شهر أكتوبر، بعد بضعة أيام من هجوم إسرائيل، بما يلي:
"إن همجية الاستهلاك القائم على موت الآخرين يفضي بنا إلى ارتفاع غير مسبوق في الفاشية، وبالتالي إلى موت الديمقراطية والحرية. إنها الهمجية، أو 1933 العالمية."
كما رأى أيضاً في هجوم إسرائيل، وفي الدعم الذي حظي به من الحكومات في الشمال ومن القوى اليمينية في الجنوب، استشرافاً لمستقبل مشترك، فكتب يقول: "ما نراه في فلسطين سوف يسبب أيضاً المعاناة في العالم، معاناة شعوب الجنوب، بينما يدافع الغرب عن استهلاكه الزائد ومستواه المعيشي المترف، والقائم على تدمير المناخ والجو ... مع العلم أن ذلك سوف يؤدي إلى نزوح جماعي من الجنوب إلى الشمال".
يذكرنا بيترو بأن هذا النظام "على استعداد للرد بالموت" من أجل "الدفاع عن فقاعة الاستهلاك لدى الأثرياء فوق الكوكب وليس من أجل إنقاذ البشرية، والتي تعتبر غالبيتها قابلة لأن يُتخلص منها، تماماً كأطفال غزة".
يستحق تصريح بيترو أن يُقرأ كاملاً، فهو تاريخي. ولكني سوف أتجاوزه إلى الخاتمة، حيث يقول: "إننا نتجه نحو الهمجية ما لم نغير السلطة. حياة البشرية، وخاصة شعوب جنوب المعمورة، تتوقف على الطريقة التي تختار بها البشرية السبيل للتغلب على الأزمة المناخية... وما غزة إلا تجربة أولى لاعتبارنا جميعاً قابلين لأن يُتخلص منا".
كل ما لدينا هو بعضنا البعض
ماذا بقي ليقال؟ ربما فقط ما يلي: نُستضاف هنا اليوم من قبل "الحرب على الفقر"، والحرب على الفقر هي الحرب الوحيدة التي تستحق أن تشن، ويجب علينا أن نشنها. إما أن نحول آلة الموت هذه إلى أداة يتم من خلالها توزيع أكثر عدلاً ومساواة للثروة ضمن حدود إمكانيات الأرض – وهو ما أطلق عليه كثيرون في اجتماع اليوم "صفقة خضراء عالمية جديدة" – أو سوف يجرفنا جميعاً هذا الكابوس.
كل ما لدينا هو بعضنا البعض. كل ما لدينا هو حركاتنا والقوة التي نبنيها معاً. كل ما لدينا هو التضامن، وعزيمتنا، وحسمنا، والتزامنا الأخلاقي المشترك بنفاسة الحياة.
بهذا يمكننا أن نبني عالماً بدون قبب حديدية، بهذا يمكننا أن نستحق الأمل.
حديث ناعومي كلاين يبدأ عند الدقيقة 21:30: