منذ خمسةٍ وسبعين عامًا – وبالتحديد عام 1949م - صدرَت رواية يوسف السباعي "
أرض النفاق" التي تُعَدّ إحدى أشهر رواياته بفضل تحويلها إلى فِلمين سينمائيين. وكما يعرف كلُّ من قرأها، فإنّ أحداثها تدور في العهد الذي كُتِبَت فيه، أي في نهاية أربعينيات القرن الماضي، والشواهد على ذلك كثيرةٌ من النّصّ، فمنها تطرُّقه إلى صراع السُّلطة بين الأحزاب المصرية، واستقرار ثالوث الفقر والجهل والمرض في قطاعاتٍ عريضةٍ من الشعب المصري، لكنّ أهمّ هذه الشواهد على الإطلاق تعرُّض الرواية للقضية الفلسطينية ونكبة عام 1948 والموقف العربي المتخاذل في أعقاب النَّكبة. لكنّ المدهش أنّ القضايا الاجتماعية والسياسية التي تناولَتها الرواية مازالَت حيّةً نتنفّس روائحها الخبيثة إلى الآن.
فما زال الثالوث اللعين يَفتك بالطبقات الدنيا من المصريين، ومازال الفساد الحكومي يسمّم حياتهم، وإن كانت الحياة الحزبية قد توارَت منذ ما يربو على سبعين عامًا، ولا تطلّ برأسها إلا لِمامًا وعلى استحياءٍ، ومازال الكيان الصهيوني منتعشًا في الجسد العربيّ كورمٍ خبيثٍ لا سبيل إلى استئصاله. أي أنّ النصّ بعد انقضاء هذا الزمن لم يفقد دواعي كتابتِه، ومازال يختزن بين دفّتيه الكثير من أسباب الضحك حتى البكاء.
المدهش في الجو العام للرواية أنّ فكرتها الأساسية خياليةٌ سحريةٌ، تدور حول وجود تاجرٍ يبيع الأخلاق لِمَن يريد، ويكيلُها بالمَدى الزمنيّ الذي يريد المشتري أن يجرّب الخلُق المُراد خلالَه، فلكَ أن تشتري مروءةً تكفيك عشرة أيامٍ أو شجاعةً مدى الحياة، وهكذا. هذا في الوقتِ الذي تنغمِس فيه الأحداث في طين الواقع المصريّ تمامًا، فالبطلُ الرّاوي يذهب إلى الحسين ويتعرّض للاحتيال من قِبَل رجُلٍ وامرأته يلبسان ملابس الفلّاحين، ويدخل دهاليز محترفي التسوُّل، ويُعاين مظاهر الفقر المُدقع والجهل وتفشّي الأمراض المُعدِية كما يعاين الفساد السياسي في أعلى مستوياته وأدناها. وباختصارٍ فإنّنا أمام عملٍ ينتمي إلى الواقعية السحرية، وأظنُّه بذلك عملًا رائدًا على الصعيد العربيّ. ولا يكاد يعكّر صفو هذا الانتماء التصنيفيّ الأدبيّ إلا تدخُّل كاتبنا بين الحين والآخَر ليخاطب القرّاء مباشَرةً، على نحوٍ قد يعتبره البعض وعظيًّا، فضلًا عن كونه يكسر دائرة التخييل ويُعيد القارئ إلى الوعي بأنه أمامَ نصٍّ أدبيٍّ لا حقيقةٍ مسرودةٍ، إلا أنني أرى في ذلك شكلًا من أشكال الاتصال الوثيق بين الكاتب وتراثه العربيّ النثريّ الذي كان يسوق الحكمة في ثنايا قَصَصه المخيِّل ويقدّم لها أحيانًا أو يختمها بتدخُّلٍ مباشِرٍ يكرِّس الغرضَ الأخلاقيّ أو الحِكميّ الذي يريد الكاتب أن يأخذ بيد قرّائه إليه.
ولا يفوتنا أنّ كاتبنا قد مهّد للأحداث تمهيدًا يجعلنا نتوقّع أن يكون البطل مستغرَقًا في حُلمٍ طويلٍ يُفيق منه في نهاية الرواية، فالبداية وجبة غداءٍ دسمةٌ يُغفي إثرَها على الأريكة الموضوعة في شُرفة بيته، ثمّ ينتبه من إغفاءته ويقرّر أن يبدّل ملابسه ويَخرج ليتجوّل قُرب البيت، ليُلقي به الحظّ في مواجهة مَتجر الأخلاق الموعود. كما أنّه يهيّؤنا بعد ذلك لتلقّي الفكرة الخياليّة، حين يقول عن حانوت الأخلاق إنه لم يَرَه من قبلُ في ذلك الطريق رغم تعوُّده السيرَ فيه، وإنه قد دهش لأنّ البقعة التي أُقيم فيها الحانوت مقفرةٌ لا يكاد يمرُّ بها إنسان، وبذلك أسَّس أرضية الرواية في تخوم الغرائبيّة.
لكنّه في الفقرة الأخيرة من الرواية يخاطبُنا مباشَرةً قائلًا: "كنتُ أنوي أن أختمها كما يختم كُتّاب القصة عادةً قصصهم الخيالية على أنها حُلمٌ، وعلى أنّي فتحتُ عينيّ فوجدتُ نفسي راقدًا على الأريكة في الدار، ولكن يخيَّل إليَّ أنّ ما بها من حقائق قد طغى على ما بها من خيالٍ، حتى بِتُّ أربأ بها – وهي صيحةٌ خالصةٌ منطلِقةٌ من أعماق صدري- أن تكون مجرَّد حُلم." هكذا يحاول التملُّص من قبضة المألوف، في الوقتِ نفسه الذي يُطلق فيه العِنان لقريحته الغنيّة لكَي تجود بما عندها دون إقامة اعتبارٍ لتقاليدَ صارمةٍ تحبس النصَّ في إطارٍ تصنيفيٍّ محدَّد.
الاتّصال بالتراث والانغماس في طين العامّية:
نلاحظ في الفصل الأوّل أنّ الراوي البطل يتحدث عن سُلوكه في تناوُل الطعام ساخرًا، فيقول: "كأني الحَجّاج في قوله (لا يُقَعقَع لي بالشِّنان ولا يُغمَز جانبي كتَغماز التَّين)"، وهذا بعد أن يتناصّ مع بيت معلّقة امرئ القيس الأشهر فيقول: "فأنا في الغَداء صائلٌ جائلٌ مِكَرٌّ بلا فَرٍّ مُقبلٌ بلا إدبار." وفي الفصل الثاني وهو يحاول النزول من سلّم الحافلة إلى الأرض يقتبس قول عمرو بن معديكرِب:
"أنِل قدمَيَّ ظَهرَ الأرضِ، إنّي .. رأيتُ الأرضَ أثبَتَ منكَ ظَهرا".
وفي السادس يقتبس قول حافظ إبراهيم:
"مررتُ على المروءةِ وهي تبكي .. فقلتُ علامَ تنتحبُ الفتاةُ؟
فقالت كيف لا أبكي وأهلي .. جميعًا دون خَلق اللهِ ماتوا؟"
وبعد ذلك بقليلٍ، في مَعرِض حديثه عن شغفه بجارته الحسناء التي تجرّأ على دخول بيتها بفضل مسحوق الشجاعة، يقتبس بيت شِعرٍ لمحمد السباعي قائلًا:
"وانهَبْ من اللذّات جَهدَكَ واعلَمَنْ .. أنّ القُبورَ عديمةُ اللذّاتِ".
إلى غير ذلك من الاقتباسات. وفي تقديري أنّ هذا الحُضور الكثيف للتراث وللُّغة الشِّعرية (العالية) يَخدم غرضَين، أولُهما أنه يقِف في مواجهة الواقع المتردّي والظّروف المنحطّة التي تصِفها الرواية، والتي اختار لها كاتبُنا أن تطلَّ من خلال المفردات العامّية الدّارجة، فتاجر الأخلاق مثَلًا يردُّ على نصيحة البطل بتناوُل مسحوق الصبر ليصبر على سخافات الزبائن، قائلًا: "أوَتظنُّ أنني مازلتُ في انتظار نصيحتِك؟ طبّاخ السمّ بيدوقُه..."، ثمّ يقول سائق الحافلة للبطل حين يراه واقعًا في الأرض: "لمّا انت خايب كده بتتشعبط ليه؟"، ويقول البطل ساردًا تفاصيل شِجاره مع السائق فيما بعد: "أوّل ما فعلتُه أنني (لَهَفتُه مقصّ)". وهكذا يطّرد التقابُل بين طرفَي اللغة النقيضَين من أول الرواية إلى آخرِها، فيتأسّس بذلك محورٌ مهمٌّ من مَحاور الإضحاك، حيث لا يكاد القارئ يَعتاد أحد الطرفَين مسترسلًا في السَّرد أو الحِوار، حتى يَقطع عليه كاتبُنا هذا الاعتيادَ ويَلفتُه إلى الطبيعة الأداتيّة للُّغة، فهي محضُ آلةٍ في يد الكاتب، تقومُ بما يريدُه هو منها، ثمّ كأنّها تتعطّل أحيانًا فتَنتج عن تعطُّلها تلك العثراتُ العامّية. أمّا الغرض الثاني في رأيي فهو أنّ كاتبَنا يؤكّد أنه يَنظر إلى تلك اللغة بوَصفِها المَثل الأعلى الذي يُجلُّه ويراه الأصل الجدير بالاحتفاء والتمثُّل والنَّسج على منوالِه، فهو بذلك تكريسٌ لانتماءٍ ثقافيٍّ مبثوثٍ في أسلوب السّباعيّ.
مقدّمات الفصول/ محاوراتٌ أفلاطونيّةٌ قصيرة:
هي سطورٌ مختارةٌ من الحِوار بين الشخصيات أو من الأحاديث المنفردة لأحدها أو الحديث الداخلي الذي يدور في نفس الراوي. فمِن ذلك تصدير الفصل الثاني "رجلٌ شُجاع": "ما الشجاعة؟ هل هي ذلك الشيء الذي يمكن تركيزه في النهاية في إحساس الإنسان بعدم خشية الموت والترحيب بلقائه؟ إذا كانت تلك هي الشجاعة، فأنا بلا شكٍّ رجُلٌ شُجاع." وتصدير السادس: "حيّا اللهُ الجُبنَ، فما رفعَ مَنار القضيلة غيرُه. إنّ أفضل خَلق الله أجبنُهم." والعاشر: "أيها الناس لا تحزنوا. كيف تحزنون على شيءٍ وأنتم لا شيء؟" إلى قوله: "كيف يحزن ضائعٌ على ضائعٍ؟ وهالكٌ على هالكٍ؟" إلخ. والشاهد أنّ هذه المقدّمات كأنّها الأسئلةُ التي تتردّد في بدايات محاورات أفلاطون، أو الافتراضاتُ التي ينطلِق منها سُقراط أو أحدُ تلاميذه لتُفنَّد أو تُثبَت في ثنايا المحاورة. لكنّ كاتبَنا لا يحذو حذو أفلاطون رغم ما قد يُتَّهم به من وعظيّةٍ، فمازال هناك متّسَعٌ للجدَل حول كلّ سؤالٍ أو افتراضٍ ساقَه في مقدّمات فصولِه. والمهمّ في هذا الصدَد أنه يَدفعنا إلى تأمُّل الخُلُق الذي درَجنا على أخذِه مأخذ المسلَّمات دون أن نتساءل عن كُنهِه. فكُنه الشجاعة موضوعُ التصدير الأوّل، وهو أمرٌ مهمٌّ كما نكتشف في ثنايا الفصل، فما اعتبرَه الراوي شجاعةً في ذلك الفصل قد أوردَه مواردَ الهَلاك وجرّأه على الوقوع في أمورٍ ربما كان من الأفضل أن يتجنّبها. أمّا الافتراضُ في التصدير الثاني فهو مستفزٌّ لكلّ عقلٍ يقرأ الرواية، فلا يلبث أن يُراجع كلَّ سلوكٍ فاضلٍ حرص عليه ليصل إلى قَراره: أكان مبعثُه الجُبن عن مواجهة المجتمَع أو إحداث أمورٍ غير مألوفةٍ، أم أنّ الأمرَ بخلاف ذلك؟!
لكننا في النهاية لسنا بصدد كتابةٍ فلسفيةٍ خالصةٍ، وإن كانت فلسفة الأخلاق في رأيي تُعَدُّ رافدًا مهمًّا من روافد النصّ، غير أنّ كاتبَنا يَترك لنا أن نقرر لأنفسنا إجاباتِ ما طرحَه من أسئلةٍ، رغم عدم تحرُّجه من إثبات مواقفِه بلا موارَبة.
ومن الأسئلة التي أرى أنّها مدفوعةٌ بمَيلٍ فلسفيٍّ هنا، ذلك السؤال الذي تُثيرُه حكايةُ الفأر (شُولَح) الذي يربّيه تاجر الأخلاق، والذي أخذ يأكلُ حُبوب الأخلاق الفاضلة دون رقابةٍ، ثمّ خرجَ إلى الدنيا فأرًا فاضلًا فكاد يتعرّض للتهلُكة لأنه كفّ عن خُبث الفئران وما هي فيه من السرِقة، فلم يجد ملجأً إلا حانوتَ الأخلاق! هنا يَبرز سؤال الحتمية الأخلاقية. فالأخلاق مدفوعةٌ – حسبّ هذه الحكاية الجانبية- بأولويّات المخلوق الحيّ، وإن كانت السرِقة والمكر والجُبن ضروريّةً للبقاء على قيد الحياة، فإنها تكون لها اليدُ العُليا في المعاملات. فهل الأمرُ على هذه الشاكلة في المجتمَع الإنساني؟ إنّ هذا يعني أنّ الإنسان ليس إلا حيوانًا مدفوعًا بغرائزِه محكومًا بهرَم احتياجاتِه. ويَبقى بعد ذلك المجالُ متّسِعًا ليقرر كلُّ قارئٍ إجابتَه. كما يبقى النصُّ في جُملته ملهِمًا لمَن يتعرّض له، مثيرًا للأسئلة التي ليس ثَمّ إجابةٌ نهائيّةٌ عنها بحُكم طبيعة موضوعاتها المتفلّتة الخالدة.
فِلم "أخلاق للبيع" – تحويراتٌ باتّجاه الخِفّة، وإسقاطٌ تامٌّ لموضوع النكبة:
من إنتاج أفلام عزيزة أمير ومحمود ذي الفقار، وإخراج الأخير، ظهر هذا التجسيد السينمائي الأول للرواية بعد صدورها بعامٍ واحدٍ، أي عام 1950. كتب السيناريو والحوار أبو السعود الإبياري، وجاء الفِلم من بطولة محمود ذي الفقار وفاتن حمامة وشكوكو وميمي شكيب والراقصة كيتي وعلي الكسّار.
وقد تعامل أبو السعود الإبياري مع الرواية بوَصفها كومًا من العناصر الحكائية المتاحة للاختيار من بينها، وترتيبها وفق رؤيةٍ جديدة. فمن ذلك أنّ البطل/ الراوي في نصّ يوسف السباعي بعد أن يتناول مسحوق المروءة يقرر مساعدة طالبٍ جامعيٍّ قريبِه يَعجز والدُه عن تسديد مصروفات دراسته، فيَذهب إلى بيت قريبِه هذا ويُعطيه من ماله ما يكفي لتسديد المصروفات، ويخلع بذلته وقميصه ويناوله إيّاهما، ليقف بالملابس الداخلية أمام قريبِه وامرأتِه وأبنائهما، وبعد أن يَضحك منه الأطفال يصرّ ربُّ الأسرة ألّا يَخرج الرجُل من بيته هكذا، وينتهي الأمر بأن يَخرج البطل مرتديًا قميص نوم السيدة الذي يلبسُه زوجُها لأنه ليس لديه جلبابٌ يسترُه من شِدّة الفقر! والمهمّ أنّ الإبياري قد استعان بفكرة عودة البطل إلى بيته بقميص نومٍ نسائيٍّ، ونشوب مشاجَرةٍ بينه وبين امرأته وحماته تتهمانه فيها بالخيانة مع امرأةٍ أخرى، ويحوِّرُ هذه الفكرة، فيَجعل البطل في الفِلم يعود إلى بيته حاملًا باقة وردٍ لزوجتِه، لكنه يصطدم على مَدخل العِمارة بجارته الراقصة التي تحمل كومةً من ملابسها، فيتبعثر الورد وكومة الملابس، ويُضطرّ البطل لإعادة ترتيبهما فيُدخِل في غمرة ارتباكِه بعضَ ملابس الجارة في باقة الورد وفي جيوب بِذلته، ولا يلبث أن يُخرج حمّالة صدرها وجوربها نتيجةً لارتباكٍ آخَر أمام الزوجة والحماة فتثور المشاجَرة. ويبدو لي أنّ هذا التحوير الذي أجراه الإبياريّ أقرب إلى الحِفاظ على صورة البطل المكتمِل الرجولة (أحمد/ محمود ذي الفقار)، فضلًا عن اجتناب محاذير
السينما المحافِظة على نحوٍ ما. وهو من جانبٍ آخَر تحويرٌ يَنطق باحترافيّة الإبياريّ الذي يستطيع أن يطوِّع أيَّ نصٍّ روائيٍّ ليَخدم مشروعه السينمائيّ الفكاهيّ المبنيّ على آليات الإضحاك التقليدية المتوارَثة عن الكوميديا ديلّارتي. لقد كان الإبياريّ يَكتبُ نصّه السينمائيّ واضعًا نُصب عينيه أهدافًا تبدو محددةً سلَفًا، يَعرف أنها مضمونةٌ ومجرَّبةٌ في إضحاك الجمهور، ويقتصِر عملُه على الرواية على انتقاء عناصر من سردها لتَخدم هذه الأهداف.
ومِن ذلك أيضًا خَلقُ الإبياريّ لشخصية الصديق (بلبل/ شكوكو)، فرغم أنّ بناء الرواية أصلًا كوميديٌّ يدفع القارئ أحيانًا إلى الضحك ملء قلبه، وهي بالتالي لا تبدو في حاجةٍ إلى تنفيسٍ كوميديٍّ إضافيٍّ، إلا أنّ الإبياريّ بدا مخلِصًا للكوميديا، فأراد بشخصية الصديق تعزيز الإضحاك. وربما كان هذا الاختيار بالاشتراك مع المُخرج والبطل محمود ذي الفِقار، فكان في وجود شكوكو شكلٌ من أشكال التعزيز لحضور البطل الوسيم، فضلًا عن قَدرٍ من الاعتماد على رصيد كلّ ممثّلٍ وتخصُّصه المعروف لدى الجمهور، وربما كذلك يكون مرَدُّ خَلق هذه الشخصية إلى قِلّة ثقةٍ بقدرة البطل على انتزاع قَدرٍ مناسبٍ من الضحك يضمن نجاح الفِلم، رغم غَمس الأحداث في كوميديا الموقف.
ومن شواهد إيثار السلامة والجُنوح إلى الوَصفات السينمائية المضمونة أنّ ظهور تاجر الأخلاق (الحاج حبهان/ علي الكسّار) ينتهي في الفِلم بأن يعترف – صادقًا أو غير ذلك- بأنّ بضاعته زائفةٌ وأنه أوحى إلى أحمد وبلبل بما في نفسيهما أصلًا من أخلاق. ويبدو هذا أشدّ انسجامًا مع الميل الاجتماعيّ الأساسيّ، ومع قواعد العقل المسلَّم بها، ما يضع الفِلم في مواجهة الرواية التي لا يُجحَد انتماؤها إلى الواقعية السحرية.
وأخيرًا، فقد آثر فريقُ صناعة الفِلم السلامة كذلك بحذف الموضوعات الشائكة التي انطوَت عليها الرواية، فلا صراع في الفِلم بين الأحزاب، وليس ثَمّ إشارةٌ إلى فسادٍ حكوميٍّ ولا فقرٍ مُدقعٍ منتشرٍ بين طبقات المصريين الدنيا، ولا ذِكر للقضية الفلسطينية، ولا هجومَ على الجامعة العربية التي وصل الأمر بيوسف السباعي في الرواية إلى أن جعلَ بطلَه يستبدلُ بلافتتها "الأمانة العامّة للجامعة العربية" لافتةَ "الخيانة العامّة"، فضلًا عمّا كالَه لأمينها العامّ الأوّل (عبد الرحمن عزّام) من سخريةٍ مريرةٍ، دون أن يَذكر اسمه صراحة. والحاصلُ أنّ الفِلم جاء تلبيةً لحاجةٍ متأصّلةٍ لدى صنّاع السينما وقتذاك إلى إنتاج نصوصٍ سينمائيّةٍ تجذبُ المُشاهِد بخِفّتها، إضحاكًا (شكوكو) وإغراءً (الراقصة كيتي) وترفيهًا متحررًا من الطموح إلى إثارة الأسئلة الجِذرية والعميقة.