لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش
الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال
يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..
صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة
والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال
والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف
دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم
الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية
على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها..
الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه
المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم
قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما
المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..
الفلسفة تؤسس نظرية التاريخ
لم يكن التاريخ أبدا أحد العلوم الفلسفية الستة التي كانت تنقسم إليها
في التصنيف الأرسطي لأن المنطق كان يعتبر أرجانون العلوم أي أداتها التعييرية للتواصل
في نسبة الميزان للتبادل وليس أحدها (1)
1 ثلاثة للعلوم النظرية (الطبيعيات والرياضيات
والميتافيزيقا أو الإلهيات)
2 وثلاثة للعلوم العملية (الأخلاقيات والاقتصاديات
والسياسيات)
لم يصبح التاريخ علما فلسفيا إلا مع ابن خلدون في حضارتنا ثم في حضارة
الغرب الحديثة بعد ذلك. ولا يعني ذلك أنه لم
يكن موضوع درس في الفكر الإنساني إذ من خلال العمران الإنساني من المؤرخين وخاصة مؤرخي
الأنظمة الحاكمة وتوالي الدول. لكن ذلك لم يكن من البحوث الفلسفية بالمعنى الذي يتضمنه
المتن الفلسفي لأن موضوعه لا يمكن أن يكون
كليا بل هو عيني وجزئي (2).
لكن لما بدأت الفلسفة تؤسس نظرية التاريخ بتردد بين ما بعد الأخلاق الروحية
(هيغل) وما بعد الطبيعة المادية (ماركس) نكصت الفلسفة بالتخلي عن رؤية كنط النقدية
(إلغاء مفهوم الشيء في ذاته بوصفه مفهوما حدا لقدرات العلم) التي ألغت ابستمولوجية المطابقة بين العلم الإنساني
والأشياء في ذاتها فاقتضت وجود ما وراء الظاهرات التي لا يستطيع العلم تجاوزها وذلك
لتأسيس الإيمان بالمسلمات وتأسيس شروط الأخلاق (3).
إن الحكمين المسبقين اللذين يقول بهما أصحاب هذه القراءة التي حالت دحضها
هما بالذات الإبستمولوجيا الساذجة القائلة بالمطابقة بين العلم وموضوعه والقائلة بوحدة
العالم الدغمائية العري عن كل ما يتعالى عليه. لكن موضوع
القرآن الرئيسي رغم كونه ليس
تاريخيا من حيث طبيعته المتعلق بالمتعالي عن المحسوس لا يمكن أن يتحقق إثباته إيجابا
أو نفيه سلبا من دون أن يحدث ذلك في التاريخ. ومن ثم فرؤيته الإبستمولوجية لا يمكن
أن تكون قائلة بابستمولوجية المطابقة ولا كذلك بوحدة العالم سواء كان طبيعيا أو روحيا
وذلك هو موضوع أخوات سورة هود خاصة وعلة ما شيب رأس الرسول أي مبلغ الحيرة الوجودية
التي عاشها(4).
وبذلك فرسالة القرآن الكونية تعرض نوعين من الحوار:
1 ـ الأول حوار مباشر بين الرب (المرسل) والإنسان
(المرسل إليه). وهذه هي العلاقة التي تفسدها سلطتا الوسيطين اللاشرعين اللذين ألغاهما
القرآن أي الكنسية روحيا والحكم بالحق الإلهي سياسيا.
2 ـ الثاني حوار غير مباشر لكونه يمر بالعلاقة
التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان مع الطبيعة ومع التاريخ وهي العلاقة التي تمثل رهانات
الصراعات بين البشر حول الثروة والتراث والمنازل التي تتولد عنها مصدرا للتنافس بينهم.
فالفكر الإنساني عرف نوعين من الأرشيتاكتونيك (العلم الرئيس) أحدهما هو
الميتافيزيقا في علاقة بالطبيعة وما بعدها خاصة والثاني في علاقة بما بعد الأخلاق في
علاقة بالتاريخ وما بعده خاصة، والقرآن يستعملهما كليهما للدلالة على أنه لا واحدة
منهما بكافية لفهم شروط الوجود الإنساني أو قابلة لأن تتصور من الثانية. وما هو حديث
في الفلسفة هو أنها في الغاية اختارت تقديم الأرشيتاكتونيك التاريخية وما بعدها على الأرشيتاكتونيك الطبيعية
وما بعدها.
وفعلا فإن الفلسفة لم يعد أساسها ما بعد طبيعي كما كان عليه الأمر في
العصرين القديم والوسيط بل صار أساسها ما بعد الأخلاق. وقد بدأ ذلك في الغرب مع ديكارت
عمليا (5) وهو كذلك في الشرق منذ نزول القرآن (6) .
ورغم أن ديكارت وصف تأملاته بكونها ميتافيزيقية فإن أساس فلسفته ليس علم
الطبيعة بل هو بالأحرى إثبات وجود الله ضامنا لوجود الحقيقة ضد خداع الشيطان (الجني
الشرير) أولا ثم قدرة الذكاء الإنساني على إدراكها بل هو يذهب إلى أن مبادئ العقل الفطرية
تنتسب إلى خيار إلهي وليست ضرورة طبيعية.
إن الفلسفة لم يعد أساسها ما بعد طبيعي كما كان عليه الأمر في العصرين القديم والوسيط بل صار أساسها ما بعد الأخلاق. وقد بدأ ذلك في الغرب مع ديكارت عمليا (5) وهو كذلك في الشرق منذ نزول القرآن
لذلك ففلسفة سبينوزا وخاصة فلسفة هيغل هما اللتان نكصتا إلى السذاجة الإبستمولوجية
القائلة بالمطابقة ولنفس الدغمائية الوجودية القائلة بوحدانية العالم في رؤية الفلسفة
القديمة والوسيطة.
لذلك فإنه بوسعنا أن نقول إن القراءة التي تستند إلى رد نص القرآن إلى
سياقه الاجتماعي والتاريخي وإلى التناص ليست إلا التطبيق الحرفي لهذه الرؤيتين غير
النقديتين لإبستمولوجيا المطابقة وأنطولوجيا وحدانية العالم الخالي مما يتعالى على
الدنيا (7).
الهوامش:
(1) ـ المنطق أرجانون. وكونه أبرجانون لا يعني أنه ليس علميا بل هو يعني
أنه شرط كل علم بمعنى أنه جزء منه لأنه يتعلق بنظام صورته. وهو من ثم جزء من الميتافيزيقا
ليس بوصفها أحد العلوم بل بوصفها كما ترجم العرب معنى الارشيتاكتونين أي العلم الرئيس
المشروط في كل علم لأنه متعلق بشكله أولا وبتأسيس الولياتته أو مسلماته التي يرد تعليلها
إلى علم اسمى منه وفي الأخير إلى الميتافيزيقا التي تؤسس العلاقة بين الأبستمولوجي
والاكسيولوجي والانطولوجي. وبعبارة أوضح فالعلم الرئيس يتمثل في التأسيس الذاتي أولا
بوصفه مؤسسا لما عداه بتحديد ما تتسلمه منه وتستغني عن تأسيسه لأن كل علم أدنى يتأسس
في علم أعلى. ولما حاول ابن خلدون تأسيس علمه اعترف بأنه يخل بهذا المبدأ أي إنه اعطى
لعلمه منزلة الميتافيزيقا من حيث كونه مؤسسا لذاته أولا ولمجالات التخصصات التي قسمها
إلى نوعين علم العمران البشري وعلم الاجتماع الإنساني بعد أن أسسها في نظرية الإنسان
ونوعي دوره في الحياة كما جاء في عنوان المقدمة أي من حيث مستعمر في الأرض (علم العمران
البشري) ومستخلف فيها (علم الاجتماع الإنساني).
(2) ـ أرسطو وكتاب الشعر والرأي في التاريخ: فعنده الادب أقرب إلى الفلسفة
والعلم من التاريخ لأنه على الأقل يتكلم في الكلي الممكن ولا يقتصر على العيني الذي
لا يمكن علمه. (كتاب الشعر الفصل التاسع).
(3) ـ النقد الكنطي والمسلمات. وذلك هو قصده بالتخلي عن اليقين الوهمي في العلم
المحيط ليبقي محلا للإيمان بوضع المسلمات الثلاث التي لا بد منها لتحرير الأخلاق من
أوهام الميتافيزيقا: حرية الإنسان وخلود النفس ووجود الله. ولا معنى لخلود النفس في
الدنيا لأنها مائتة ولا إمكانية لحرية الإنسان إذا كان مثل الكائنات العادية خاضعا
للضرورة ولا حاجة لرب في عالم الحرية والخلود من دون حاجة الإنسانية للعدل التام في
الحكم الأخروي .
(4) ـ بعد التاريخي قبل ما بعد الطبيعي في القرآن: فالبعد الموجب يدرس الخلقي
والسياسي دون إفساد الديني. والبعد السلبي يدرس مفسدي الدين. وهذا الفساد يهدف إلى
تأسيس السلطتين الاستبداديتين أي السلطة الدينية المستبدة (الكنسية) والسلطة السياسية
المستبدة (الثيوقراطيا أو سلطة الحكم بالحق الإله.
(5) ـ ديكارت والضمانة الإلهية. وهي شرط الخروج
من الانطواء لأن الكوجيتو لا يكفي للقيس عليه ما لم يكن ديكارت قد اثبت بالتضايف بين
محدودية علمه ولا محدودية العلم المحيط الذي يقتضي وجود إله لا يخادع مثل الشيطان فلا
يكون ما يدركه الإنسان من الوجود ا لخارجي خداعا من الشيطان بل هو ناتج عن إله ضامن
للحقيقة.
(6) ـ يكفي أن يتخلى المنتسبون إلى هذه المدرسة عن رؤيتيهما الدغمائتين
حتى يكون بوسعهم بعض الشك على الأقل في يقينهم الدغمائي الذي بلغ عدم التسامح الحاقد.
فبعضهم يذهبون إلى حد الزعم بأن الدين الإسلامي بمقتضى خيالهم الذاتي فيتحول كلامهم
إلى تبشير مضاد للإسلام حربيا لصالح الإلحاد المتعصب.
(7) ـ لقد نقص هيغل إلى ابستمولوجية تلغي الإضافة
النقدية الكنطية. فسبينوزا بمقتضي وحدة الوجود الطبعانية التي يقول بها وهيل بسبب وحدة
الوجود الروحانية يؤسسان كلاهما فلسفتهما بالاعتماد على ابستمولوجية المطابقة وانطولوجية وحدة العالم العري عن كل تعال ما بعدي.
فهما لا يؤمنان إلا بعالم واحد هو الدنيا وينفون وجود أي شيء ما وراءها
إذ يقول هيغل لا وجود لما هناك وراء ما هنا وأن التاريخ هو الحكم النهائي. لكن القرآن لا يكتفي بمطالبتنا بالإيمان
بوجود ما وراء العالم بل هو يتكلم على تعدد العوالم المثيلة لعالمنا الدنيوي وهي ذات
أبعاد فلكية. فاليوم في أحدها مدته تقدر بـ50 ألف سنة من سنوات عالمنا الأرضي. والمهم
ليس معرفة إن كان ذلك حقيقي أم لا بل أن نفهم أنه يمتنع أن نثبت أنه كاذب. فنحن لا
نعلم شئيا من ذلك رغم كوننا نتوهم أننا نعتقد أن العالم الموجود الفعل حقا هو عالمنا
الشاهد.